تمرّدي على العكاز
خواطر شبه ذاتية
جلال / عقاب يحيى
فجأة، وبعد بضعة أعوام من تعايش الاستكانة، أو الصلح مع عكازي قررت الانتفاض، والتمرد عليه وعلى كل فكرة ومشروع التعكّز لألتحق بصفوف الشباب الذي يملأ الساحات العربية، ويعلنها ثورة شعبية تفاجؤنا، فتقتلع عقود الاستنقاع والبيات الطويل، وحقننا، حتى ولو كنّا مُتّكئين، وغير راغبين، بدماء جديدة تجري في عروق هرمة، وأوردة صلّبها الاستبداد وزمن الانتظار الطويل فاستفاقت بقوة، وبعضها أصيب بالتصابي، أو عودة الشيخ إلى صباه، فدّبت الحميّة، وانتشى المتراكم زخماً يملأ مواقع الأنترنيت كتابات ودعوات وصيحات .
والحق أن علاقةً من نوع خاص نشأت بيني وبين العكاز لقرابة أعوام ثلاث ألفته فيها، وأرغمته على قبول وزني وأمزجتي، وتقلّبات الأيام، رفضت فيها، بوعي وتصميم شرقيين أصيلين، الاستماع لأنينه وشكاويه، ومحاولاته التمرّد، ولو اهتراءً، أو تقوّساً وانحناءً، فمارست(حقي التاريخي) في قمعه قمعاً منهّجاً، وحاقداً مصاباً بردّ فعل الخزين الطويل، وفشّات خلق الاحتقان المديد جعله يستكين، ويئنّ بصمت أقرب للنحيب، وقد شمخ استبدادي الدفين ـ الجاهز وهو يدخله بيت الطاعة، ثم أقنعت نفسي بأنه راضِ عني كل الرضا بدليل أنه لم يعد يهشّ ولا ينش، ولا يتحرّك ببنت شفة، خاصة وأنني نجحت في علاج أماكن الاهتراء ببعض اللزقات والأصبغة .
ورغم ذلك جاءتني هبّة التمرّد موجة قوية عاتية لم أستطع مقاومتها، فقررت، في لحظة اندفاع ـ كعادتنا ـ أن أخلعه خلعاً بائنا، وأنطلق . ولولا زحام شعارات المرحلة كنت سأرفع شعاراً مليئاً بالمعاني عن أنني، وبصفة جمعية، أريد إسقاط العكاز، بل وإلغاء ذكره من قاموس استخدامي، خاصة وأن فعل التعكيز قد نُخر وذُبح على مصالح الغير، وأبانت الوقائع أنه" ما حكّ جلدك مثل ظفرك" حتى لو قلّموا، أو شلعوا أظافرنا .
****
فجأة طار بيّ الزمان أربعين عاماً ويزيد، يوم كنت شاباً يضجّ حماساً، ويمور بأفكار يخالها أنها ستجول الوطن من محيطه إلى خليجه فيرتجّ الزمان لفجر عربي وحدوي، تقدمي، اشتراكي، خصوصاً وأن حضور الثامن من آذار ينكش الذكريات القديمة ويعيدني إلى أيام المظاهرات وبحّ الصوت والسكر نابات، واعتلاء الأكتاف، وحفظ معلقات الشعر البعثية التي يجب الصراخ فيها بأعلى الصوت عن الثورة الرائدة، والبعث العظيم.. الذي :
كذب الدعّي بما ادّعى فالبعث لن يتصدّعا
فيحضر الشهيد كمال ناصر بحولياته السنوية لمناسبة ميلاد الحزب :
يا رائد البعث هذا يوم مولدنا فدّاك بالخلد من بالروح فدّاه
ويزاحمه الشاعر يوسف الخطيب ب :
أكاد أومن من شكّ ومن عجب هذي الملايين ليست أمة العرب
لكنه يستدرك : أكاد لولا تشقّ الليل بارقــة يا شعلة البعث ردّي حالك الحجب
ثم يتحفنا ببيت التكرار الذي رددناه كثيراً العقود اللاحقة بعد الانقلاب" التصحيحي" :
لعنت تشرين باسم اللد ألعنه وباسم جرح على اللطرون منسكب
وقد حاول فلحوط أن يفلحطنا وهو يدّق راية البعث فوق الشمس، دون خشية من لهيبها الحارق، لأن العنف الثوري أشدّ لواظاً منها، ولأن علمنا من النوع المقاوم الذي لا يتأثر بالعاديات، فهجرناه وعياً متقدّماً . وفي سنوات مبكرة كانت تجاربنا، وقراءاتنا الكثيفة ترشدنا إلى أزمة، بل أزمات مخبوءة تحت وهج الشعارات الكبيرة، وأطنان الوعود الخارقة، وقد أخذنا باكتشافها لنعيش نوعاً من غربة بين الواقع وما نقرأ . بين أحلامنا الواسعة، الجامحة وما نراه ونلمسه .
والحقيقة أننا كنا أشدّ إيماناً بالعنف الثوري، والمشروعية الثورية التي تبيح لنا اختراق كل القائم من بنى وقوى، وقوانين، ومؤسسات، لأن الثورة، بمفهومنا : هي التغيير الثوري الجذري، الحاسم.. الذي لا يقبل التردد، والآخر، أي آخر، وإذ بالأحادية تنبثق مارداً شرقياً، شمولياً يتلوّن بالرفاق السوفييت وغيرهم لتعطي نكهة خاصة هي بعض خصوصيتنا المحفوظة غيباً، والتي ترنّمنا بها أغانياً ومواويل شرقية(رغم هبوط معنويات شعار الخمسينات : لا شرقية ولا غربية) وتآكله لصالح المطالبة بالحلف الاستراتيجي مع الثورة الاشتراكية العظمى ..
*****
كانت الشبيبة نقلاً لبذور من هناك، إلا أنها شبّبت أفكارنا، ووضعتنا أمام تحديات التجديد، وفوران التثوير لكل شيء، وحرق المراحل، وتبعيث المجتمع والكل في سلسلة متواصلة(من المهد إلى اللحد) تستجيب لشيء يشبه العسْكرة، لكنها العسكرة الثورية، المتمردة .
وعلى ذكر العسكرة والعسكر، تولّدت لدينا حساسية خاصة منها، بعضها فطري، وبعضها كالفطريات، خصوصاً وأن الحزب المُشبع بالشعارات الكبيرة لم يكن بمستوى استلام الحكم، أو تحقيق الهيمنة(قبل قراءة كتب مهدي عامل والتعرّف على الفروق النوعية بين الهيمنة والسيطرة، والأقلية والأكثرية، والموضوعي والذاتي)، وحضر العم لينين كثيراً إلى درجة أن كثيرنا نسي الأصل : ماركس وصديقه المظلوم أنجلس، وباتت الكتيّبات الصغيرة التي تقذفنا بها(دار التقدّم) مدخلاً، ومقدمة للأعمق والأكثف، ولانتماء يزيد الغربة غربة، فنكتشف كمّ الفجوات فينا، وكمّ المسافة بين الشعارات الكبيرة وبين الواقع، ونصل إلى نتائج هامة عن القائم، وعن دور العسكر الظاهر والمخفي، وأحوال الحزب عند الوصول للحكم، وصراعات القيادات، واليمين واليسار، واليسار إلى الأمام، واليسار الهروب، واليسار الطفولة والمراهقة، واليسار محاولة ملء الثقوب، فتحدث فينا ازدواجية أقرب للفصام، بين ما نقرأ وما صار إليه وعينا، وبين الواقع والحزب الذي إليه ننتمي.. وكأنّ مقولة المراهنة على القادم، وعلى الشباب بشكل خاص كانت الجسر، بل العكّاز التي نتوسله، فنكثر البربرة والتبرير، وركوب أحصنة الأمل والتغيير(من الداخل) .
*****
التهبنا أكثر ونحن ندخل معمعان الصراع بين اليمين واليسار الذي ظهر بألوانه الخاصة بيننا، فانتمينا ـ تلقائياً إلى (معسكرنا) ضد اليمين، وبالذهن الحماسي أن تلك بداية التحوّل، والتنظيف، وبناء" الحزب الثوري" مالك النظرية الثورية والمنهج العلمي، وأشياء كثيرة عجّت بها رؤوسنا المندفعة بقوة الشباب، والأمنيات، والأحلام التي لا تسعها دنيا قطرية فتجوب الوطن العربي، ومنه إلى العالم للقاء مع الثورة العالمية، بعد أن نتقدّم إليها بثوبنا الخصوصي المضرّج بإبداعنا عنها .
مرة أخرى، ومرات نكتشف قوة العسكر، ودورهم حين حسموا الصراع بطريقتهم، ومن خلفهم الأغلبية الساحقة من التنظيم المعبّأ ضد اليمين.. والدخول في معارك التصنيف، وفتح الدفاتر القديمة، واتساع أفق الأحلام الثورية حتى اللا مدى، وإذ ببعض التنظيرات تخرج علينا عن الجيش الفصيلة من الحزب، والجيش العقائدي الذي لا مكان فيه إلا لمن يؤمن بالبعث، بل وباليسار منه، وإلا فالتصفيات جزء من عملية التثوير، والحرب ضد الرجعية والبرجوازية واليمين ..وتتالى قوائم التسريح تحت الشعارات الجديدة : تنقية الجيش من اليمينيين فيختلط الحابل بالنابل، وتكثر الوشوشات الهامسة عن الانتهازية، وسراديب التخلف، ومكوّنات المكنون الرابض في قاع عقول الكثيرين، وقد بات اليسار موضة المنتصرين فيكثر المتسلقين المتزحلقين، بينما تتعزز مقولات بناء الحزب ليكون القائد والسيد وليس الغطاء والبرقع، فتتعدد الشعارات وتكبر انتفاخاً، وتتخصّب بالمعقول واللامعقول، الراهن بالاستراتيجي، الممكن والنهائي، الكل بالكل، والكل ينتظر يوم تحرير فلسطين القادم على أمواج الخطب الحماسية، والأحلام الممزوجة بصهيل فرسان السيوف، وحداء الأغاني النارية التي تقوّي غرائز العواطف فينتشي زمن الأماني ..
*****
وتأتي الهزيمة فجيعة لا تستوعبها كل التحليلات والتبريرات.. لقد ارتمت الأحلام صريعة هربشة العقل المتخلف، والوعي القاصر، كاشفة عن كمّ الانفعال، والتسيّب، والرخاوة في الدفاع عن أرض الوطن، وبلبلة فوضى القرارات المهزومة التي صُرعت عند اختراق الجبهة الحصينة، ولدى سماعها بهزيمة الجيش المصري، فتتالت قراراتها المرتبكة، التائهة، المهزومة، المخالفة لألف باءات الشعارات التي ترددها الإذاعة، ولأبجديات العلم العسكري في التراجع والهجوم المعاكس، والدفاع عن الأرض وحياض الوطن .
يغرق الوجوم في التبرير، ويضخّ العقل المهزوم كمّاً أكبر من الشعارات النارية، وبدلاً من المراجعة الشاملة، ومحاسبة الهاربين والمسؤولين عن الهزيمة، والانفتاح على الشعب والقوى السياسية، يتمتّرس النهج السائد في السائد، مصرّاً على صحة وصوابية الخيارات، والرفض الصادق لمفرزات الهزيمة ونتائجها السياسية، خاصة القرار الأممي/242/ .. ولكن ..
لكن الهزيمة تفعل فعلها داخلياً، تنخر الشعارات والنوايا، والعدوِ السريع لمواجهة نتائجها بمزيد من الإصرار على النهج الرافض، وإذ بالعسكر يعسكرون قوة ضاربة، وكأنها خرجت من لامعقول جميع النوايا والحكايا والقرارات والشعارات والتطمينات، والجيش العقائدي المتبعّث الذي أزاح الغير وبرك في المفاصل الحساسة.. والعسكر يتكتلون، ووزير دفاع الهزيمة الذي لم يُغيّر أو يحاسب يرفّع إلى فريق، وحوله فريق يكبر ويتسع.. و(الحزب) ينام على الوعود، والوعود يأكلها المعهود، فتفتح الشهية لكل الأقاويل، ويرتخي الزمام مترهلاً تنهشه الهزيمة الهاربة للأمام، وقرارات"المواجهة التي لم تواجه".. وآلاف الحكايا الباحثة عن حل (الألغاز) في كهوف (جورة الحرامية).. وما عرف ب"الازدواجية" ..
****
ينتصر مجد العسكر فتكثر شعارات الوعود، والبيان رقم واحد محفوظ غيباً في لوح سفر الانقلابات، وينتشي النصر السهل فيقيم مملكة القوة، ويكتشف النقص في غياب المستبد(العادل وغير العادل)، فتترنّح الأوصاف اكتشافاً للخوارق، وتنهال الألقاب غماماً كالحاً يُسقط آمال من راهن، وصدّق، أو كذب على نفسه، وإذ بديجور التخلف يقبض ناصية الرقاب، ويعلق المشانق للحرية، فتكثر أعمدة الموت، ويرتجف الحلم المقبور قبل أن يسلم الروح انتحاراً وغيظاً.. فتنام العقود على معهود الزيف، وقد أكل الصدأ كل الشعارات التي أكثر من صباغتها وتفخيمها وتفخيخها، فما عرفت غير الضجيج بلا طحن.. والبعث الرسمي ينتفخ فيقوّر ويكوّر ويدوّر .. يتشقلب فيه المنعمون من القيادات، ويعمّ خوف أشبه بحكايا الجدّات عن الغولة، والغولة أجهزة لجبة طالت أنيابها فامتصت دماء كثيرة حتى تقيّأت مراراً وما شبعت، وقد خصّبوا نهمها فأدمنت مضغ اللحم البشري، وأعلنت الانتصار.. في سلسلة الانتصارات المتعاقبة التي لا حصر لها، والقائد سعيد باستقرار الفزع، يعرّبد في كل الاتجاهات ويقايض ويساوم ما شاء، والشعب يغفو في أزيز الانتظار، وصخب الزيف، ووقع أثر الداء فيه وعليه.. حتى إذا ما فُرض التوريث سابقة غرائبية بطحت كل المقولات والمؤسسات وذاك الحزب المليوني المصفّق.. انتشت فرائص البعبع فوّلدت الوعود المرمية على فلسفة المكر والتزييف .
****
نام الزمان طويلاً يائساً، وما ظنّ أحد أن تونس الخضراء ستعلّق الجرس فيدوّي صوت الشعب(من المحيط إلى الخليج)، وكأنّ جسد البوعزيزي المحترق يلخّص عمراً بطوله.. وإذ بالدنيا غير الدنيا، و(أم الدنيا) تفجر الزلزال ثورة عارمة، إذ ببشائر الثورة تدكّ حصون الخوف فتنهار بسرعة كاشفة عن جيّف التحنيط، ومومياءات الفزع المصطنع.. وإذ بالثورة الشعبية فوران العرب الشعوب، وحلم القرون، وإذ بالحاكم رعديد تسكنه الكوابيس فتسقط هيبته وأصبغة الخطابات والشَعر وانتفاخ العربدة، محنيّ الرأس مثقلاً بالجرائم وأموال النهب..
*****
أسارع الخطى كي أستطيع اللحاق بوتيرة حركة الشعب.. فأشعر بثقل الزمن، وفعل القعاد والانتظار، ومع ذلك أحقن معنوياتي بالكثير من العزيمة وأمضي.. وقد قررت، هكذا، رمي عكازي بردّ فعل طالما اشتهرنا به كنوع اندفاع البدوية فينا ..
لم أستطع اعتلاء الأكتاف كأيام زمان ليس بسبب وزني الذي زاد، والعجز عن الصراخ بصوت جهوري وحسب.. وإنما لشعور بنوع من الغربة، خاصة لجهة الشعارات والأغاني واليافطات والمطالب التي يرفعها ويرددها الشباب، حيث أن مخزوني من الشعر والشعارات والمقولات والمواويل الطويلة بدا وكأنه من أهل الكهف ولا مكان له هنا، خاصة غرامي بالإيديولوحيا والبروليتاريا والتوليتاريا، والمصطلحات الكبيرة التي حفظتها غيباً ورددتها عمري.. ووُضعت أمام خيارين : إما أن أتكيّف مع الموجود فأستغني عن ثقافة المعهود، وإما أن أنسحب قابعاً في ظل انتظار ما تسفر عنه تضحيات الشباب .
ولأنني متشبب ما تزال أيام وأفكار الشبيبة لها بعض التأثير في الأفكار والعقل.. قررت القيام بمراجعة سريعة، وحارقة خارقة لتراثي، أي مراجعة فورية، انقلابية بأمل أن أصبح ابن عصر ثورات الشباب أفهم لغتهم ورموزهم وسرّ قوتهم وسحرهم، وأقله أن أكون مقبولاً في صفوفهم فأغني على طريقتهم، وأبتعد عن الشعارات الكبيرة المفخّمة، والكلمات المعمّقة عن الأحزاب والبرامج السياسية والفكر والانتماء المرسّم والإيديولوجيا المؤدلجة، والأفكار المصنفة المعلبة، ناهيك عن المركزية الديمقراطية والتنظيم الحديدي ووحدة الموقف السياسي، والالتزام بالقرارات التي تتخذ، وخضوع الأقلية للأكثرية، ومليون قضية وقفت في زوري وكادت تطيح بتوازني، وقد صرت معلقاً بين المطلوب المرغوب وبين خزين الأعوام وركام الأكوام .
بعد أن زلزلت كياني زلزلة متفائلة.. وأنا أزنقها وأهصرها لإنجاز التبديل السريع، وجدت حالي في ركن منزو بينما أفواج الشباب الهادر قد غادروا الموقع إلى آخر، وقد التحموا مع قوات الفتك والتخويف بصدورهم العارية، وإرادتهم الحازمة..فقعدت ألملم جراح معنوياتي، وحقائق العمر.. وقررت في لحظة تجلٍ صادق.. أن أتواضع فأعرف موقعي الحقيقي، وأن أقصى ما أستطيع تقديمه هو بعض خبرات العمر، وبعض دروس التجارب، وأنني أضعها بتواضع بين أيديهم، على أن يقرروا هم إن كان فيها ما يفيد ثورتهم، وبناء مستقبل جديد .
وبحركة لا إرادية رحت أبحث عن عكازي كالملهوف .. ولأنني، لفرط اندفاع الحماس المفاجئ نسيت ما فعلت به، ولأنني كدت أن أفقد توازني وأقع .. امتدّت يد شاب بهيّ الطلعة فأمسكني بقوة.. وهو يردد : اتكئ عليّ يا عمو ..
لمناسبة الثامن من آذار