المدينة تدمّر أحلام عاشقها
صالح أحمد
المقاعد المفرغة لا تنشر سوى الفراغ... فلا شيء يقتنصه خيالك المجنّح من سحابة عابرة من دخان هنا أو هناك... لن ينبيك بأكثر من أخبار استسلام الضحيّة للجلاد دهرا... وقد أصبح الجلاد تمثالا في غابة غراسها أشباح... والضحية لمّا تزل غيمة...
في الأفق أغنية لا تصل لمن نريد...
قبلة وداع تحجرت في العيون... قبل الشّفاه...
زهرات تحلم أن يتحرك للملمة شذاها أحد...
دائما نجد ما يشغلنا عمّا لنا! وما أسهل أن نتنكّر حتى لأنفاسنا حين تطلب ما لا يُراد لنا!
كأننا أدمنّا هدم زوايا ذاكرتنا كلما ضاق احتمالنا لما تختزنه!
همست لي غيمة عابرة:
كنت أعلم أن العرب سيرجعون من مدريد بخفي حنين... لأن أحدا منهم لا يملك بين فكيه ريقا يبصقه في وجهها قائلا: أخرجي من أرض المغرب العربي قبل أن تمثلي دور الحمامة...
ليلنا ضاحك... فمن ذا يشغله أمر نهارنا؟
الأيام لا تصدأ يا شعبي... وما وراء السّحب السّوداء... يظل يشعّ منا وفينا... وإن ظنّ المستعمر وجلادوه أنا نسينا...
منذ ولد الكون الذي صار لنا؛ والنّهارات تتقافز، ونحن نختفي في دوّامة تسارعها؛ ممسكون بأطراف أوهامنا! والمدى ذكريات؛ لفرط جمالها؛ لا نقدر أن نصيرها... وليس من مصلحتنا أن يدنو من حدود جمالها من عشاقها أحد!
أحقا لم يفهم أحد من الجلادين رسالة التّمثال الهندي؛ حين طاروا وراء أمريكا موهمين مَن وراءَهم أنها حجلة!؟
سمعت النّسر الأبيض يملأ الجوّ صراخا يقينيّا:
لقد مات الهندي الأحمر ليخلد شرفه...
ولتخفظ صخور بلاده أنه لم يجبن ولم يساوم عليها...
وأن قاتله لم يكن إلا حاقدا جشعا حقيرا...
ما أكثر الفضاءات التي لا تصلها الأوهام، ولا يبصرها مَن آوى إلى ذاكرته المهزومة، وأوهامه المطوية تحت إبط عباءته!
تُرى؛ ما الذي جعل الهمّ يستوطن ملامحنا؟
ما الذي جعل الموت يجد متنفّسا له فوق مرابعنا؟
ما الذي جعل المآسي تفرغ تعبها فينا؟....
كل الخلاصات استُنفِذت... وها هو الطريق...
في الكوفة لم يعد ما يصلك بروح أسلافك.... وقد جعل الغزاة الأشباح فيها ثمارا لوجودهم!
في غزّة رأيت حجرا يحتضن صخرة... والليل يسبّح... والرمل عند الشطّ يهتف: "تولد معجزة!"
في صيدا تسلّلت موجة مفعمة بالصّدى، ألقت زبدها على الشّاطئ، بكت، وأوّبت الجبال معها: "لم ياتني من البحر عذر، فصبرا!"
في الشّام ما زالوا يبحثون عن لغة، والأفق يغصّ بذكريات المستعمرين، والليل يتطاول في بعثرة ظلاله على مداخل المدن.. وعواصف الصّحراء تصرع رملها...
وتمضي بنا الأيام، والأيام لا تصدأ..
صوت الشّوارع يمتد إلى ما بعد الرّؤى والخيال...
ومواكب الجنائز التي اغتالها الصّمت تمضي بوقار.. حيث تشمخ رؤوس حامليها... ويستطيع الجار أن يهمس لجاره:
متى تكف المدينة عن تدمير أحلام عاشقها؟
متى يكف الأفق عن أن يكون خيط دم يتواصل بانتشاء... وسجين لا يحلم إلا بالخلاص من لعنة الكلمة؟ وطفلة أرعشتها توترات السّهم حال الانطلاق؟
متى سنرفض أن تكون أقصى أمانينا أن يصوّر السوّاح كعب قرانا العارية... والتمائم التي علقت في أعناق قتلانا... والحيوانات النّافقة على أطراف مدائننا... وأشجار اللوز المنحنية فوق ضحية ترفض أن تشكر قاتلها؟؟