ونجتر هذه الذكريات الجميلة
ونجتر هذه الذكريات الجميلة
سليمان عبد الله حمد
الشاعر الكبير د.مبارك حسن الخليفة شاعر سودانى من جيل الرواد ومعاصر لهم، يسبقه
جيل محمد أحمد محجوب ويأتى بعده جيل محمد عبد الحى، يعرفه جيل السبعينات، وله كثير
من الأغانى يشدو بها جمع من المطربين، وكانت له آراء لم تعجب نميرى أنذاك، فسجنه
مثلما سجن كثير من المعارضين أيامها، مثل الفنان القامة محمد وردى والفنان التشكيلى
العالمى ابراهيم الصلحى، وأثر هذا كثيرا فى وجدانه وهو يرى نفسه حبيسا بين جدران
صماء لمجرد إبداء رأى، وعبر عن تلك الفترة ببيت فى قصيدته (شوق وعناق ) بقوله:
(وأنسى لحظة أنى شريد وأنسى لحظة حزن اغترابى)
ويعود مرة ثانية ليقول فى نفس القصيدة:
(وما أبقيت للخرطوم أمى مغربتى ويحزنها اغترابى..!)
أى تحلم بعودته إلى أحضانها وهو ابن أم درمان العاشق لها، وخرج من السجن إلى دبى فى
منتصب السبعينات وكانت صحراء يباب جافة، وعبر عن تلك الفترة ببيت فى نفس القصيدة
بقوله:
(وأنسي كل صحراء يباب أرقت على مفازتها شبابى)..
ثم جاءته إفادة من اليمن توضح بأنهم يطلبون أستاذا سودانيا لجامعة عدن، فترك صحراء
دبى غير آسف وهرول إلى اليمن وعبر عن فرحتة تلك بقوله ( وجاء الفجر وضاحا صدوقا
توشى بالسنا خضر الروابى)
ويقول فى موضع آخر يبثنا لوعة غربته وفرحته بلقاء اليمنيين:
( وضمتنى "تريم" وكم أعانى من الهجران من فقد الوداد )
( نعمت اليوم إنى بين أهلى نفوس الناس مشرقة شهودى )
وتريم مدينة فى حضرموت وهى واحة خضراء غنية بالنخيل..
ولقد حاولت أن أتمثل الحالة الوجدانية التى عاشها الشاعر فى تلك الفترة، فدمجت
أغنية المطرب اليمنى صداح الصوت (كرامة مرسال) وهو مطرب الوحدة اليمنية، الذى عبر
فى أغنيته عن العناق الأبدى بين صنعاء وعدن، وبين صوت أمير النغم أحمد المصطفى وهو
يشدو برائعته أنا امدرمان (معشوقة الشاعر) وقد تم هذا العمل الفنى فى التسعينات
والكمبيوتر لا زال يخطو خطواته الأولى مترددا يريد أن ينسجم معنا ونحن خائفون
هيابون نتردد فى التعامل معه.. وتوفى كرامة مرسال (لحسن حظه) قبل أشهر قليلة من
انفجار الأوضاع فى اليمن رحمه الله..
عدت من زيارته أنا وطلبتى إلى موقعنا بجامعة صنعاء (على مسافة 4 ساعات من عدن)
وبقينا أياما وأسابيع نجتر هذه الذكريات الجميلة ونعرض الشريط المسجل مرارا
وتكرارا، وبعد أشهر قليلة وجدته يتصل بى ويعلمنى بقدومه إلى صنعاء لحضور الإجتماع
السنوى لاتحاد الكتاب اليمنيين وحضرت الإجتماع الذى صال وجال فيه بقصائد جديدة عن
اليمن وروابطها العربية وخاصة بالسودان وعن حضارتها التليدة رابطا حضارة سبأ ومأرب
بالحضارة النوبية القديمة.. وكان فكها فى هذا الإجتماع كثيرا وأضحك الحاضرين بملحه
وخفة ظله، وفى ختام اللقاء قال رئيس اتحاد الكتاب اليمنيين د. عبد العزيز المقالح
وكان رئيس جامعة صنعاء آنذاك: لولا دكتور مبارك.. لم يكن لاجتماعنا هذا طعما ولا
رائحة..!
جاء الشاعر الكبير إلى السودان منذ أشهر قليلة وكأنه كان يشعر بأن الأمور فى اليمن
تجرى من سيئ إلى أسوأ.. وهو الآن قابع بشقته الصغيرة بحى بانت بجوار مدرسة المؤتمر
الثانوية.. عاد إلى أم درمان التى أحبها حتى النخاع، ليسكن على ضفاف النيل معشوقه
الأبدى الذى تجده ماثلا أمامك فى كل قصائده.. فقمت ونفضت الغبار عن أقراص مدمجة
كانت فى حوزتى لخمسة عشر عاما مضت، فأحييت هذه القصائد من مرقدها الذى طال،
وأنزلتها إلي قروبكم الرائع كما أنزلتها فى اليوتيوب (منتديات قرقود).. تكريما له..
لعل الجيل الحالى يتعرف عليه من خلالها..
عاد الطير المهاجر إلى وطنه.. ولم يجد فى المطار من يستقبله إلا المقربين من أهله..
ومنذ جاء، لا زالت قنواتنا الفضائية مشغولة بأخبار (الإقبال الكبير) على صناديق
الاقتراع ، ولازالت برامجها تزدحم بمطربين لم يسمع بهم أحد، ومقابلات مع نساء ورجال
يتحدثون عن محتويات ومكونات عزومات الأفراح وعن عادات الزواج فى السودان..!