رسالة إلى الأشراف الشامخين
رسالة إلى الأشراف الشامخين
وراء القضبان السوداء
أ.د/
جابر قميحة(إلى الإخوان الأربعين الذين حاكمتهم ظلما وعدوانا محكمة عسكرية بالقاهرة).
أيها الأشراف الشامخون ... سلاما , و معذرة .
سلاما من كل مصري عزيز النفس , أبيِّ الوجدانْ .
بل سلاما من كل مسلم في الأرض .
يقول ربي الله .
وله – لا لغيره – تنحني القامات , وتعنوالجباه.
*********
و معذرة مني أنا .
فاقبلوا معذرتي :
لقد سألني أحد الإخوة الأبرار
خارج القضبان : أين قصيدتك في الأربعين
بعد جور الأحكام ؟
أقسمتُ له بالله ...
الذي تستدفع به المحنةْ
و تستجلب به المِنة .
أنني حاولت ... و حاولت
وأمتلأ صدري وقلبي بوجدان يمور
فأسرع إلى القلم .
... تتوقف أصابعي .
و يتجمد القلم .
وتهرب مني بحور الشعر جميعا :
فلا طويل يجيب , ولا سريع يلبي ...
و لا كامل يستجيب ...
ولا هزج يقول : إني معك .
أو كأن البحور كانت كعمال المحلة أو أهل دمياط
أو كأن البحور كرهت قلمي
ككراهية شعبنا للحزب الوطني وحكومته .
أو كأن التفعيلات آصرت على الانتحار
احتجاجا على الظلم والظالمين .
و الهباشين والهبارين .
و لم يعد أمامي إلا بقايا مخزون قديم من الشعر
أما العمدة الأساسي فهوالنثر .
ابثه شكواي .
وأدفن في مآقيه آمالي و مُناي .
*******
ولكن هل أنتم أربعون ولا زيادة ؟
أنا أقسم- ولا أبالغ –إذا قلت أنكم أربعون ألفا ...
أو أربعون مليونا .
ألم تسمعوا الشاعر القديم يقول عن الفرد من أمثالكم :
كان من نفسِهِ الكبيرة في جَي ش وإن خِيل أنه إنسانُ
يأيها الأشراف الشامخون : ألم تسمعوا أبا تمام و هو يقول عن ثلاثة
إخوة من بني حميد الطوسي استشهدوا في معركة واحدة :
لعمرك ما كانوا ثلاثة إخوةٍ ولكنهم كانوا ثلاثَ قبائلِ
فأنتم لستم أربعين فردا , ولكنكم يا أيها الأشراف الشامخون
أربعون جيشا , أو أربعون قبيلة .
و أذكر في هذا السياق أن كتائب الإخوان في بداية الخمسنيات كانوا
يخوضون المعارك الدامية ضد المحتلين الإنجليز في القناة , ويجاهدون في الله حق جهاده . و مع ذلك كان مرشدنا الحبيب الإمام حسن الهضيبي إذا سئل : أين كتائب الإخوان ؟
يقول : ليس للإخوان كتائب , ولكنهم جميعا جنود, الواحد منهم بكتيبة .
كان رحمه الله لا يحب المباهاة , ولا التفاخر , مع أن الإخوان أراقوا دمهم في القناة , وكان منهم شهداء شهد لهم العالم جميعا .
******
أيها الأشراف الشامخون , أنتم أعلى قامة من ساجِنيكم , فمن حقي أن أقول لكل شامخ فيكم :
فـمـا وهـنـتَ بـسجنٍ ساوموك به فـعـشـتَ فـيـه مـهيبا شامخا أبدا يـخـشوْنَ طيفك في الأحلام يفزعُهم هم أحرصُ الناس من جبن و من ضِعةٍ | و مـا اسـتـجبتَ لهم كيْ تقبل و كـنـتَ سـجانَهم إذ كنتَ مسجونا حـتـى غـدا لـيلهم بالسُّهد مشحونا عـلـى حـياة , و لو ذاقوا بها الهُونا | الدُّونا
و ستعيشون أرفع مقاما من ظالميكم , فاصبروا , فالصبر ضياء " ولا تهنوا , و لا تحزنوا و أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " (آل عمران 139) .
و ما أرى ظالميكم إلا الساقطين الأدنين , و ما أنتم دائما إلا الأعلوْن ... نعم أنتم الأعلون ... و حيثيتكم هي ميثاق الله " كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز " ( المجادلة 21 )
" .... أولئك كتب في قلوبهم الإيمان , وأيدهم بروح منه , ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ,رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله , ألا إن حزب الله هم المفلحون " (المجادلة 22 ) .وهذا الميثاق الرباني – يا أشراف – هو الحصانة الأولى التي تتحصنون بها , و أنتم وراء القضبان السوداء .
أما الحصانة الثانية – يا شامخون – فهي امتلاء قلوبكم وجوانحكم بصوت النبوة الخاتمة . و ما أرى كل واحد منكم إلا مرددا بلسان الحال , ولسان المقال قول الشاعر :
في ضميري دائما صوتُ النبي
آمرا جاهدْ و كابدْ واتعبِ
صائحا غالبْ و طالبْ وادأبِ
صارخا كن أبدا حرا أبيْ
كن سواء ما اختفى و ما علنْ
كن قويا بالضميرِ و البدنْ
كن عزيزا بالعشير و الوطن
كن عظيما في الشعوب و الزمنْ
فأنتم قد تحليتم بحب الجهاد و المكابدة , والتعب في الله , والإصرار على إحقاق الحق , بنفس حرة وقلب أبيّ , مستشعرين القوة , و حب الوطن , واستعلاء الإيمان , والإباء والعزة , " ولله العزة و لرسوله و للمؤمنين "
( المنافقون 8 ) .
*****
وأنتم بحمد الله – أيها الأشراف الشامخون – تعيشون في طمأنينة غامرة , لأن المسلم لا يعرف اليأس , ولا يتسرب إلى نفسه القنوط , و ما أصدق الصوفي القائل " يقيني بالله يقيني " .
إن العالم كله يشهد لكم , و العالم كله يشهد عليهم ... أي على ظالميكم ... الطغاة ... البغاة . ومن عجب أن يُسْأل الطاغية الكبير عن " الإخوان المسلمين " , فيقول : "مفيش حاجة اسمها إخوان"... " ماعندناش شيء اسمه إخوان " . و ضحكت والله , بل العالم كله يضحك من ذلك الذي ينكر الشمس في رائعة النهار . وهنا تذكرت الفرزدق حين رأي علي( زين العابدين ) بن الحسين بن علي بن أبي طالب في مكة المكرمة والوفود تتسابق إليه ,وبين يديه . ولم تلتفت للأمير الأموي هشام بن عبد المللك الذي استنكر ذ لك وسأل من هذا؟؟؟ ( على سبيل التحقير )؟؟؟؟؟
فاجابه الفرزدق قائلا :
هذا الذي تعرف البطحاءُ وطأته والبيت يعرفه و الحِل و الحرمُ
إلى أن قال :
و ليس قولك: من هذا بضائره العُرْبُ تعرف من أنكرتَ و العَجَمُ
ولا تعجبوا أيها الأشراف الشامخون من نظام الحكم الحالي الذي جند حملة القماقم أعضاء هيئة المستنقع من " كبار " الصحفيين الآكلين على كل الموائد ليوالوا أفرزاتهم ضد الجماعة …. كاذبين ... مزورين ... هباشين ... هبارين ... .
وهذا يذكرني بحكاية طريفة خلاصتها أن أحد الصيادين كان يمتلك كلبا عزيزا على نفسه , وكان له بيت من عدة أدوار في الغابة , و كان إذا خرج يغلق الباب على كلبه , فيصعد الكلب إلى سطح البيت ينبح ما شاء له النباح ,
ولكنه كان يجد متعته الكبرى في أن يسب الأسد إذا رآه سائرا أمام البيت , فلما رأى الأسد أن الكلب قد استمرأ شتمه و سبه قال له : اسمع أيها الكلب , و الله ما شتمتني , ولكن شتمني المكان الذي تقف فيه .
و دلالة القصة أوضح من أن نشرحها فهؤلاء الصحفيون المستنقعيون إنما يفرزون شتائمهم وأفتراءاتهم ضد الإخوان , و هم يحتمون بمناصبهم التي تدر عليهم كل شهر مئات الألوف من دم الشعب .
و من عجب أن نجد الطغاة البغاة يعلنون بكبرياء كذابة منفوشة أنهم نجحوا في ضرب الإخوان ضربات قاصمة , لا قيامة لهم بعدها .
و نسي هؤلاء الطغاة البغاة أن الإخوان المسلمين تيار ينتشر في كل أنحاء الدنيا , فهو ضد الهزيمة , و ضد الانتهاء . وادعاء الطغاة البغاة بأنهم ضربوا الإخوان , و أنتصروا عليهم انتصارا حاسما ... يذكرني بالقصة الآتية :
كان الفيل الطيب يعيش في بيته بالغابة الواسعة، لا يؤذي أحدًا, ولا يتعالى على أحد، بل كان يحترم كل حيوانات الغابة ويعطف على صغارها.
وكانت عادته اليومية أن يغادر بيته في الصباح الباكر، ويمضي في طريقه لتحصيل رزقه، وليتريض في شعاب الغابة، وكان يوزع تحياته على كل من يلقاه من حيوانات الغابة، قبل أن يعود إلى بيته آخر النهار، لذلك كان موضع حب الجميع.
ولكن ثعلبًا حقودًا عز عليه أن يحوز الفيل هذه المكانة في قلوب سكان الغابة، فأعلن أمام إخوانه الثعالب أنه سيضرب الفيل ضربة قاصمة، لا قيامة له بعدها، ولم يستمع لنصح عقلاء قومه.
وفي صباح اليوم التالي وأمام بقية الثعالب انطلق الثعلب الحقود المغرور نحو الفيل وأمام بقية الثعالب أخذ يخمش خرطومه .. محاولا أن يغرس فيه أسنانه دون فائدة. فاضطر الفيل الطيب أن يلف عليه طرف خرطومه. ويقذفه إلى أعلى , ويستقبله بنابه الذي مزق مؤخرته. فأخذ الثعلب يزحف إلى أصحابه وهو ينزف دمًا، وفضلات قذرة، وأصحابه يسخرون منه.
فقال والألم يكاد يمزقه لماذا تسخرون مني لقد انتصرت على الفيل انتصارًا حاسمًا.؟
- انتصرت عليه وهو الذي مزق عجيزتك ؟
- نعم ، فقد نجحت في تلويث نابه وخرطومه بإفرازات أحشائي ,ألا يعد هذا نصرا مبينا لي , وهزيمة نكراء للفيل؟.
* * * * *
أيها الأشراف الشامخون وأخيرا أقول: إذا كان الطاغية قد أخذته العزة بالإثم , وكان وما زال منطقه "...أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي ..." الزخرف 51
فإن منطقكم الخالد الذي لا يموت فهو "... لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا , فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا " طه 72.