الحنين إلي أيام ميدان التحرير

أ.د. ناصر أحمد سنه - كاتب وأكاديمي من مصر

[email protected]

لا يكاد يمر يوم أو يومين، أو أكثر قليلاً، إلا وتقودني قدماي إلي ميدان التحرير.

كانت آخر مرة عشية إعتزام "تحالف للصوفيين والليراليين" تنظيم وقفة "في حب مصر" بالميدان عقب إفطار يوم الجمعة الموافق 12 من أغسطس. وجدت الميدان وفي وسطه حديقته المستديرة التي كانت مركز ثقل الإعتصامات، محاطة بجنود من الأمن المركزي بدروعهم "الشفافة" وهم علي أهبة التحفز والإستعداد في حين كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة مساء.

وقفت حيثما أعتدت أن اقف، وحيثما تسنح لي الظروف الوصول إلي هذا الموقف بجوار موضع المنصة الرئيسة، وأمام بائع الصحف الشهير ومطعم " هارديز" المجاور للجامعة الأمريكية. مستندا بيدي علي السور الحديدي المُحيط بالميدان. لم أكن بمفردي فهناك العديد، مثلي، يحدقون في باحة الميدان. بينما هناك نفر قليلون جالسين علي الجزر الصغيرة المتناثرة هنا وهناك، وعلي المقاعد التي أمام "مُجمع التحرير".

عاد بي الفكر، وشدني الحنين إلي "وجبات كنتاكي"، و"سيل الدولارات الخضراء" التي كانت تنهمر علي المتظاهرين أيام الثورة.

شدني الحنين إلي الفضاء الرحب .. المكاني والزماني للميدان.

الميدان ـ ميدان التحرير ومداخله ومخارجه ـ الذي جمع بين جنباته ـ خلال الثمانية عشر يوما الرئيسة وبعضا من أيام بعدهاـ كافة الأطياف والألوان والمشارب والتوجهات. كلهم يظللهم أعلام مصر.. كبيرها وصغيرها.

تيار هادر من كل شوارع ومدن القاهرة، بل الأقاليم/ يمموا وجوههم شطر ميدان التحرير. وكذا في كل "ميادين التحرير" في السويس ومدن القناة وسيناء، والأسكندرية، وكل محافظات الوجه البحري. وكذا الفيوم وبني سويف وكل مدن الوجه القبلي.

لقد جمعهم هدف واحد.

يحدوهم غاية واحدة، جعلوها نصب أعينهم.

وصدحوا بهتافات وشعارات ولافتات وإغنيات واحدة موحدة، لا حزبية ولا جهوية وفئوية.

- "عِلّي وعِلّي وعِلّي الصوت .. اللي هايهتف مش هايموت".

-"أرحل .. أرحل".

- "مش هانمشي.. هو يمشي".

-"مسلم ومسيحي.. أيد واحدة".

-"الجيش والشعب.. أيد واحدة".

قطع علي تداعات افكاري تلك.. جدال بين أثنين. لكن الجدال الآن يختلف عن الحوار والمحاورة ولغة التواصل زمن الميدان "الواحد".. طوال ساعات النهار والليل.

شدني الحنين إلي ذلك الشعور الواحد الذي كان يغمر الميدان.. توحداً، وتعاوناَ، وتوافقاً، وتكافلاً، وتعاضداً. هذا يعطي شربة ماء، وآخر يهبك تمراَ، وثالث يعطي كسرة خبز وقطعة من الجبن ألخ. وهذا قد مر صباحا فأحضر شنطة "سميط" يقوم بتوزيعها علي من يقابله من متظاهرين. وهؤلاء يحملون جريحاً إلي المشفي الميداني. لقد أخرج الشعب المصري اروع ما عنده، طاويا صفحة استمرت ثلاثين عاما تحول تغيير كينونته وشخصيته وطبعه وطباعه.

روح وثابة فوارة سرت في نفوسهم.

تضحيات جسم قدموها، وعقدوا العزم علي المزيد.

"فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا" (الأحزاب: 23).

نفوس قضت، وارتقت إلي بارئها.

وأخري أعتقلت، ودماء سالت، وعظام كسرت، وأطراف بترت، وجروح نزفت، وأعين فقئت.

والغضب هو الغضب، والصمود هو الصمود، والتحدي هو التحدي، والإصرار هو الإصرار. وقد كانت ثمار قليلة. وننتظر أخري كثيرة.

مضت الأيام.. ايام الميدان الجميل.. "الواحد/ المُوحد".

كرت أسابيع وشهور.

وغام الموقف.. بعضاً ما.

تبدلت الأحوال.. نعم، بعضاً ما.

افترقت الجموع والحشود.. نعم، بعضاً ما.

دب شقاق ونزاع حول مغانم.. نعم، بعضاً ما.

برزت مطامع.. نعم، بعضاً ما.

سعي البعض لإختطاف الثورة لحسابه.. نعم، بعضاً ما.

توجس وشك البعض في البعض.. نعم، بعضاً ما.

تمادي أعداء الثورة، وفلول "الحزب المنحل" في غيهم.. نعم، بعضا ما.

يريدون عودتهم إلي تلك الإقطاعيات (الدول).. ليسرقوها وينهبوها ويبيعوها ويتوارثوها.. صغيراً عن صغير، ليس كابراً عن كابر.

ظهر لاعبون جدد علي مسرح السياسة.. نعم. مكسب، وقلق ومخاوف.

تحرر الشعب، واستعاد سلطته المسلوبة، وسيستعيد هويته، وقوته، ومكانه، ومكانته، وأمواله المنهوبة.

قال الشعب كلمته في استفتاء غير مسبوق.. نعم. لكن لم يحُل للبعض.

يريد "مدعو الديموقراطية" الإلتفاف عليه، و"تكبيل الشعب وفرض وصاية عليه" كونه ـ برأيهم ـ "لم ينضج ديموقراطيا بعد"، و"الكل يدعي وصلاً بليلي".

جملة القول، وفيض الحنين:

هل هي ثورة؟.. نعم، وهي غير مسبوقة.

"الثورات تفشل".. لا، ليس علي الإطلاق.

"الثورات تأكل أبنائها".. لا، ليس علي الإطلاق.

"نصف ثورة، يعني مزيداً من أكفان الشهداء".. نعم، وحتماً.

الثوار يختلفون، ينقسمون، يتلاسنون.. يتقاتلون. أمر وارد، لكن ليس علي الإطلاق.

مصير الثورات بيد الثوار.. شباباً وشيبة.. نعم. وهم ناجحون حتي الان. وسيثبت "اليوم التالي" المزيد من النجاحات والإنجازات، وتحكيم العقل والمصلحة العليا علي كافة المصالح الشخصية والآنية.

توجد محاذير وعثرات وتجاذبات وأزمات.. هكذا شأن الثورات.

توجد سلبيات وإخفاقات، نعم، لكن توازياً مع أنتصارات وإنجازات. هكذا شأن الثورات.

هل ثمة يأس او ضجر أو ملل؟.. كلا. "فلا حياة مع اليأس، ولا يأس مع الحياة".

يبقي أنه ليس من شك في أن القادم أفضل بكثير مما كنا فيه.

ليس ثمة خيار سوي المضي في الثورة (حـُلمنا الذي بدأ يتحقق) حتي النهاية:" ثورة.. ثورة حتي النصر، ثورة.. ثورة في كل شوارع مصر".

نأسف كثيراً، يا مصرنا الحبيبة، علي تأخرنا في الثورة. لكن أن نثور متأخرين خير من ألا نثور علي الإطلاق.

وسيبقي الحنين، متجدداَ، إلي أيام وسنوات الميدان.

عدت أدراجي ـ ليس بخفي حنين ـ لكن بكل أمل ورجاء وثقة في الله، العلي القدير، أن يتمم علي مصرنا الحببية، وعلي تونس وليبيا واليمن وسوريا وغيرها، نعم الحرية والتحرر والكرامة والأمن والرخاء، والهناء، والسلام.

وتحية إلي الشهداء.. شهداء الثورة العربية الكبري، ودعاء بالشفاء للجرحي، والحرية للأسري.

وتحيا الثورة.. رغم أنف أعدائها، في الخارج والداخل.