خواطر من الكون المجاور 16
خواطر من الكون المجاور..
الخاطرة 16: أحداث من الكون المجاور 5
ز. سانا
كان معاون مدير مركز تدريب اﻷغرار المجندين الملازم أول عزام مصابا بثلاث شظايا (أو ثلاث طلقات لا أذكر جيدا) في جسمه أثناء وجوده في حرب مشاكل لبنان، ويبدو أنه في ساعة إصابته رأى بأم عينه فظاعة الحرب وما معنى أن يصل المرء إلى خط البرزخ الذي يفصل الحياة عن الموت، ويبدو أنه في تلك اللحظات رأى في وجه الحرب وجه الشيطان نفسه، لذلك بعد شفائه إنقلب معنى الحياة في فكره رأسا على عقب وكأنه لم يعد يؤمن بأن السلاح يمكن له أن يحل المشاكل من جذورها ﻷن تجربته الواقعية في الحروب جعلته يعلم تماما بأن المشاركة في الحروب في عصرنا الحاضر والتي يذهب ضحيتها عدد من اﻷطفال والنساء واﻷبرياء أكثر بكثير من الجنود ليس إلا نوع من أنواع المشاركة في تحقيق أهداف الشيطان نفسه ، لذلك كان الملازم اول عزام عادة يفضل الوحدة والبقاء في مكتبه المنعزل عن بقية مكاتب الضباط ،وكان قلما يأتي ليجلس قليلا في قاعة الضباط حيث يلعبون هناك الشطرنج أو كرة الطاولة أو يتناقشوا في مواضيع ثقافية مختلفة. وعندما يأتي كان قليل الكلام ، ينظر ويراقب الضباط بدون أن يشاركهم اللعب في الشطرنج أو كرة الطاولة، ثم يعود إلى مكتبه لينغلق على نفسه ، وكما علمت فيما بعد بأنه بدأ بكتابة الشعر ليعبر عما يجول في أعماق مشاعره.
في البداية عندما رآني ﻷول مرة شعر بأنني أختلف كثيرا عن بقية الضباط بسبب عطفي على المجندين، أعجب كثيرا بهذه الصفة ولكن بسبب شكلي الذي يبدو وكأنني أصغر الضباط سنا وملامح وجهي التي كثيرا ما وصفت بالبريئة وكذلك نبرة صوتي الهادئة والتي كانت تدل على أن صاحب هذا الصوت لم يصرخ في حياته ولا مرة واحدة،وللأسف صفة الصراخ أو قوة الصوت وكثرة الكلام التي كانت في الماضي تعبر عن صفة غياب الحكمة في الشخص للأسف في أيامنا هذه أصبحت تعبر عن الشخصية القوية ، لذلك من مجمل صفاتي هذه ظن الملازم أول عزام أنني سأجد صعوبات كثيرة أمامي سواء من زملائي الضباط أو حتى من أولئك المجندين الذين يستغلون ضعف شخصية المسؤولين عنهم فيستهزؤا منه. فاليوم للأسف كثير من المفكرين من خلال الكتب أو اﻷفلام السينمائية نشروا فكرة أن استخدام السلام لحل المشاكل تعتبر صفة للجبناء أو الضعفاء الذين لا يملكون القوة لذلك فهم يلجأون إلى السلام. ولكن مع مرور اﻷيام راحت فكرة الملازم أول عزام عني تتغير وهو يراني أواجه جميع صف الضباط والضباط من أجل منع أي شخص منهم بمعاقبة أي مجند من أفراد فصيلتي ، وخاصة عندما رآني كذلك أذهب إلى مكتب مدير المعسكر نفسه - كما ذكرت في المقالة الماضية -ﻷمنع تنفيذ عقوبة أمر بها هو بحق جندي بسيط لا يمت لي بأي صلة سوى أنه مجند في فصيلتي، فمثل هذا التصرف كان أبعد بكثير من أن يقوم به أي ضابط ﻷي مجند مهما كان.
يبدو أن الملازم أول عزام من مراقبته لتصرفاتي وشدة دفاعي عن الضعفاء في المعسكر، راح يقتنع بالتدريج أن وراء عاطفة السلام تكمن قوة أكبر بأضعاف المرات من تلك القوة التي تكمن وراء الرغبة في إستخدام الصراخ والعنف ، ويبدو أن القدر أراد أن يؤكد له ولجميع ضباط المركز صدق هذه الحقيقة من خلال عدة أحداث وسأذكر منها هذه الحادثة ، فبعد مرور ثلاثة أسابيع تقريبا من بدء دورة التدريب وبسبب وجود ستة ضباط او سبعة تقريبا كانوا من عشاق لعبة الشطرنج ،أرادوا أن يقوموا دوري في الشطرنج يشارك فيها جميع الضباط ليعرفوا من هو أفضل لاعب شطرنج في المعسكر، وﻷن جميع الضباط كانوا يلعبون هذه اللعبة وافق الجميع مباشرة، وكان صاحب هذه الفكرة الملازم جمال خريج كلية الهندسة المدنية، فكان معروفا عنه بأنه لاعب محترف وله هوس شديد في هذه اللعبة وعندما كان لا يجد شخصا يلعب ضده كان يلعب مع الكومبيوتر وكما كان معروفا عنه أن مستواه في اﻹنتصار على خطط الكومبيوتر قد وصل إلى مستوى عالي جدا.
وشاءت الظروف أن تكون أول لعبة لي في أول يوم من الدوري ومع أقوى لاعب وهو الملازم جمال نفسه، وعندما نادوني ﻷلعب معه ،أخبرتهم أن يضعوا النتيجة واحد صفر لصالح الملازم جمال ، ﻷنني لم أكن من هواة هذه اللعبة، فأول مرة تعلمتها ولعبتها لبضع مرات كان في السنة اﻷولى من كلية الزراعة في بيت أحد زملاء الكلية. ومنذ ذلك الوقت لم ألمس حجارة الشطرنج أبدا ،وفي المعسكر أيضا كنت أفضل أثناء يوم مناوباتي لعبة كرة القدم مع فريقي الذي كونته من مجندي فصيلتي مع فرق الفصائل اﻷخرى. ولكن لعبة الشطرنج كنت بعيدا عنها نهائيا.
جميع الضباط رفضوا إقتراحي وأصروا على أن ألعب أمام الملازم جمال، فأخبرتهم أن هذه اللعبة مملة وأنا لا أستطيع أن أجلس وقتا طويل من أجلها. فكان رد الملازم جمال ( من هذه الناحية لا تقلق وتأكد بأنه خلال ثلاثة دقائق فقط ملكك سيفطس) لا أدري بالضبط لماذا أثرت فيني هذه العبارة بشدة بحيث جعلتني أشعر بأنها نوع من الشتيمة وكأنه يشتم منطق تفكيري أو يسخر من هدف حياتي أو ..... لست أدري فكلمة يفطس تستخدم للتعبير عن موت الحيوانات...وعبارته هذه وكأنها أشعرتني وكأن ملكي أو أعظم شيء في داخلي هو حيواني ، أي بمعنى آخر تسيطر عليه الغرائز الحيوانية. ... وفجأة شعرت بالدماء تتدفق في رأسي لتقوم بتنشيط خلايا من نوع آخر لا تعمل إلا في ظروف خاصة جدا، ورأيت نفسي أقبل الرهان وأجلس أمام الملازم جمال. وخلعت الساعة من معصم يدي ورفعتها أمام الملازم جمال قائلا له ( ثلاث دقائق فقط ولن ألعب ثانية واحدة إضافية ) فهز رأسه موافقا وكأنه واثقا من نفسه تماما. وضعت الساعة على طرف رقعة الشطرنج ﻷراقب عقاربها بدقة ﻷتوقف عن اللعبة بعد 180 ثانية بالضبط. ثم بدأت اللعبة.
كانت حركة أحجاري سريعة جدا فكنت بمجرد أن يقوم الملازم جمال بتحريك قطعته أقوم بتحريك قطعتي مباشرة بدون أي تفكير ولكن بخطة واحدة وهي شل تفكيره لذلك كنت ألعب مرة من اليمين مرة من اليسار و مرة من اﻷعلى بشكل يجبر الطرف اﻵخر بالإحساس بنوع من العشوائية في اللعب فيعجز عن وضع خطة معينة لتنفيذها، وكان هدفي فقط أن تنتهي الثلاث دقائق بدون أن يستطيع أن يقضي على ملكي ويبدو أن سرعتي في اللعب قد أثرت على أعصاب خصمي فرأيته يقول لي ( على مهلك، ماذا أصابك) وكان جوابي له (حتى لا تقول أني كنت بطيء وأستهلكت كل الوقت ) ومرت الثواني وكلما حاول جمال أن يتمعن جيدا في وضعية القطع لينفذ خطة يصل بها إلى ملكي كانت حركة جديدة مني تعيد البلبلة ثانية إلى فكره. وعندما مرت دقيقتان من الزمن قلته له ( إحسب حساباتك جيدا بقيت دقيقة واحدة فقط) فهز رأسه بأنه يعلم ذلك والقلق يبدو على ملامح وجهه وكأنه كان يعلم تماما بأن دقيقة واحدة غير كافية ﻹنتهاء اللعبة. وراحت الثواني تمر ، وبسبب عدم تكافؤ الخصمين لم تكن المباراة بقدر من اﻷهمية لتجذب إهتمام الضباط اﻵخرين لذلك كان بقربنا ضابط واحد فقط يراقب اللعبة وهو الملازم أنطوان خريج كلية الرياضة وكان ثاني أفضل لاعب شطرنج بعد جمال و من المتوقع أن يكون هو خصم الملازم جمال في نهاية الدوري ، لذلك كان يراقب جيدا حركات أحجار الملازم جمال في جميع ألعابه ليفهم خططه ليفوز عليه.
عندما رأيت أنه بقيت بضع ثواني فقط ﻹنتهاء اللعبة نظرت جيدا إلى ملكي رأيته بعيد عن أي تهديد ولكن عندما تمعنت جيدا في أحجار الرقعة بشكل عام رأيت شيئا آخر جعلني أشعر برعشة تسري من أخمص قدمي إلى قمة رأسي، وفي لحظة إنتهاء مدة الثلاث دقائق قمت بتنفيذ آخر حركة وأخذت ساعتي ووضعتها أمام جمال قائلا له ( الثلاث دقائق إنتهت. .. انت الذي خسرت) فنهضت ﻷذهب ولكنه مسك يدي ليمنعني قائلا (قلت لك ثلاث دقائق هذا لا يعني أني أقصد 180 ثانية بالضبط ولكن بشكل تقريبي قد يكون ثلاث دقائق ونص أو أربع..) ولكني إبتعدت عن الطاولة قائلا له ( اللعبة إنتهت)
الملازم أنطوان يبدو أنه شعر بشيء من ملامح وجهي لم يراه من قبل،فنظر ثانية فى رقعة الشطرنج وراح يتمعن جيدا في أحجارها جيدا فلم يصدق ما يراه، فمسك بكتف جمال الذي كان يطلب مني العودة لمتابعة اللعبة وهز كتفه بضع هزات قائلا له ( اللعبة إنتهت) فأجابه جمال بعصبية ( لم تنتهي ، ملكه غير مهدد) فأجابه أنطوان (ملكه حي يرزق ولكن ملكك أنت ألذي أعطاك عمره ) وشعر جمال وكأن صاعقة ضربت رأسه وهو يسمع كلام أنطوان ونظر في رقعة الشطرنج وراح يتمعن فيها جيدا ورأى فعلا أن بحركتي اﻷخيرة كان علي أن أقول له (كش الملك) وكانت جميع المربعات حول الملك التي يمكن له اﻹنتقال إليها تحت سيطرة أحجاري. وفقع أنطوان من الضحك وهو يرى جمال وكأنه على وشك اﻹنهيار من هذه الصدمة التي لم تخطر على باله نهائيا ،وأسرع جميع الضباط حول الطاولة ليروا لوحة الشطرنج ليفهموا كيف خسر أقوى لاعب مع أضعف لاعب في الفريق. أما الملازم جمال فلعدة دقائق ظل صامتا منصعقا بما حدث.
فوزي على الملازم جمال لم يكن سببه الذكاء والمهارة في اللعب فجميع أحجاري تم تحريكها بدون تفكير أو خطة فقط الحركة اﻷخيرة التي رأيت أني من خلالها أستطيع تهديد ملك الخصم كانت عن تفكير . أما اﻷحجار اﻷخرى التي كانت تسيطر على جميع المناطق حول الملك فلا أذكر كيف وصلت إلى تلك الأماكن الموجودة فيها.فهذه اللعبة حسب شعوري في تلك اللحظة كانت شبه معجزة صغيرة حدثت نتيجة إنسجام كامل بين عناصر الحادثة لتعطي معنى واضح ودليل يؤكد بأن المنهج الفكري الذي أتبعه في سلوكي وتحليلاتي هو الصحيح. فلنأخذ بعض عناصر الحادثة ، لعبة الشطرنج هي لعبة تخطيط أي تخطيط لتحقيق هدف معين، مهنة خصمي هي الهندسة المدنية وكلمة مدني تحمل معنى حضاري (مدن الشيء يعني حضره أو جعله راقيا) وهنا يحمل معنى عام وهو التطور الحضاري. ومكان اللعبة كان مركز تدريب عسكري أي مركز تعليم تقوية الغرائز ، فإذا وضعنا هذه المعاني بشكل متجانس نحصل على معنى أنه "تخطيط اﻷمور لتطوير المجتمعات اﻹنسانية لتعيش في حضارة سامية أرقى، لا يمكن أن يحدث عن طريق الفكر المادي الذي يعتمد على الغرائز الحيوانية (عنف، حروب) ولكن عن طريق العواطف السامية (السلام) ". تماما كما هو في مبادئ المنهج الفكري الذي أعتمده في حياتي. لذلك وجب حدوث هذه المعجزة البسيطة لتكون دليلا أو علامة إلهية لها معنى أن منطق سلوكي وتفكيري باﻷمور كان أرقى بكثير من منطق تفكير جميع الضباط في المعسكر والذين يمثلون جميع الفروع الجامعية .لذلك بدلا من أن ينتصر الملازم جمال خلال ثلاث دقائق كما قدره هو لشدة الفرق في مستوى اللاعبين في اللعبة حدث العكس تماما، خسر هو في هذه الدقائق الثلاثة.
هذه الحادثة التي أثارت إعجاب الملازم أول عزام و باﻹضافة إلى ما رآه في سلوكي بشكل عام راح يطلب من العسكري المسؤول عن خدمته أن يناديني ﻷذهب إلى مكتبه وأفطر أوأتغدى معه وﻷن مناوباتي في المعسكر كان مع أيام مناوبته هو فكنت دوما أتعشى في مكتبه ، وهكذا تحولت علاقتنا إلى علاقة صداقة فكنا نتحدث في مواضيع مختلفة وأكثر ما كان يلفت نظره هو حقيقة ما يحدث فكثيرا من اﻷحيان وأثناء وجوده في قاعة الضباط كان يراهم عندما يتناقشون بإمور ثقافية كان كل واحد منهم يحاول أن يثبت بأنه على درجة عالية من الثقافة فيذكر في كل عبارة إسم فيلسوف أو عالم لا يعلم به أحد . وكان الملازم أول عزام يتساءل وهو لا يصدق كيف تحول سلوك هؤلاء حاملي الشهادات الجامعية إلى هذا المستوى من الوحشية في التدريب بهذه السرعة. ماذا يدرسون في الكتب الجامعية ؟ فقط أرقام ومصطلحات علمية ونظريات ؟ ما فائدة جميع هذه العلوم والمعارف إذا لم تحسن من سلوك الفرد في المجتمع؟ وكان رأيه أن الضباط الذين يدرسون في الكليات الحربية كانوا أقل حبا للعنف من هؤلاء حاملي الشهادات الجامعية.
هذا اﻹحساس الذي شعر به الملازم أول عزام كنت قد شعرت به وأنا طفل صغير بعد إنتحار طفلة في الحي إسمها سعاد -كما ذكرت في كتابي اﻷول عين الروح اﻷطفال - و منذ ذلك الوقت ولد بداخلي ما يشبه اﻹحساس بالشك في صحة معلومات الكبار وهذا ما جعل ثقافتي حتى تلك الفترة أثناء وجودي في معسكر التدريب ، ثقافة فطرية أتت من خبرة ذاتية عن طريق تحليلاتي الشخصية وليس من كتب مدرسية أو ثقافية لذلك كانت كثير من أسماء الفلاسفة التي تذكر أثناء المناقشات بين الضباط ، غريبة لم أسمع عنها من قبل. فكنت أشعر أن جميع معلوماتهم كانت على مبدأ العلم للعلم وليس لفائدة اﻹنسانية. فكنت أشعر أن كل الضباط وأثناء المناقشات وكما كان يبدو وكأنه يسمع ما يقوله الضابط اﻵخر ولكن في الحقيقة كان في داخله يبحث عن أسم فيلسوف أو عبارة بمستوى عالي من الثقافة ليذكرها عندما يأخذ الحديث هو. لذلك كان جميع الضباط لا يرون شيئا آخر أثناء حديثهم سوى أنفسهم ، فمثلا لم يرى أحدهم ذلك المجند الذي جلس منعزلا بعيدا عن بقية المجندين مطأطئ الرأس وكانه يحمل على أكتافه هموم الدنيا بأكملها. لم يتساءل أحدهم وخاصة الضابط المسوؤل عن الفصيلة التي ينتمي إليها، ماذا أصاب هذا المجند؟ هل هو مريض ؟ هل يعاني من شيء؟لماذا يجلس لوحده في ذلك المكان ؟ فما نفع هذه الثقافة إذا لم تساعدنا في فهم سلوك من حولنا ، ما نفعها إذا لم تكن لها المقدرة على مساعدة شخص بسبب ضعفه وقلة حيلته وصل إلى مرحلة أن يخسر أقل حقوقه في هذا المعسكر وهو حقه في الطعام كما حدث مع هذا المجند المسكين الذي جلس لوحده يشكي أمره لله وكأن روحه شعرت بأنها تعيش في مجتمع الغاب حيث القوي فيه يأكل الضعيف ولا أمل في أي مساعدة من أحد سوى من الله عز وجل،فمشكلته كانت أنه وضع مع مجموعة من المجندين الماكرين الذين راحوا يسرقون طعامه وبسبب خوفه من ضابط المسؤول عنه لم يستطع أن يشتكي ﻷحد همه، فهذه المشكلة يمكن أن يتحملها اﻹنسان لمدة يومين أوثلاثة ولكن بالنسبة له فهو يعيشها أكثر من عشرة أيام ، عشرة أيام أيام يأكل وجبة واحدة في اليوم وجبة الظهر فقط، ووجبة واحدة لشخص يقوم بالتدريب العسكري والرياضة اليومية لم تكن كافية أبدا ، ولولا إحساسي بأن شيئا ما يعذب هذا المجند لست أدري كيف كان سيمضي مدة الدورة بأكملها ،فلما ذهبت إليه و إنتبه أني آت إليه نهض ليذهب إلى مهجعه ، ولكني طلبت منه أن يتوقف وسألته ماذا به ، في البداية شعر بالخوف وهو يكلم ضابط فإدعى بأنه لا يعاني من شيء، ولكن عندما رأى إلحاحي عليه لمعرفة سبب حزنه، ويبدو أن نبرة صوتي وطريقة كلامي معه أزالت الخوف منه فرفع بصره نحوي وقال (جوعان) وانفجر فجأة ببكاء صامت وكأنه خجل من نفسه ﻷنه يشتكي بمثل هذه الشكوى.
في تلك اللحظة عندما تمعنت في وجهه رأيت كم كان مختلفا عم كان عليه في أول أيام وجوده في المعسكر فقد بدا لي وكأنه خسر نصف وزنه،تأثرت كثيرا بحالته فسألته فيما إذا كان الطعام لا يكفي فشرح لي عن مجندي مجموعته وما يفعلونه به مستغلين قلة حيلته فطلبت منه أن يأتي معي وذهبت به إلى مطبخ الضباط وأخذت كيس ووضعت فيه بعض الخبز والبيض المسلوق والجبنة والبندورة والبرتقال وأعطيتها له وقلت له إذا مر بأي مشكلة مهما كانت، أن يأتي إلي ﻷساعده ،وعدا عن هذا غيرت مكانه في المجموعة ووضعته في مجموعة أفرادها مجندين طيبين أعرفهم ليهتموا بأمره ويساعدوه.
هذه الحادثة علم بها بعض المجندين الذين كانوا يعيشون حالات مشابهة لحالة المجند السابق فأتوا إلي وطلبوا مني المساعدة ومن خلال ما سمعته منهم كان الجميع يشكون من مجند طويل ضخم الجسم فكان يستغل شكله الضخم في تأمين جميع مصالحه من المجندين الضعفاء وخاصة القرويين الذين كانوا قليلي الحيلة. لذلك قررت معاقبته على سلوكه السيء، وفي مساء يوم مناوبتي في المعسكر طلبت من أحد المجندين أن يخبره بأن يأتي إلى قاعة الضباط ﻷنني أريده. فأتى ودخل القاعة وعندما رآني لوحدي أتصفح إحدى المجلات شعر بنوع من الراحة ﻷنه كان يعلم أنني لا أعاقب أحد ودائما طيب القلب مع المجندين فتقدم مني وقدم التحية بخبطة قوية من قدمه وكأنه مجند مجتهد في التدريب مع إبتسامة تعبر لي بأنه يحترمني أنا بالذات كضابط أكثر من بقية الضباط، كان سلوكه في تلك اللحظة سلوك إنسان منافق يظهر أمام المسؤولين وكأنه يتبع جميع قوانين نظام المعسكر ولكن بعيدا عنهم يستغل كل ضعيف لتحقيق رغباته الشريرة.
تمعنت في وجهه قليلا ،ثم رحت أعدد شكوى المجندين منه فعلم أنني أعرف عنه كل شيء فأخفض رأسه صامتا. وعندما إنتهيت من كلامي طلبت منه أن يخلع حذائه وجوربيه وطلبت منه كنوع من العقوبة أن يسير مشية البطة ذهابا وإيابا على طول القاعة، وأن لا يتوقف عن المسير إلا بأمر مني، (مشية البطة هي أن يجلس بوضعية القرفصاء ويسير بهذه الوضعية).
في البداية ظن أن العقوبة بسيطة جدا فراح ينفذها دون أي إعتراض، ولكن ما أن سار لمدة دقيقتين حتى بدأ يشعر أن رجليه لم يعد لهما القوة في المتابعة فرأيته يتوقف ليأخذ بعض الراحة ،فإلتفت إليه ونبهته بأنه إذا توقف مرة أخرى بدون أمر مني سيزداد زمن العقوبة، فتابع سيره ثانية وبعد لحظات شعر مرة أخرى باﻹرهاق ونبهته ولكن هذه المرة بطريقة أكثر صرامة. فتابع سيره ولكن سرعان ما إنهارت قواه مرة أخرى فصرخت به وحاول أن يسير ولكن يبدو من شدة إرهاقه لم يعد يشعر بقدميه ليستطيع تحريكها. فصرخت به مرة أخرى فحاول وسار خطوتين ثم توقف فنهضت إليه وقلت له ( إذا لم تنفذ العقوبة كما أريد ستستمر عقوبتك إلى منتصف الليل ) فحاول أن يجهد على نفسه وحرك رجليه اللتان كانتا ترجفان برجفات قوية ، وما أن سار خطوتين حتى شعر بأن قدميه ليس فقط لم يعد لها من القوة ليستطيع السير ولكن لم يعد لها أن تحمله ، فسقط مستلقيا على اﻷرض وهو يردد بصوت متقطع من شدة اﻹرهاق (لا أستطيع. صدقني يا سيدي ..لاأستطيع ) وكان فعلا من شدة إرهاقه لم يكن بمقدوره تحريك قدميه، عندها طلبت منه أن ينهض ويلبس جواربه وحذائه ، وعدت إلى مكاني.
بعد لحظات عندما أستعاد بعض قواه نهض وإقترب مني حيث كانت جواربه وحذائه وأخذ جرابه ليلبسه ولكنه لم يستطع من شدة إرهاقه فقد كان جسمه بأكمله يرجف بشدة. وكان في حالة وكأنه مصعوق وهو لا يصدق بأن هذه العقوبة البسيطة قد شلت جسده بأكمله فتوقف ريثما يستعيد قواه ثانية. في تلك اللحظة سألته عن رأي المجندين بالملازم (م ) فلم يتكلم ،فقلت له أن لا يخاف وان يذكر ما يقوله المجندين عن رأيهم بالملازم (م ) فقال بأنه ظالم و شرير وأن جميع المجندين لا يطيقون رؤية وجهه. عندها قلت له ( الحمدلله بأنك لست برتبة ضابط ﻷنك بهذه النفسية التي لديك لكنت أصبحت أسوأ بكثير من الملازم (م ) إلبس جواربك وحذائك وإذهب). وثم عدت إلى المجلة أتفحص صفحاتها دون أن أتكلم معه أبدا. بعد لحظات وعندما إستعاد قواه ولبس جواربه وحذائه نهض وقال لي ( سيدي. .. ) ولكني قاطعته مباشرة قائلا له ( إذهب. لا أريد أن أسمع منك أي شيء ) فهز رأسه وقدم التحية وغادر القاعة.
كل إنسان يوجد في داخله إنسان وحيوان، اﻹنسان يمثل ذلك الجزء من روح الله الذي نفخه في آدم ، أما الحيوان فيمثل ذلك الشئء الذي دخل من الشيطان إلى اﻹنسان والذي أدى إلى طرد اﻹنسان من الجنة. لذلك كان من أهم مبادئ حياتي هو أن أحاول دوما مخاطبة والتعامل مع القسم اﻹنساني في كل إنسان. ومن خلال خبرتي في هذا المجال كنت دوما أنجح في إقامة علاقة طيبة مع اﻵخرين مهما كانوا سيئيين.وﻷن القسم اﻹنساني أذكى من القسم الحيواني في اﻹنسان، كان كل أملي أن أجعل جميع أفراد فصيلتي أن يسيطر هذا الجزء من روحهم على سلوكهم بأكمله ليسهل تعلم ما هو مطلوب منهم بسهولة. فقد كانت تلك المرة اﻷولى التي أجد فيها نفسي أقوم بدور مدرب أو معلم يحاول تعليم أشخاص غرباء عنه لا تربطه بهم أي صلة. لذلك كنت في نفسي دوما أطلب من الله أن تكون طريقة معاملتي للمجندين لها نتائج صحيحة تؤكد صحة أسلوبي وآرائي التي أعتمد عليها. فرغم أن أسلوبي هذا كان يجعلني أشعر بأنني أسعد الضباط حقا في هذا المعسكر ﻷنني كنت أرى في عيون المجندين وهي تنظر إلي عندما أمر بقربهم وكأن روحهم نفسها تشكرني على حسن المعاملة وتلك المساعدات التي أقدمها لهم لتسهل أوضاعهم في هذا المعسكر، ولكن كان لا بد من إثبات صحة إسلوبي أمام جميع الضباط أيضا ﻷكون مقتنعا تماما بما أومن به.
ومرت اﻷيام وقاربت دورة التدريب على اﻹنتهاء. وأتى موعد الإمتحانات ليظهر مستوى كل فصيلة ومستوى كل مدرب ، وكان اﻹمتحان اﻷول هو إمتحان الرياضة وكان عبارة عن جري مسافات طويلة 3 كيلومتر ، وكانت مكافأة المجند الذي يأتي بزمن ممتاز أن يأخذ إجازة مسائية وﻷنني كنت أعلم مستوى كل فرد من أفراد فصيلتي، وكان أفضلهم الذين يستطيعون أن يصلوا ضمن هذا الزمن، يقيمون في مدن بعيدة ولم يكونوا بحاجة إلى هذه اﻹجازة ﻷنهم سيضطرون أن يناموا في فندق وهم في كل اﻷحوال لا يعلمون شيئأ عن شوارع دمشق ، لذلك طلبت منهم عند وصولهم إلى نقطة النهاية أن يعطوا أسماء زملائهم الدمشقيون الذين لا يستطيعون الحصول على هذه الإجازة. وطبعا وافقوا ﻷنه بجميع اﻷحوال ستذهب الإجازة هباء دون أي فائدة. وبنفس الوقت سيعملون شيئا مفرحا لزملائهم الدمشقيون.
قبل دقائق من اﻹمتحان وزعت أفراد الفصيلة إلى ثلاث مجموعات كل مجموعة حسب مقدرة كل مجند ووضعت مجند قائد لكل مجموعة وأعطيته التعليمات المناسبة ليستطيع الوصول إلى نقطة النهاية في الزمن المطلوب ﻷن أهم ما في هذا النوع من الجري هو المحافظة على نظام التنفس، فبسبب إختلاف المستويات كان لكل مجموعة سرعة معينة مناسبة لها تضمن للمجموعة اﻷولى الوصول في زمن ممتاز وللثانية زمن جيد وللثالثة مقبول . المجموعة الأخيرة والتي كانت بمستوى ضعيف في الرياضة وضعتها تحت تعليماتي لكي لا يتوقفوا من أول المسافة ولا يستطيعون المتابعة. وعلى هذه الخطة إنطلق أفراد فصيلتي في السباق. وبينما راح الجميع يجري بكامل قوته، راحت كل مجموعة من فصيلتي تجري بالسرعة التي طلبتها منها ، وكان أفراد المجموعة الضعيفة التي أجري معها لا يصدقون بأننا سنصل بهذه السرعة البطيئة إلى نقطة النهاية، ولكن كنت دوما أطمئنهم ومع مرور الدقائق بدأوا يشاهدون الكثير من مجندي الفصائل اﻷخرى قد توقفوا عن الجري وكانوا يسعلون من شدة اﻹرهاق، وكلما كانوا يقتربون من نقطة النهاية كانوا لا يصدقون أن أشخاصا أفضل منهم بكثير قد سقطوا على اﻷرض من شدة اﻹرهاق.وكنت كلما رأيت أحد أفراد المجموعة قد وصل إلى مرحلة بدأ يشك بنفسه من أنه سيصل إلى نقطة النهاية من شدة اﻹرهاق كنت أتكلم معهم عن أشياء تجعلهم ينسوا نهائيا تعبهم.
كان أفراد فصيلتي الذين وصلوا إلى نقطة النهاية قلقين ينتظرون ظهور المجموعة اﻷخيرة على الطريق، وعندما لمحونا نتقدم من بعيد فرح الجميع وبدأو يشجعون زملائهم في تحمل التعب ليستطيعوا الوصول إلى النهاية. ويبدو أن شدة إنفعال أفرأد فصيلتي وفرحهم وهم يرون آخر مجموعة تكاد تصل إلى نقطة النهاية قد أثارت إنتباه ودهشة مدير المركز الذي كان ينتظر هناك ويراقب ما يحدث. ويبدو أنه رغم إنتهاء زمن المقبول به للوصول إلى نقطة النهاية ، ولكن رؤيته أفراد مجموعتي التي تكاد أن تصل رغم أنهم كانوا بدينين وكذلك رؤيته لشدة لهفة زملائهم أن يصلوا قبل إنتهاء الزمن المطلوب جعله يتأخر قليلا في رفع إشارة إنتهاء الزمن وينتظر وعندما أقترب أفراد المجموعة من خط النهاية رأيته ينظر إلي ويهز براسه ليدخل أفراد المجموعة إلى خط النهاية ثم يرفع يده معلنا إنتهاء الزمن ،ثم طلب من الملازم أول عزام ليصعد معه في الجيب ليسيروا في الطريق ويسجل جميع اﻷسماء المجندين الذين لم يتمكنوا من الوصول إلى نقطة النهاية وكذلك إسم مدرب فصيلتهم . في ذلك اليوم أذكر أن جميع المجندين من فصيلتي الذين يقيمون في دمشق غادروا المعسكر بإجازة مسائية رغم أن معظمهم لم يحصل على زمن ممتاز في الإمتحان ولكن زملائهم في الفصيلة الذين ركضوا بسرعات عالية من أجلهم بدلا من أن يذكرو أسمائهم هم عند وصولهم لنقطة النهاية ذكروا أسماء الدمشقيون دون أن يعلم أحد من المسؤولين.
ومر إمتحان الرياضة على أحسن ما يرام وأتى الإمتحان الأخير وهو إمتحان المسير العسكري. وكنت قد وضعت أفضل أفراد فصيلتي في الصفوف اﻷمامية والخلفية وعلى الرتل اﻷيمن الذي سيكون مرئي تماما من طرف مكان وجود مدير المركز. وراحت تمر كل فصيلة أمام منصة القيادة وﻷنني كنت أتابع فصيلتي وأعطيهم اﻹيعازات لم أرى مستوى بقية الفصائل لأقارنها مع مستوى فصيلتي، والشيء الوحيد الذي كنت متأكدا منه هو أن أثناء عبور فصيلتي أمام منصة القيادة لم يحدث أي خطأ وكانت حركة أفرأد الفصيلة واحدة وصوت أقدامهم وهي تضرب باﻷرض كان موحدا. وهذا ما جعلني مسرورا جدا من جميع أفراد فصيلتي.
بعد إنتهاء العرض العسكري. ذهب مدير المركز ومعه الملازم أول عزام إلى مكتبه ، وبقيت الفصائل في الساحة كل ضابط مع فصيلته، بعض الضباط ومنهم الملازم (م ) راحوا يوبخون بعض أفراد فصيلتهم ﻷنهم أخطأوا في المسير. أما أنا فرحت أهنئ أفراد فصيلتي ﻷنهم قدموا أفضل مايستطيعون القيام به وهذا كان يكفي .
بعد دقائق رأيت الملازم عزام يخرج من مكتب المدير ويأتي متجها نحو مكان فصيلتي، وعندما إقترب مني رأيت وجهه من شدة فرحه وكأن نورا يشع منه ،وعندما رآني أتهيأ ﻷقدم له الفصيلة وقبل أن أعطي أي إيعاز رأيته يرفع يده ﻷتوقف عن ذلك. وسألني والفرحة لا تزال تملأ كامل وجهه (هل تريد البقاء معنا ) فأجبته (إذا كان المدير يرى أنني أستحق البقاء أكثر من غيري ، وإذا كنت انت أيضا تريد ذلك ،لما لا فهنا أفضل من عودتي إلى اللواء) فقال لي (المدير معجب جدا بإسلوبك في التدريب وبشخصيتك كمدرب ) فإبتسمت وقلت له (إذن،سيحتفظ بي هنا لدورة أخرى) فقال لي (لا ، ستبقى هنا ولن تعود ثانية إلى اللواء فأنت من اﻵن فصاعدا تابع للمركز ،فقبل قليل تكلم مع قيادة الفرقة عنك ووافقوا على طلبه).
عندما سمع أفراد فصيلتي ما قاله لي الملازم أول عزام فهموا أن هذه المكافأة كانت ﻷن مستوى فصيلتهم كان أفضل من بقية الفصائل فصرخوا فرحين وراحوا يرمون قبعاتهم في الهواء ويصفقون ويرقصون . وفهم جميع الضباط ما حدث وبعد دقائق عرفوا أن مدير المركز قد إختارني أنا من بين الجميع لا فقط ﻷبقى دورة تدريبية أخرى ولكن حتى نهاية خدمتي العسكرية.
في آخر يوم من الدورة بدأ المجندون يجمعون أغراضهم ليغادروا المركز للإلتحاق بالقطعة العسكرية التي تم فرزهم إليها، وبينما كنت جالسا في قاعة الضباط أسمع نقاشات الضباط، رأيت المجند الطويل المشاكس الذي عاقبته بمشية البطة يقف وحيدا وبجانبه حقيبته على بعد ثلاثين متر تقريبا من قاعة الضباط وينظر إلى نوافذ القاعة وبسبب شدة اﻷضاءة في الخارج يبدو أنه لم يكن بإستطاعته أن يرى داخل القاعة بشكل جيد ، ومن نظراته المتواصلة شعرت بأنه يريد شيئا ما. فإقتربت من النافذة ليراني فلعله يطلبه مني. وبمجرد أن رأني رأيته يرفع يده ﻷنتبه إليه وشعرت أنه يريد التكلم معي ولكن على إنفراد بعيدا من بقية الضباط ،فخرجت وأتجهت نحوه ورأيته يتقدم مني بخطوات سريعة ويحييني تحية عسكرية ثم ينظر إلي نظرة غريبة ،نظرة تشبه نظرة اﻷطفال الصغار عندما يشعرون بالذنب وقال لي (هل تسمح لي سيدي أن اودعك ) كان سؤاله مفاجئ لي لم أتوقعه فمدت له يدي مصافحا وأنا أقول له (أستغفر الله، طبعا وهل من المعقول أن أرفض ) ورأيت ملامح وجهه تتغير فجأة وعيونه تحمر وتمتلئ بالدموع ،وتابع كلامه بصوت متقطع من شدة اﻹنفعال ( بعد معاقبتك لي،سيدي، أردت اﻹعتذار لما فعلته ولكنك رفضت إعتذاري..... عندما عاقبتني شعرت وكأنك كنت تتألم أكثر مني لهذا العقاب، ومن لحظتها بدأت أحتقر نفسي. ....أنا أسف ..أسف جدا ياسيدي) وراح يمسح دموعه التي انهمرت على خديه. في تلك اللحظة إقترب أحد المجندين ليودعني هو اﻵخر وسمع ما يقوله المجند ورأى دموعه ولا أدري ما أصابني أنا أيضا فرأيت عيناي تمتلآن بالدموع فمسحت عيناي وقلت له (إن الله وهبك قوة جسدية حاول أن تستخدمها في مساعدة الضعفاء وتأكد تماما بأنك ستشعر بسعادة لم تشعر بها من قبل ، هكذا أفعل أنا والحمد لله أشعر وكأني أسعد إنسان على سطح اﻷرض).فقال لي وهو يمسح دموعه (أعدك يا سيدي بأنني من اﻵن فصاعد سأكون إنسانا آخر يتمنى أن يكون مثلك، وتأكد بأني لن أنساك أبدا ) .ورأيت المجند اﻵخر تنساب الدموع من عينيه هو اﻵخر ويقول لي (يا ليت كان جميع الضباط مثلك).
وشيئا فشيء بدأ عدد المجندين حولي يزداد الكل يحاول أن يشكرني على ما فعلته من أجله ، أذكر مجند كان إسمه سامر وكان شكله كفتى بعمر 15 أو 16 عام وبسبب شكله الصغير كانت أمه قلقة عليه جدا، وعندما ذهب في إجازة وأخبرها عني وعما فعلته مع أفراد الفصيلة ،وكما أخبرني بكت أمه من فرحها وقال لي ( اﻵن يا سيدي أمي بعد الصلاة لا تدعي لي فقط ولكن تدعي لك أيضا أن يوفقك الله ويمدك بالقوة لتساعد جميع المحتاجين).
في ذلك اليوم أكثر من 700 مجند أراد توديعي ووصل حجم الحشد من حولي على اﻷقل 100 مجند و كان الحشد في تغيير مستمر يأتون إلي ويشكروني ويذهبون ويأتي غيرهم ولمدة ثلاث ساعات متواصلة كنت أسمع فقط دعواتهم لي بأن يوفقني الله.ويبدو أن وجود هذا الحشد الكبير قد لفت إستغراب الضباط فسألوا المجند الذي يعمل في خدمة الضباط لماذا هذا الحشد فأخبرهم بأن المجندين يودعونني، فراحوا من بعيد -كما أخبرني مجند الضباط - ومنهم الملازم (م) يلعبون كرة الطاولة وبطرف أعينهم ينظرون إلى ذلك الحشد وهم لايصدقون أعينهم فهذه أول مرة يرون ضابط في المعسكر يلتم حوله مثل هذا الحشد الكبير لتوديعه.
وهكذا بقيت في المركز ، حيث كنت في كل شهرين أقوم بتدريب دفعة جديدة من المجندين وكالعادة كنت بدلا من أقوم بتدريبهم على القتال وخوض الحروب كنت أنمي في داخلهم الشعور بعاطفة السلام هذه العاطفة التي هي أساس إثبات وجود ذلك الجزء من روح الله داخل كل إنسان.