فلنتدبر أهمية الوعي بالزمن، جعلتُ فداءكم،

وكل عام وأنتم بألف خير وطيب

حساب الربح والخسارة في مفكرة الزمن

فراس حج محمد /فلسطين

[email protected]

منذ بدأ وعيي يتشكل ويدرك أهمية الزمن الحقيقي الذي يعيشه الإنسان في هذه الحياة، صرت معنيا بإحصاء الربح والخسارة للأيام التي نعيشها على المستوى الفردي والجماعي، فحياة الإنسان ليست أوراقا تُنْتَزع من مفكرة كل عام لنحصي كم أصبحت أعمارنا، فربما مرّ العمر بسنوات متتابعة لم تكن إلا يوما واحدا، ولكن الحياة أعمق من تراكم كميّ لعمر قد يمرّ ولم نستفد منه شيئا.

هكذا أصبحت معنيا بحسابات أخرى أقيسها بالتجارب التي مررتُ بها مكسبا كانت أو خسارة، فما حياة الإنسان إلا مجموع تجاربه الفاشلة قبل الناجحة، فلولا الفشل ما كان للنجاح طعمه الخاص الذي يميزه عن غيره، ألم يقولوا وبضدها تتميز الأشياءُ!!

أراجع سريعا كل ما مرّت به البشرية، فهل يعقل أن تكون حياتها محصورة بل دفتي كتاب يزيد عدد صفحاته الألف وربما الألفين، لا شك بأن التجارب البشرية أعقد وأصعب من تجارب متناثرة هنا وهناك وحدثت مع أفراد عاديين أو مميزين حكاما ومحكومين، ولكن الوعي بالزمن هو الذي يحتم أن نسجل فقط تلك التجارب التي كان لها عميق الأثر في بناء الإنسان وشخصيته.

نقف اليوم مودعين عاما ميلاديا انتهى، وكان يحمل ما يحمل بين طيات أيامه الشيء الكثير من أحداث سياسية كبرى ومهمة، وأحدثت ربما انقلابا في الوعي الجمعي للبشرية بشكل عام، لتنبت فكرة ذات دلالة عميقة تتلخص في أن الحياة وهم كبير إذا لم يكن فيها قضية كبرى مصيرية يجب أن تدافع عنها، تموت وتحيا من أجلها، وتصنع مواقفك بناء عليها، فيصنعك الحدث أو تصنع الحدث، هكذا فقط يجب أن ننظر إلى حركة الزمان المتتابعة إلى أن يشاء الله.

وتتطفل أحداث هي في منظور العقل صغرى وبمنطق الحدث التاريخي لا تكاد تُذْكر، ولكنها في ميزان الوجدان أحداث لها ما لها من تأثير في النفس التي شقيت بالكثير من الأحداث، لتتشابك مع الأحداث الكبرى، فربما هي ضاعت بها وابتلعتها، أو طفت على السطح لتكون موضع الاهتمام على صعيد المشاركة في أحداث مفصلية في حياة البشرية.

لعلّ هذا ما حدث مع أغلب الناس، إذ يلتفتون إلى قضاياهم التي تشغلهم عن متابعة الشأن العام التاريخي المغير والحقيقي، لتضيع وتتلاشى، وتتلخص الحياة وهمومها في فشل تجربة وجدانية هنا وهناك، ولكن هل بمقدور الإنسان ألا يكون متأثرا بما تمليه عليه ظروفه الخاصة، تلك التي أردته وأزعجته وغيّرت مجرى حياته، ربما تراه شقيا وتعسا، ولكنه بالمقابل أصبح غنيا بتجاربه وذا فكرة أجلى وأصفى في الحكم على الشأن العام الذي سيطغى على التفكير شئنا أم أبينا.

إن حساب الزمن بنجاحاته وخساراته ليس بالأمر الهيّن، لأنه لا يمكن أن نستطيع تقييم تجاربنا في ميزان الصحة والخطأ إلا بالمنظور الشخصي المتحكم به عدة عوامل فكرية واجتماعية وسياسية وحتى اقتصادية لتصوغ التجربة ذاتَها على شكل ما، لتظل هناك محفورة في وجدان من ارتكبوها، سواء أكانت أخطاء فادحة أم ناجاحات عظيمة، ولكنه بالمؤكد ليس هناك خسارة شاملة أو ربح كامل، فالحياة خليط غريب من هذا وذاك.

لا زلت مقتنعا أن البشرية بما منحت من قوة في التفكير ورصانة واتزان قادرة على أن تصنع الأعاجيب من خلال تجارب أفرادها العاديين قبل المميزين، والمحكومين قبل الحاكمين، والفقراء قبل الأغنياء، والمعاقين قبل الأصحاء، فلولا هذا الخليط المتباين حتى التناقض لن تكون التجارب البشرية ذات أثر تخلفه في وعي أبنائها على مر العصور.

ولا زلت مقتنعا كذلك أن من يصنع التاريخ الحقيقي هم البسطاء من الناس، وليس كما يدّعي أصحاب الفلسفة التاريخية أن القادر على صنع التاريخ هم العظماء والمميزون، فمن صاغ الوجدان الشعبي الجمعي للبشرية على مر العصور غير الشاعر الشعبي والأديب الشعبي اللذين نُسيا والتفت المفكرون والتاريخيون لشعراء من ذوي القامات الشامخة؟ فهؤلاء العظماء هم من حازوا الشهرة والمجد والأبدية في سجلات التاريخ، ولكن من صنع الحدث بأبجديته التي تسير على منوالها البشرية هم هؤلاء القابعون خلف حجب الغيب لم يسمع بهم أحد، هم من كانوا الجنود الحقيقيين لصناعة العالم وليس من نقرأ عنهم في أسفار التاريخ المتراكمة.

عام مضى، وعام سيحلّ وستتابع البشرية رسم أقدارها، ولكن من منا يستطيع أن يأخذ من حركة هذا القدر درسا مهما ليكون للحياة مذاقها الخاص، وتبتعد عن الوهم والعبث؟ أوجه لنفسي هذا السؤال قبل أن أطرحه على القارئ الكريم، فلنتدبر ذلك ونعيه، جعلتُ فداءكم، وكل عام وأنتم بألف خير وطيب.