دويٌ هُنا.. وصدىً هُناك
عادل بن حبيب القرين
السعودية/الأحساء
مابين نافذة الماضي وبوابة الحاضر مسافات أرهقها الزمن...!!
فكل سويعة لها طقوسها الخاصة، ومناخاتها المتعددة.. فصرنا نتمايل كتمايل الأشجار في مهب الريح!!
فمع ارتفاع درجات الحرارة وأمتزاجها بالرطوبة..
هبت عليَّ نسائم الكلمات الباردة من على شُرفة بحر الحياة المتلاطم بأمواجه العاتية..
فاعتليت صهوة الحِكَم، ممسكاً بشكيمة المعاني، وأطلقت لجام الحروف،
وأرخيت أهداب عينيَّ للتأمل.. إلى أن تجردت من أثواب الرياء والغرور والكبرياء.. علني أصل إلى هناك!!
أركض تارة.. وأكبو أخرى..
فذاك طرماح الركب مازال يحدو نياقه!!
جعلتْ عصاي تخط المسير.. ورجلاي تتعثر خلفها.. هنا إمرأة ملتفة بخمارها، وهناك طفل يتوجع.. وطرماح القوم يكمل طريق الجادة.. فمالت فرسه برأسها للمسير.. وكل خطوة تخطوها بنا.. (( دويٌ هُنا وصدىً هُناك!!))
فهنا من زرع وردة.. ففاح عبيره...
وهناك من وضع شوكة فضلّ مصيره!!
هنا من صلبه القدر.. ولا زال يجري كنهر بابل!!
وهناك من ظاهره رماد وباطنه سواد..
هنا من يزن أعماله فوق سبابته..
وهناك من يجري وفق مصلحته!!
هنا من تاقت روحه.. كانسياب الماء في جريانه..
وهناك من تأرجح في كلامه وبيانه!!
هنا الأماني والذكريات..
وهناك من " ذبلت أحلامه فوق التراب"!!
هنا من جعل همزة الوصل نبراساً لحياته..
وهناك من غمسها في دواة سباته!!
هنا من جعل العقل يخيره..
وهناك من جعل الأفواه تسيره!!
هنا المريض في جسمه وبدنه وجسده..
وهناك المريض في فكره وسلوكه وتصرفاته..!!
هناالقائل: المعاني ملقاة على الطريق.. فخذ منها ما شئت..
وهناك من جعل نفسه ((ديوجيناً أغريقياً)) ك المنشار تجاه من يختلف معه!!
هنا القائل: وضوح الفكرة لديك؛ ليست بالضرورة واضحة عند غيرك.
وهناك من وضوح الفكرة ليست من ضرورياته..
فكل همه نشر الترهات والإشاعات والخزعبلات..!!
هنا القائل:
كن ابن من شئت واكتسب أدباً |
يُغْنِيكَ مَحْمُودُهُ عَنِ النَّسَبِ |
إن الفتى من يقول ها أنا ذا |
ليسَ الفَتَى مَنْ يقولُ كان أبي |
وهناك القائل:
ولا خيرَ في ودِ امرئ متلون |
إذا الريحُ مالت، مالَ حيثُ تميلُ |
وما أكثر الإخوان حينَ تعدهم |
ولكنهم في النائباتِ قليلُ |
هنا لكل شيء بداية ونهاية؛ ولكل نهاية بداية..
وهناك من ترك مرآة مستقبله المشرق.. وظل عالقاً بمرآة ماضيه الأسود..
هنا القائل:
العلمُ صيدٌ، والكتابةُ قيدهُ |
قيدْ صيودكَ بالحبالِ الواثقة |
وهناك القائل:
فمن الحماقةِ أن تصيدَ غزالةً |
فتتركها بينَ الخلائقِ طالقة |
هنا المثقف الذي يدير شؤون يومه بكل اقتدار وخلق رفيع..
وهناك المتشدق باسم الكرم والعطاء والإيثار والنُبل...
لينجرف بين الآونة والأخرى بأمثلة ومصطلحات اختلقها لتأليه
ذاته وتلميع صورته!!
هنا من تكرمه في وضح النهار..
وهناك من يستتر خلف ممر مُعتم..
خشية أن يدفع لك ثمن علبة مشروب غازي!!
هنا من حديثه كشمس الضحى..
وهناك من فضحه لسانه ونبرة صوته ولغة جسده وتلاعب عينيه!!
هنا القائل: المأخوذ حياءً كالمأخوذ غصباً..
وهناك من يتفنن في إحراج الناس كي يسلبهم حقوقهم!!
هنا الإدراك والأثر والتفاعل في التعامل والاتصال بالآخر..
وهناك لا إدراك ولا تفاعل ولا تعامل ولا اتصال بالآخر!!
هنا من جعل فعله يسابق قوله..
وهناك من جعل نفسه هاتف عملة.. إذا أعطيته تكلم وإن لم تعطه سكت!!
هنا القائل: الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق..
وهناك: من شغله الشاغل التلون بألوان رمادية لاماهية لها!!
هنا من يرى واجبه التكليفي أن يخدم مجتمعه..
وهناك من يرى واجبه التشريفي أن يسخر منهم!!
هنا القائل: كان الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام)، يخدم الحجاج خفية..
وحينما يعرف ينتقل لغيرهم كي يخدمهم..
وهناك القائل: ألا يريد المجتمع من خدمتي الأجر والثواب؟!!
... وهكذا إلى أن نزلنا بأرض مترعة بالماء والنخيل.. فقام فينا شيخ ذو شيبة بهية.. فكل حركاته وسكناته ورع واجتهاد وعفة وسداد..
فهدهد أرواحنا على رُبَا الأرض.. فأديمها غبار يتطاير.. كتطاير التنوين في سماء الكلمات.. فتمتم بكلمات لم نفهمها ثم التفت إلينا بصوت حزين ونبرة حانية..
فقال: "هذا الليل قد غشيكم، فاتخذوه جملا..."!!
... لتكون كلماته الأخيرة: "ظلي خليفتي عليكم".