لمّا التقينا: سلّمتُ على ابن خالي الشهيد وداعاً
لمّا التقينا: سلّمتُ على ابن خالي الشهيد وداعاً
معين رفيق- جنين
كنتُ في العام الثامن من عمري لمّا صرتَ أنت شهيدا في عامك العشرين، خضتَ البحرَ مع إخوانك الفدائيين، سبعة يُظلّهمُ الأمل بالحصول على عناقهم الأبديّ مع فلسطين، فنالوا ما أرادوا، وإن كان العناقُ في "سافوي" مُضمَّخا بالدّم لا بالدّمع وحده.
جئتَ مع الموج، وحققتَ عبورك العسير- يا بن خالي عمر- نحو محبوبتك التي ظلّت تحضن جسدك في أحشائها الحانية كلّ هذه السنين، وغدا ترابها امتداداً لروحك؛ لتنبتَ عَودةً، وتُزهرَ عِزّةً، وتصنعَ جسرا مثالياً للعبور، تقتضيه بطولةُ الفدائيّ العنيد:
تَقضي البُطولةُ أَنْ نَمُدَّ جُسومَنا جِسراً، فقل لرفاقِنا أنْ يَعبُروا
لم تكن الحبيبة هي الظالمة، ولم تكن هي التي تَحرِمُ ما تبقّى من بقايا جسدك من أن تتوهّجَ بجمالَ اللقاء مع أبويك، نعم، إنّهما فارقا الدّنيا منذ سنين، لكن لم يفارقهم الأمل الحزين بالوقوف على قبرك، أو بتقبيل عظامك الطّاهرة، أمّا حبيبتك فمثلك- هي- مظلومة، مسلوبة؛ فالوحش الذي يُجرِّح كلّ يومٍ ملامَحَها، هو ذاته الوحش الذي قتلك، ثمّ التقمك، ثمَّ سمّاك رقما؛ لأنّ هويّتَك تهدّد أمن "كيانه" المذعور من أشلائك.
لكنّك أبيتَ- مثل حبيبتك- أن تدخل في الغياب، ولمّا أدركَ هو أنّ العقابَ لا يُجدي مع الموتى، وأنّ الشهداء يَقهرون عدوَّهم ولا يُقهَرون، وأنّهم يموتون واقفين ولا يتراجعون، وأنّهم يفرّون نحو الخطر، لا منه يفرّون، عاد فلفظك- مُكرَها- لتعود كهيئتك يوم كُلِمْتَ: شهيداً فريداً، تأبى التنازلَ عن عُرسِك الفلسطينيّ ولو بعد عشرات السنين، فإذا بك تُزَفّ في مدائن فلسطين، وتُحمَلُ على أكتاف رجالها الذين غدوا مُوَحَّدين- ساعة عرسك-بعد انقسام عُضال، وتَلْقاكَ النّساءُ بالزغاريد وبِانبلاج الحنين إلى طَعم استشهادِك الأوّل.
لم أكن يا بن خالي- الذي لم ألتق به يوماً- أتوقّع أن يكون بيننا مثل هذا اللقاء المباغت، فما أجمل اللقيا بلا ميعاد! وما أعظم قدرة الخالق:
قدْ يَجمعُ اللهُ الشتيتينِ بعدما يَظنّان كُلَّ الظَنِّ أنْ لا تَلاقِيا!
فقد نهضتَ من نومك فجأة يا شهيد "الأرقام"، مثل نهوض أصحاب الكهف والرّقيم، لتُنجزَ مُعجزة الصّمود كما صنعَ اللهُ على أيديهم مُعجزة النّهوض، بعد أن لبثوا في كهفهم ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعا، ولبثتَ أنتَ في غيابك ثلاثين سنةً وازددتَ سبعاً، لكنّك عُدتَ فاختفيتَ سريعاً كما اختَفَوا، نكأتَ جراحنا، وأحييتَ أرواحنا، وأعدتَ حلمنا إلى صفاء فطرته الأولى، فانهمرت علينا الذكريات، وكان يومُ لقائك يومَ وداعك:
بِأَبي مَنْ وَددتُهُ فافْترقْنا وقَضى اللهُ بعدَ ذاكَ اجتماعا
وافترقْنا حَوْلاً، فلمّا التقينـا كانَ تسليمُهُ عليَّ وَداعا
ما هذا اللقاء "الغامض" أيّها الفدائيّ الطّيّب؟ أهكذا يعود الشهداء إلى أمّهم مغادرين؟ فجِنينُ- مدينتك الحبيبة، ومسقط رأسِك- لم تكد تستكمل عناقك عند لقائك، حتّى ابتدأت عناقَك من أجل وداعك!
سلامٌ عليك يا بن خالي الشهيد- عمر الشافعي "أبو الليل"- يوم عُدتَ، ويومَ استُشهدتَ، ويوم أبيتَ إلاّ أن تُدفنَ أبيّا، وسلامٌ على إخوتك الشّهداء، أكرم النّاس، وأعزّ بني البشر.