خَرْبَشاتٌ من الذّاكِرَة
خَرْبَشاتٌ من الذّاكِرَة
مصطفى حمزة
( 1 )
الموز واللحم المشوي كنت أشتاق إليهما جداً وأنا فـي طفولتـي الأولى ! وكان أبي – على فقـره –
يحاول أن يشوي لنا في البيت مرّة كل شهر أو شهرين أو أكثر لا أذكر بالضبط ، بل كل ما في ذاكرتـي أن اللحم المشوي كان غالياً جداً عند أبي ، وأني كنت أحبه جداً – أقصد اللحم المشوي ! – ولم أكتشف إلا بعد حين أن ما كان يشويه لنا – رحمه الله - كان قليلُه من اللحم ، وأكثرُه من " الفشّة " ( الرّئة ) !!
( 2 )
كنت صبيّاً ، وكنتُ – كالعادة كلّ صباح -أقف أمام فرن " أبو العبد " في صفّ طويل لأشتري الخبز لأهلي ، وحانـت منّي التفاتة إلى الشمال جهة الحديقة المجاورة للفرن ، فشاهدتُ رجلاً يجلس على أحد المقاعد الخشبية الموجــودة فـي حديقته وإلى جانبه كيس ورقي مملوء بالموز ، وكان يتناول منه الموزة فيقشّرها بهـدوء عجيب ، ثمّ يتأمّلها قليلاً قبلَ أن يقضمَ منها بتلذّذ وشاعريّة ! وأنا أراقبه .. ثم يرمي القشرة بين رجليه ، ليتناول موزة أخرى فيفعل بها ما فعله بسابقتها ! وظللت سارحاً في هذا المشهد حالمًا بأن أكون مكان ذلك الرجل حتى أيقظني صوت " أبو العبد " : يا الله ، قرّب يا بني " ..
هذا المشهد القديم طالما قفز إلى ذهني وأنا على مائدة الطعام أتودد إلى أولادي وأرجوهم أن يأكلوا من الموز " المُكوّم " أمامهم !!
( 3 )
أنظر إلى أمي الآن وقد تجاوزت السبعين ، و تغالَب فيها السّـكري مع الرّبو ، مع وَهَنٍ في الرجلين
فتقفز أمام عينيّ صورتها آنذاك في منتصف الستينات ..أراها صبيّة قويّة ، شاطرة مُدبّرة ، نشيطة لا تكنّ ولا تهدأ ؛ تطبخ لنا على " بابور " الكاز وتغسل ثيابنا في " لَكَنْ " من الحديد تجلس أمامه تدعك الثيــاب بالصابون والبوتاس ! نعم بالبوتاس ! وكثيراً ما شاهدتُ الدمَ يسيل من كفّيها بفعل هذه المادّة المؤذية ! ثم تصعد إلى سطح البناية لتنشر الغسيل ، ثـم تكنس البيت وتمســحه .. ثم ، وقُبيل عودةِ أبي من شغله ظهراً ، تدخل الحمّام . وتستقبلُه بفستانٍ نظيفٍ وقد شَكَلتْ في شعرها " فلّة " كانت دائماً حاضرة في كأس الماء !
( 4 )
كثيراً ما كان أبي يأخذني معه ليلاً - بعد أن أنهيَ واجباتي المدرسيّة - إلى كراج الباصات حيثُ كانَ يعملُ أميناً لمستودعِ الوقود والزيوت ؛ ليشرف بنفسـه على تعبئة الباصات بالمازوت ، ويتأكد من أرقام العدّادات . وكنت أسترق غفلة منه ، فأصعد إلى الباص تلو الباص أبحث في جوانب مقاعدها عما قد يكون سقط من الرُكّاب من قطع نقديّة أو أشـياء أخرى، وكنت أعثر بين الحين والآخر على قطعة نقد حُصرت بين المقعد وإطاره المعدنيّ ، فأستعين بقطعة كرتون أحتفظ بها في جيبي لأستخرجها وأمسحها ، وأتأملّها وأتأكّد من فئتها ، ثم أدخلها بكاملِ كفّي إلى قاع جَيبِ بنطالي القصير حتى أتأكد من استقرارها هناك ، ثم أربّت عليها من الخارج !
كنت أفرح بتلك النقود المعدنيّة القليلة فرحاً عظيماً حقيقيّاً ، فَرَحاً لم تشعرني بمثله مئاتُ الألوف التي رزقني الله بها .. بعد حين من الزمن !!
( 5 )
ضحك الحظُّ – أو عبس – في أوائل السبعينات لعمّي الأكبر ؛ فربح خمسةً وعشرين ألف ليرة سوريّة من ورقة " يانصيب " – وكان مبلغاً كبيراً وقتئذ ٍ؛ إذ اشترى بهِ بيتاً ومحلاً تجاريّاً ! وأنا حينَها كنتُ في الصفّ السابع أو الثامن ، لستُ أذكرُ بالضبط ..
وكانت جدران بيتنا الشاهدَ الذي لا يتكلّم على حال أسرتنا البئيسة ، وصبرِنا على الفاقة والحرمان الذي كنّا نعيشه ! فأرسلني أبي بقصاصة من الورق إلى أخيه كتب له فيها : " أحتاج لـ 25 ليرة اعتبرها دَين سأردّها لك بالتقسيط إن شاء الله / أخوك " وقال لي : " قل له " البابا بيسلّم عليك وأعطِه الورقة " وحين دخلتُ وسلّمت كان عمّي يجلس وراء طاولة خشبيّة وقد طَرح أمامه مجموعات من الأوراق النقديّة يحسب ويجمع ويكتب في ورقة أمامه . سلّمت عليه وأعطيته الورقة ، فلمّا نظر فيها تغيّر لونه ! ثم طواها ووضعها أمامه على الطاولة وقال لي : " سلّم على البابا ، وقل له : " لمّا يِخْلَصْ عمّي من حساباتو بيشوف ، ألله معك " ! ولمْ يحصل أبي من أخيه على قرشٍ واحدٍ !!
آهِ يا دمعُ ! لو كان أبي اليومَ حيّاً وأنا ههنا أعملُ في الإمارات ، لأرسـلتُ إليه على رأس كلّ شــهر ٍ ثلاثين ألفَ ليرة وقلتُ له : " أبي ، اصرف منها كلّ يومٍ ألف ليرة ، على نفسكَ فقط ، ولا تُعطِ أحداً ولا تفكّرْ بأحد .. البس ودخّن واجلس على المقهى ، واصرفْ كما تشاء !
هذه أمنيةٌ طالما تمنّيتُها بينَ نفسي وبيني ، كلّما تذكّرتُ أبي وما كان يُعانيه من فقرٍ وقهر !
( 6 )
حين أذكر أبي وحيداً يتلاشى الزمن ، ويسحبني شعوري من سنوات عمري السبع والأربعين .. وأراني طفلاً صغيراً غريراً ؛ أريد أنْ ألقيَ برأسي فوقَ صدره الطيّب ، وأرتاح .. وأرتاح .. أنا لم أرتوِ من أبي ولم يعوّضني أحدٌ قطّ عنه ! ولطالما احتجتُه وناجيتُ طيفَه في صحراءِ عُمري .. ولكنّي لم أجدْه وبقيتُ الصّدي ! ولا أتمنّى أنْ يطول بي العمر ويمتدّ بي الأجل ؛ إلا حين أكون بين أطفالي : رزان وعقبة وعبادة وعبّاد ؛ أملأ عينيّ منهم ، وأدعو اللهَ في سرّي ألاّ يجدوا ما وجدتُ من فقدان أبي !