لولا فسحة الأمل!!
أوراق لم تسقط عمدا (14)
لولا فسحة الأمل!!
فراس حج محمد /فلسطين
أعلِّلُ النفس بالآمــالِ أرقُبُــها
ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأمَلِ!
ما أشقى النفس البشرية! وما أتعس حالها! تحب أن تقتات بالألم، وترغب أن تغبّ من كأس شرابه المر، وتتلذذ بذلك، بل وكأنها لا تجد طعما للحياة بغير أن يكون هناك ألم بجانب الفرح الذي تقتنص أوقاته، وبتُّ مقتنعا تمام القناعة أن النفس البشرية لن تكون كاملة متكاملة متزنة إذا لم تعش حالتيها من الحزن والفرح، هكذا هي حياتها، وهذه هي تجلياتها.
فكم تعلل النفس ذاتَها بالآمال المرتقبة، وكم تتوهم أنها على بعد قاب قوسين بل أدنى من تحقق أحلامها، فتنتعش، وتجدّ وتعمل جاهدة متناسية للحظات عابرة آلامها الوجودية لتصنع الفرح، فما زال في حُشاشتها بقية من غد تنظر إليه بعين الرضا، غاضة الطرف عما كان منها من عيون السخط في غابر أيامها!!
لقد أوتيت النفس البشرية قدرة على التحمل، ففي كل ظرف تقع فيه، سرعان ما تلملم النفس أشلاءها وتصهر نفسها لتتقوى على المواجهة، هذه النفس التي لو تراءى لها ذلك الظرف قبل وقوعه لأنكرت قدرتها على تحمل آلامه ومصاعبه، إن كل نفس تمتلك قوتها الذاتية المتولدة مع كل هبة من ريح أو هدير من موج بحر، فلو انقلبت السفينة وأخذت بالغرق قاومت ولم تستسلم، ليس لأنها تحب الحياة وتكره الموت، بل لأنها تكره الاستسلام ولا تحب الهزيمة ولا تقرُّ بها.
هذه الفلسفة هي ما يمنحها إمكانية التفكير بغدها، ورسم أحلام لمستقبلها، دون أن تنسى ماضيَها، فالماضي جزء أصيل متأصل فيها، شكّلها وزادها قوة، وعركها جيدا وكشف عن مكنوناتها في المجابهة، فلذلك تحاول هذه النفس أن ترى النور في الظلام الدامس، وتخلق البدر وتستحضره حتى لو يكن هناك شروط موضوعية لوجوده، تأتي به من أحلامها وسحرها الروحي وتجلياتها النورانية الإيمانية لتستطيع أن تعيش، فحياتها لولا هذا لم يكن لها داع أو مبرر وجود!!
لقد أجاد الطغرائي بتسطير كل ذلك بذاك البيت الذي سار مسار الأمثال في دنيا الحكمة، فكان دستورا روحيا ونورا للسبيل، ودافعا للقوة واستحضارها لتكون شاخصة في حياة الإنسان، وعلى الرغم مما يحمل قول الطغرائي من نفس التسليم القدري واصطناع الأمل، وتعجبه من ضيق العيش لولا وجود هذا النور المستكن في القلوب، إلا أنه عبّر عن أحلام الكثيرين، وأجاد في الكشف عن توق النفس البشرية للحياة ومقومات مقاومتها لموتها واستسلامها، فلولا الأملُ لبطل العملُ، ولو بقي الناس متصورين أن حياتهم ستنتهي في أي لحظة، ما كانت الحياةُ جديرةً بأن تعاش، ولو تصور الإنسان أن حياته انتهت لموقف مؤلم أو تجربة فاشلة، لتوقفت آمال الناس وأحلامهم منذ أن قتل قابيلُ هابيلَ، ولاندثرت البشرية قبل أن تبدأ مسيرة حياتها!
ولقد يكون في قصة ابني آدم عبرة عظيمة لمن ألقى السمع وهو شهيد، فليس بعد القتل والموت من مصيبة، ولكن تتسامى النفس فوق جراحها، وهي تعرف أنها مؤلمة، ولكن الحياة مشوارها طويل، فكيف ستقضيه؟ هل ستظل مهمومة حزينة ممتقعة في مرجل الألم، تندب ما تكسر من زجاج مراياها أم ستتابع حياتها؟
لا شك بأن العاقل من عقل الفكرة وأجاد صياغتها، وأدرك بأن الحياة هي هكذا، ولا بدّ أن تكون هكذا، وصدق الطغرائي حكيم العرب والعجم فيما سطره، فلسان حالنا ومقالنا يردد معه:
أعلِّلُ النفس بالآمــالِ أرقُبُــها
ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأمَلِ!
وسنظل نحلم بالغد الأفضل ما دامت فينا بقية من روح ولن نستسلم مهما كانت الظروف، فنحن الأقوى من كل عاتية، والأقدر على المواجهة، عشت جبارة أيتها النفس الشقية، وليبارك المولى قوتك واحتمالك الصبر والأذى، فالمعدن الصافي تزيده النار ألقا، ويتخلص من شوائبه بالحرق على درجات الحارة العالية، فإذا لم ننصهر بالحياة، لم نعرف أهميتها ولم ندرك قيمة أنفسنا!!