نحن لا يبكي علينا أحد

كاظم فنجان الحمامي

كاظم فنجان الحمامي

[email protected]

أجهش العالم كله بالبكاء وهو يتابع المشاهد الحية التي نقلتها عدسات الفضائيات في بثها الحماسي المباشر المتواصل عن وقائع الملحمة التشيلية التاريخية التي سجلتها الجهود الإنسانية الصادقة, وحققتها التعزيزات العلمية المكرسة لإنقاذ أرواح عمال منجم (سان خوسيه), واجتمع الناس في كل مكان من كوكب الأرض للصلاة من اجل سلامة المحتجزين, وحبسوا أنفاسهم في الدعاء والابتهال من أجل نجاتهم من هذه المحنة, وخروجهم من كهوف المنجم المنهار سالمين غانمين.

أما نحن في العراق فكنا اشد الناس التصاقا بشاشات التلفزيون, وأكثرهم متابعة لتفاصيل عمليات الإنقاذ المكثفة, ولا نغالي إذا قلنا إننا كنا نقف بأرواحنا وقلوبنا هناك على حافة فوهة المنجم, وكم كنا نتمنى أن تمتد إلينا هذه الأيادي البيضاء, وتحملنا أجنحة الرحمة لتنتشلنا من فوهات الدهاليز المظلمة, وتخلصنا من الكوابيس المزعجة, التي جثمت على صدورنا, وأكلت أكبادنا, وهشمت أضلاعنا, وكم كنا نتمنى أن يهتم بنا العالم في يوم من الأيام ويقف معنا مثل هذه الوقفة الإنسانية, وكم تمنينا ان لا تتسبب دول الجوار في إيذائنا وتشتيتنا وبعثرتنا, وان لا يتخذوا من أرضنا مسرحا قتاليا لتصفية حساباتهم.

تعالى نحيبنا وعويلنا داخل منازلنا ونحن نتابع مراحل الإنقاذ خطوة خطوة, لكننا اكتشفنا إننا كنا نبكي علينا, ونبكي على ما مر بنا من مآسي ومحن وويلات ونكبات, وما رافقها من هموم وأحزان وآلام, ونبكي على أطفالنا الذين طحنتهم أنياب الحصار الظالم المفروض على غزة, بعد أن أغلقت عليهم منافذ البر والبحر, من دون أن يبكي علينا احد, وكأننا شخصيات كارتونية خلقت لكي تغرق وتذوب في بحار المصائب والأزمات, أو كأننا كائنات غريبة خرجت من باطن الأرض لكي تتلقى الضربات الساحقة, والزلازل الماحقة, وتخضع لتجارب التفجير والتفخيخ والتدمير تارة باسم التحرير, وتارة أخرى بهدف التطهير, وتارة ثالثة بذريعة التكفير, فتربصت بنا العبوات والمتفجرات في كل مكان, ولاحقتنا في الأسواق والمدارس والعيادات الطبية, فمزقت أجسادنا المرهقة, وبعثرتنا على الأرصفة, ورمتنا فوق صفيح منازلنا, من دون ان نسمع كلمة مواساة من احد, ومن دون ان يذرف علينا الناس دمعة واحدة, ومن دون أن يتأسفوا على أطفالنا الذين صهرتهم براكين العملية السياسية. وذبحتهم سكاكين الحملات الطائفية, حتى أبناء جلدتنا لم يبكوا علينا بل تسببوا في إبكائنا.

قطع الرئيس التشيلي (سبياستيان بانييرا) زيارته المتوقعة الى الإكوادور, وهرع إلى موقع الحادث ليشترك مع فرق الإنقاذ, ولم يكن من السهل التعرف عليه وسط الجموع الغفيرة, التي توحدت في ملابسها وقلوبها وألوانها, وامتزجت دموعها ومشاعرها الصادقة لتلبية نداء الواجب, ولم يصطحب السيد الرئيس معه أفواج الحماية على طريقة جماعتنا, ولم يرتد الدروع الواقية, ولم يتشدق بالخطب الرنانة ويتحذلق بالكلمات الطنانة, ولم يبرح المكان خطوة واحدة, فقد ظل الرجل مرابطا هنا متسمرا في مكانه وكأنه عنصر من عناصر فرق الإغاثة, تُرى كم نحن بحاجة إلى رئيس عربي بهذه المواصفات, وكم تمنيت ان ننتدبه للعمل عندنا بعد إحالته إلى التقاعد, لعله يصلح أمرنا ويقودنا إلى بر الأمان.

لقد سجل الرئيس التشيلي رقما قياسيا في الشهامة (العربية) رغم انه لم يقرأ حماسة أبي تمام, ولا ديوان المتنبي, ولا معلقة عنترة العبسي, ولم يطلع على هجائيات الفرزدق وجرير والحطيئة, ولم تكن الأرض التي أنجبته (تتكلم عربي), ومع ذلك بدا وكأنه من عرب الشيخ نواف.

كانت قناة (الجزيرة) اشد الفضائيات حماسا في تغطية وقائع عملية الإنقاذ, وكانت هي القناة السباقة في نقل تفاصيل الحدث, تماما مثلما كانت هي السباقة في مرافقة جنود الاحتلال في خطة اجتياحهم للعراق, وهي التي كانت تزف البشرى للعرب العاربة والعرب المستعربة والعرب العربان بسقوط بغداد والمدن العراقية في قبضة القوات الغازية, وهي التي كانت تبث في قلوبنا الرعب وتنقل لنا صور الحشود العسكرية الشريرة المتجحفلة ضدنا, حتى صارت من الفضائيات المميزة في السير (بالاتجاه المعاكس) والمتحيزة إلى (الرأي الآخر).

وقفة:

قال مالك بن الريب:

تذكرت من يبكي عليَّ فلم أجد

سوى السيف والرمح الرديني باكيا

فمنهن أمي وابنتاي وخالتي

وباكية أخرى تهيج البواكيا