إلى زوجي السجين
من وحي القلب
زوجي ..
لا أقول لك إلا كما قال الله تعالى : " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة .." .
حقاً لقد كنت لي السكن ، وكنت الإنسان الذي لم أتصور أن أعيش بعده ولو ساعات قليلة .
زوجي ..
حقاً لقد عرف كلٌّ منا الآخر ... وفهمه ... وعاش أفراحه وأتراحه . ماأزال أذكر ذلك الوجه المشرق الذي يفيض حيوية ونشاطاً ، وينم في شفافية عما بداخله : عن الثورة التي لا تهدأ . كنت أتمثل بك المسلم الحقّ الذي يعمل منذ الصباح إلى المساء لا يكل ولا يمل ، ويقضي يومه الدؤوب المتواصل في سبيل الله .
والآن ... هنا في هذه البلدة ... في غربتي ... أتلفت يميناً ويساراً إلى كل مكان فيرتد بصري كليلاً لا أرى أمامي (أبا ...) وسرعان ما يمر أمامي ذلك الشريط يوم كنت في " أمن الدولة " في سجن يلقى فيه أفلاذ أكباد هذه الأمة وخيرة شبابها للوحوش البشرية تنتهشها وتفعل بها ما تفعل ، فلا رحمة ، ولا ضمير ولا خلق يردعها عن العبث إنما تسلية بأجساد هؤلاء الشباب الأطهار الأبرار الذين نذروا أنفسهم لله ... لحماية دينه ... يمر أمامي هذا المشهد المروع : الجسم الذي أضناه العمل ... أضناه الكد منذ الصغر حيث الفقر ... هذه الأرجل التي لم تكل من السير في طاعة الله ... الأيدي الطاهرة ... لكل منها نصيبه من العذاب فالأرجل مرتفعة على خشبة مثل زاوية قائمة ، والجسم مربوط بحبل متين إلى قاعدتها .. والأيدي ما وراء الرأس ، وتحت الابط ملاقط متصلة بتيار كهربائي والعصا تهوي بشكل دائم ومتواصل على أسفل القدمين .
أما الأنف والفم ، أما العينان .. أما هذا الوجه الوضيء فقد استحال قطعة زرقاء .. حمراء ... الدم ينزف من كل مكان ... ويتلعثم كانت كلمة واحدة تصدر من قلب حي نابض بالإيمان : (يا رب ... يا رب ... يا رب ...) هذه الكلمة لا تفارق سمعي وأقسم لك ... إنها وقود ... أنها محرك يحرك كل حواسي للعمل المتواصل كي أكمل الطريق مهما غلت التضحيات ، مهما اشتدت الخطوب ومهما ادلهمت .
ويمر أمام عيني شريط آخر ... الزنزانة هذا المكان الكريه الضيق الذي لا يتجاوز الأمتار يغص بالأخوة الأحبة ... الأطهار ... والأشراف ... بأحفاد محمد صلى الله عليه وسلم ... بهؤلاء الذين لم يعرفوا القعود ... لدقائق قليلة ، فأتساءل كيف يجلس هو وينام ... إنه لم يتعود حتى الجلوس في البيت ... لا يهدأ ... عمله متواصل ... حتى لو كان تشذيباً لأزهار الحديقة ... ومداعبة للأطفال ... وترتيباً لبعض أدوات بيتنا ، وأتوجه إلى العلي القدير ، إلى قاصم الجبابرة ، ومذل المستكبرين ، أسأله وأناجيه : اللهم ثبت اخواننا على دينك ... اللهم ازرع السكينة والطمأنينة في نفوسهم ... اللهم أسبغ عليهم الهدوء والرحمة .. إنهم قد ذهبوا في سبيلك وأنت القائل : " الله ولي الذين آمنوا ". اللهم فتولّهم بمدد من عندك . اللهم اجعلهم من الصابرين . اللهم يا من أخرجت يوسف من السجن ، وأنقذته من غياهب الجب ، أخرجهم لنا سالمين غانمين منصورين ، واخذل أعداءك يا أعدل العادلين ، وأكرم الأكرمين . اللهم آمين وصل اللهم على سيدنا محمد وآله أجمعين .
ويحلق خيالي في جواء المستقبل ، فأقول : هل سنلتقي ؟ هل سأرى الابتسامة المشرقة ... والوجه الوضيء الكريم .
(أبا ...) زوجي ... هل سنجلس معاً أنا وأنت وأطفالنا ؟ أوتعود إلينا تلك الأيام ؟ أسيُجمع شمل هذه الأسرة الوادعة الصغيرة التي تخيم عليها الألفة والحب والإيثار ؟ أم ماذا ؟ أقتلوه ؟! ماذا فعلوا به ؟ ... وأتخيلك مع بقية إخواننا الشهداء في رحاب الجنة ، فأغبطك ، وأقول : إنها لسعادة ما بعدها سعادة أن تكون الشهادة في سبيل الله خاتمة أعمالك ، لأنها أشرف الطرق وأقصرها إلى الجنة ، ويعز علي ألا ألحق بك ، وأسأل : لماذا لم يقتلوني معه ؟ فقد عشنا أربع سنوات كأسعد ما يكون الأزواج . عشناها ولم نشعر بالزمن لكننا نحس السعادة ترفرف بأجنحتها على البيت المتواضع . كان كل شيء جميلاً ... حلواً . نذهب معاً منذ الصباح كلّ إلى مدرسته ، نعود عصراً معاً في أكثر الأيام إلى البيت نعمل معاً ، وأقول : عهد عليّ (أبا ...) أن أكون وفية ... مخلصة ... مجاهدة في سبيل الله ما وسعني ذلك . اللهم ارحمنا ، وارحم إخواننا ، وتولنا إياهم بما تتولى به عبادك المخلصين .
كل شيء يذكرني بك ، وألتفت بصمت . أنظر في كل ركن حولي . واحرَّ قلباه ! أين أنت ؟ لا أسمع إلا صدى صوتك الذي يتردد في مسمعي كلماتك التي تفيض حماسة وإخلاصاً ورغبة في العمل . ولا أرى إلا صورة المجاهد الذي نذر نفسه في سبيل دعوته .
كن مطمئناً هادئ البال حيثما كنت : في غياهبة السجن أو في رحاب الله فإننا على الطريق سائرون مهما غلت التضحيات سأتم طريقك ، ومنهج حياتك الذي شرعت فيه . من أجل أطفالنا ، وأطفال المسلمين ، من أجل أن يعيشوا في ظلال قرآننا العظيم ، ويخيم عليهم سكون السلام والإسلام .
زوجي ...
لن تذهب دماء شهدائنا الأبرار هدراً ، وستكون كل قطرة من دمائهم الزكية لعنة على الظالمين الذين أذن لنا الله تعالى بقتالهم : " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا وإن الله على نصرهم لقدير ".
غداً سيبزغ الفجر ، وترسل الشمس أشعتها الدافئة ، ونورها الساطع .... غداً مع الفجر يزحف الأبطال الميامين جند محمد وحفيدات خديجة وفاطمة وعائشة .. ونسيبة يدكون حصون الباطل ، وعروش الطغاة فلقد طالما انتظر المستضعفون والمحرومون : " ونريد أن نمنَّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين " .
زوجتك
أم ..........