وذلك في الله

رقية القضاة

في بيت سيد قريش ،بين المكارم والمآثر ،والطيب والشرف والمجد ،وفي احضان هالة بنت وهب ،نشأة تلك الدرة القرشية {صفيّة بنت عبد المطلب} بين إخوة سادوا على أقرانهم واخوات شرفن بين لداتهن ،قد تشربت نفسها قويم الخلق وجميل الصفات

وتمر بها الأيام وإذا هي زوجة  للعوّام بن خويلد ، الفارس القرشي وخال اولاد رسول الله صلى الله عليه وسلّم من خديجة رضي الله عنها، وترزق بولدها الزّبير ،وتسرّبه  نفسها،وتنذر نفسها لتنشئه رجلا فارسا جريئا ،حتى جعلت لهوه بري السهام وصنعها ، وأدركت أن الرجال تصنعهم أمهاتهم ،فهم إمّا رجال وإمّا أشباه رجال ولم تقبل لولدها أن يغدو شبه رجل بل أرادته سيفا ورمحا وترسا وقوة ،ولم تكن تدري بعد انّ هذا الصبي الصلب سيكون له شأن ذات يوم ،حين يتغير وجه مكة وما حولها من أرض الله  

وفي مكة الكرمة ،بين جبالها وشعابها وحول بيتها العتيق،يتأذّن رب العزّة جل شأنه بإرسال رسوله صلى الله عليه وسلّم ،بالهدى ودين الحق ،وينطلق المبعوث رحمة للعالمين ،في رسالة التغيير ،ما بين مجتمع تفككت عرى الاخلاق والتكافل الاجتماعي فيه واستبيحت الحرمات ،ومابين عقائد شرك بواح لا منطق فيها ولا عقل ،ومابين قبلية تتناحر فيها العشائر ،ويقتتل فيها الرجال وتباد فيها الذراري ،من أجل ناقة أو فرس ،فتكون رحلة التغيير والاصلاح الصعبة الشاقة يبدؤها نبينا صلى الله عليه وسلم سرا وثمّ يؤمربالجهر بكلمات الله وشرعه  ويصبح الزبير بن العوّام الفارس الذي صنعته أمّه بفضل الله حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم،وقد أسلم وهو فتى لم يتجاوز اثتي عشرة سنة

ويقف الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم على الصفا،وينادي قومه وينذرهم ويبسط لهم الخير الذي أرسل به ،والعدالة والمساواة الحقّة بين الخلق ،وينذرهم لقاء الله وحسابه،ووقوفهم وحدانا بين يديه ،لا يغني أحد عن أحد يومئذ شيئا ،وينادي الرسول صلى الله عليهوسلم عمّته صفية بنت عبد المطلب وابنته فاطمة الزهراء كما نادى عشيرته من قبل قائلا:ياصَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا, وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا))

وصفية التي اتبعت ابن أخيها رسول الله صلى الله عليه وسلّم ،ورضيت بالله ربا وبمحمد رسولا وبالاسلام دينا،وقد وطّنت النّفس على الصبر والثبات والتضحية ابتغاء وجه الله ،ولم تترد في الهجرةمن مكة إلى المدينة تاركة أرضها ومالها وذكرياتها خلفها مقبلة على ربّها برضى وتسليم

وتستقر الجماعة المسلمة مع نبيها صلى الله عليه وسلّم في المدينة المنوّرة،وتنتهي غزوة بدر الكبرى وقد انتصر الله للمؤمنين وشفى صدورهم من عتاة الجاهلية وقادة الشرك وطغاة مكة وفراعنتها ،وكسر شوكة الشرك وأذلّ اهله

وتجمع قريش شتاتها وتعود لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ويستشهدمن المسلمين سبعين رجلا ،فيهم حمزة بن عبد المطلب اسد الله وأسد رسوله،وصفية في الجيش تداوي الجرحى وتسقي العطاش وتجاهد في سبيل الله،و يخشى الرسول صلى الله عليه وسلّم عليها من الحزن والأسى حين تعلم بمقتل شقيقها حمزة فينادي ولدها الزبير قائلاالمـرأةَ يا زبيـر, المرأةَ يا زبير، أمَّك يا زبير،  فأقبل عليها الزبير، وقال: يا أمـي إليك، يا أمي إليك، فقالت له: تنحَّ عني لا أمَّ لك، قال: إن رسول الله يأمرك أن ترجعي، قالت: ولمَ؟ إنه قد بلغني أنه مُثِّل بأخي، وذلك في الله، فقال له النبي الكريم: خلِّ سبيلها يا زبير، فخلَّى سبيلها  حتى وقفت فوق رأس اخيها فاستغفرت واسترجعت

كانت حزينة غاية الحزن ولكنها محتسبة صابرة ،فالقتيل أخيها الحبيب ،والجسد الطاهر قد مثّل به ،ولكنها أرادت أن يكون صبرها في ميزانها ،وقد شرّفها استشهاده في سبيل الله ،فتقول لولدها {ذلك في الله } لم يقتل أخوها لدنيا ولا في نقيصة بل في جلال الله ولأجله جلّ وعلا

وتحين غزوة الأحزاب ،وقد انتشت قريش لما احرزته يوم أحد،وظنّ فراعنتها أن الإسلام قد خذل وأن الشهداء الذين اصطفاهم ربهم ،قد أضعف فقدهم الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه ،ولم يدرك أولئك الحمقى الجهلاء ،أن الامة التي تدفع ثمن النصر من أبناءها وشبابها وعلماءها وخيارها ،إنّما هي أمة منصورة حتما بإذن ربها ،وأن إعلان نصرها وطقوسه وجلاءه سيكون في موعد يرتضيه ربّها العزيز الحكيم

 ويتفاوض كبار حمقى قريش مع كبار خبثاء اليهود وبعض زعماء الجهل ،في القبائل المحيطة بيثرب،ويزحفون نحو طيبة الطيبة ،ويستعد لهم جيش المسلمين بالإيمان والقرآن ،وبما استطاعوه من قوة ومن رباط خيل ،وقد حفروا حول مدينتهم خندقا لحمايتها،وتهبّ الرّيح التي جندها الله لرسوله فتقلب كيان الأحزاب ،والرسول صلى الله عليه وسلم يريد ان يعرف خبر الأحزاب ،خلف الخندق،ولكن أي من المسلمين يستطيع ذلك ويسأل الرسول صلى الله عليه وسلّم أصحابه : "مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟" قَالَ الزُّبَيْرُ : أَنَا. ثُمَّ قَالَ: "مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟" قَالَ الزُّبَيْرُ : أَنَا. فَقَالَ النَّبِيُّ : "إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا، وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ

".

ويضع المسلمون النساء والأطفال والضعفاء في حصن لحسان بن ثابت ،لحمايتهم من العدو ،فيهم {صفية }رضي الله  عنها أم الزبير بن العوام الحواري المجاهد،وقد علا حس الجهاد لديها ،ووجدت نفسها تقوم بحراسة الحصن دون ان يندبها لذلك أحد إلّا يقظة فكرها وحسن إدراكها ،والحصن قريب من بني قريظة ،وهم أهل بهت وغدر وقد نكثوا عهدهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ،وباتت تحرس في سبيل الله ،وترى يهوديا يدور حول الحصن عارفا بضعف من فيه من النساء والولدان ،وقد سوّلت له نفسه إرهابهم وإيذاءهم ،وخاب فأله،فهو لا يعرف بعد ، ان أمة محمد كلها برجالها ونساءها وأطفالها ،تحيا بدينها وتنتصر له وتموت عليه  فتقول لنفسها والله لآمن أن يدل على عوراتنا من وراءنا من اليهود وتحمل صفية عمودا وتلتف من خلف اليهودي وتهشم به رأسه القذر ،ثم تقطع ذلك الرأس وتقذفه من فوق الحصن ليتدحرج بين أرجل اليهود ،فيدركهم الرّعب وتكسوهم الخيبة ولا يلبث الاحزاب أن يهزموا ويولون الدبر ،فيسير صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة ،فيستاصل شافتهم ويقضي عليهم جزاء بما غدروا ،ونكثوا بعهدهم،وهو دأبهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها

{اللهم اهدنا واهد بنا وردنا إليك ردا جميلا يارب العالمين}