مواهب مدفونة
د.عبد الغني حمدو /باحث وأكاديمي سوري
قد يولد الإنسان ويعيش طويلاً في هذه الدنيا قبل أن يغادرها , ولكن قد تدفن معه مواهب عظيمة لم يستطع ان يكتشفها في نفسه لكي يُسعد فيها ويسعدُ من حوله فيها
الإنسان كائن خلقه الله بصفات شكلية فاقت كل المخلوقات بكمالها وحسنها وتقويمها , وفي نفس الوقت أوجد في داخله عمقاً غريبا من المعاني ومن الإبداع ومن الشعور تحدى فيها الله الملائكة , ومن عمق هذا التحدي أمرهم بالسجود لآدم عليه السلام
ليس في الإنسان العقل فقط هو المتحكم وهو المبدع , فالعقل لايخرج عن كونه حكم على شعور وأحاسيس انطلقت من نفس الإنسان , فترى كل شخص يبدع في مجال معين , وكل فرد له ميزات تختلف عن أخيه
لننطلق من الواقع السوري الآن وثورته المباركة , فلو ترك الأمر للعقل فقط فمن المستحيل أن تكون هناك ثورة , فالعقل سوف يوازن ويتقدم ويتراجع وبعدها يجعلك في حيرة من الأمر تقذف بك للإستلام والرضوخ للواقع الذي أنت فيه , وهذا ماأطلق عليه حسون عندما وصف أهل حلب بالعقلاء في أنهم لم يشتركوا في الثورة ضد النظام
وانطلقت الثورة وسالت دماء الشهداء الزكية تطهركل أرض سورية المباركة , واكتشف الشعب السوري في داخله أمور لم تكن لتخطر في نفس أي أحد منهم من قبل ولا يمكن إحصاؤها ولكن يمكن النظر في البعض منها :
1- وجد نفسه أن الخوف الذي كان يصوره له عقله ماهو إلا وهم غرس في داخله واستطاع تجاوزه بكل سهولة
2- ثقافة النظام والتي بنت فيها ثقافة الشعب السوري على الذل والخنوع ورضي فيها عقله وهو يكاد ينفجر غيظاً منها , ظهرت أمامه أن ثمن الحرية والكرامة مهما بلغت قيمتها فالثمن يُقدم من أجل الحصول على الحرية والكرامة وبدون النظر للوراء والعودة إليه مرة أخرى
3- الثقافة والتي جبل عليها الشعب هي ثقافة الإستبداد والتي تفرق بين النفوس وبين الأخوة والصداقة وعدم الغيرة على الآخرين , والتفكير فقط في المصلحة الشخصية , اكتشف بعد الثورة أن تلك الثقافة مزيفة , وأن العزة والكرامة تأتي في التضحيات من أجل الآخرين , حتى تكاد تصبح النفوس كلها نفس واحدة , وما تسيل نقطة دم حتى يشعر كل حر بأن هذه النقطة سالت من جسده هو لامن جسد شخص آخر
4- كان يشعر الغالبية أنهم جبناء ولا حول لهم ولا قوة , ومنهم من ركن للدعاء في الزوايا المظلمة ومنهم من استسلم لها ولكن لو سألت هؤلا ء الفتية اليوم والذين يتحدون الصعاب والإجرام , هل تشعر بداخلك أنك أصبحت شجاعاً وهل تشعر بالفرق في داخلك من قوة التحدي والمغامرة والمناصرة ؟ فحتما سيكون جوابه الآتي :
الآن فقط أشعر بأنني رجل بكل معنى الكلمة , والآن فقط استطيع أنا أقول أنتصر أو أستشهد وهنا تساوت عنده الحياة مع الموت , منطلقاً من مبدأ اطلب الموت توهب لك الحياة , وليس من باب اليأس فاليائس يفضل الموت لأنه لايريد الحياة , أما هو يريد الحياة فإن لم يكسبها هو فحياته هدية لكرامة بني الإنسان في الوطن العزيز
5- سيكتشف هذا الجيل الرائع بعد نجاح الثورة وسقوط هؤلاء المجرمين بأيدي هؤلاء الأحرار , بأنه كان يمتلك كوامن ابداعية في داخله ماكانت لتظهر أبداً في ظل حكم مستبد وفاسد كالحكم الموجود الآن في سورية
6- سيكتشف أن إبداعاته السابقة والمحصورة في الفساد وطرق اغتصاب حقوق الآخرين والرشوة أن هذه الإبداعات سدت أمامه كل تطور يفيد البشرية ,
فسياسة النظام هي الموالاة وبعدها لك ماتريد من كل سبيل ملتوي يخص نفسك في متعة عابرة دونما رقابة أو ضمير
7- سيكتشف الإنسان أن الملك العام هو أغلى من الملك الخاص , وأن الزهرة الموجودة في الحديقة العامة هي ملك للجميع ولا يحق له قطفها , وليس كما كان قبل الثورة , فكل مايمت للمال العام هو هدف لكل شخص لتدميره , لأنه استقر في قرارة نفسه كل ملك عام هو للنظام ولا مانع عنده من تدميره , سيكتشف أن تلك الزهرة هي أساسية في بناء الوطن وفي بناء الوطن على هذا الآساس فالسعادة عامة للجميع
وأخيراً سينظر في داخله ويقف متنفساً هواءاً صافياً على تلة عالية في يوم من أيام تموز ليقول في داخله أو ينادي بأعلى صوته , هي الحياة بمعناها الإنساني وهذه إبداعاتي اهديها للأجيال القادمة لأبناء وطني العزيز
فاليأس والجبن والتشاؤم والخوف ذهبا مع الريح وبقيت البطولة والعطاء والخير بيد هؤلاء الأبطال في النصر القريب بإذن الله