ورقاءُ المحلِّ الرّفيع

أنس إبراهيم الدّغيم

أنس إبراهيم الدّغيم

جرجناز/معرّة النعمان/سوريا

[email protected]

رحم الله ابن سينا و هو يقول :

هبطتْ إليكَ من المحلّ الأرفعِ       ورقاءُ ذاتُ تعزّزٍ و تمنّعِ

و مذ هبطت إلينا من ذلك المحل الرّفيع ، و نحن في معركةٍ لا تنطفئُ نارُها و لا يذهبُ أوارها ، و منذ ذلك العهد الجميل بينها و بين مولاها ، ما تزال الرّوحُ بيتاً للحزنِ المستمرّ ، و الذي لا ينقضي إلا باللّقاء .

إنّها الرّوح المسلمة القائمةُ بأمر الله ، الرّاجعة إليه في كلّ وقت ، لا حياة لها إلا بحبه ، و لا هناء لها إلا برضاه ، و لن يقرّ لها قرارُ إلا بالعودة التي ليس بعدها بعدٌ ، هناك حيثُ أولُ العهد .

و لعلّ قصّة النّاي التي غنّاها لنا مولانا جلال الدين الرومي رحمه الله كانت من أجمل ما مثّل لنا هذه الفكرة الخالدة ، حيث شبّه روحَ المؤمن بالناي الذي كان من قبل قصبةً على ضفّة نهرٍ ، تلعبُ بها الأنسامُ يمنةً و يسرة ، و يغازلها ماءُ النهر الجاري ، ثمّ جاءَتِ اليدُ الغريبةُ فأخذتها من مكانها ، ثمّ ثقّبتها و أحرقتها ، فهي كلّما أرسلَ فيها العازفُ أنفاسَه ، ترجمتها النّايُ زفراتٍ و حسرات ، فصوتها في كلّ أحواله ، إنما هو ترجمانٌ لأشواقها إلى هناك ، حيثُ وطنها الأول .

يقول مولانا جلال الدين في كتابه المثنوي :

اسـتـمـعْ للنّاي غنّى و iiحكى
مـذ نـأى الغابُ و كان iiالوطنا
أيـن صـدرٌ من فراقٍ مزّقا ii ؟
مـن  تـشرّده النوى عن أصلهِ
كـلُّ  نـادٍ قـد رآنـي iiنـادبا
ظـنّ  كـلٌّ أنّـني نعمَ iiالسّمير
إنّ  سِـرّي فـي أنيني قد iiظهرْ
*             *             ii*
إنّ صـوتَ الناي نارٌ و هواء 
آنـسـتْ  هِـجـراتنا أصواتُهُ
حـارت  الأيـامُ فـي iiآلامـنا
فَـدعِ  الأيّـامَ يـذهـبنَ iiفِدى
اقـطـعِ الـقـيدَ تحرّرْ يا iiفتى
مـرحـباً  يا عشقُ يا خيرَ iiأملْ
إنّـهُ  الـعـشقُ و أنّى يُحملُ 
عـشقَ  الطّورُ أجلْ قد عشقا ii
صـمـتَ الـبـلبلُ عن iiألحانِه
كيفَ أدري ما ورائي و أمام ؟ 
كـم  بصدري من معانٍ غالية 


















شـفّـهُ الـبـيـنُ طويلاً iiفشكا
مـلأَ الـنـاسَ أنـيـني iiشجنا
كـي أبـثّ الـوجـدَ فيهِ حُرَقا
يـبـتغي الرّجعى لمغنى iiوصلهِ
كـلُّ قـومٍ تَـخـذوني iiصاحبا
ليس  يدري أيُّ سرٍّ في iiالضّمير
غـير  أنّ الأذنَ كلّتْ و iiالبصر
*             *             ii*
كـلُّ  مـن لم يصلَها فهو iiهباء
مـزّقـتْ  أسـتـارَنـا iiنغماتُهُ
لـيـس  إلا الـنـارُ في iiأيّامنا
و  ابـقَ يا من أنتَ للقلب iiهدى
يـا أسـيراً للهوى حتّى متى ii؟
يـا  طبيبَ النفسِ من كلّ iiالعللْ
 رقـصَ الطّورُ و خفَّ iiالجبلُ
فـهـوى إذْ خـرَّ موسى iiصَعِقا
حـيـنَ غابَ الوردُ عن iiبستانِهِ
دون  نورٍ من حبيبي في iiالظّلام
لـكـنِ الـمـرآةُ ليستْ iiحاكية

أجل إنّها الروح التي ترتفع بصاحبها إلى المحلّ الكريم ، نائيةً به عن حمأةِ المادّة التي تهدمُ و لاتبني و تقتلُ و لا تحيي .

فإذا اختار الإنسانُ نداء الفطرة الصادق ، و اتّجه نحو النّور البارز من مشكاة الحقيقة تحقّق له الضّياء و وقع له الوصول .

و حين يختار نداءَ التّراب على نداء الله فاقرأ عليه السّلام .

و كما يقول محمد إقبال رحمه الله :

الجسمُ في بنيانهِ بالرّوحِ يكتسبُ الحيـــاة

لكنْ حياةُ الرّوحِ في قربِ الحبيبِ و في رِضاهْ

فإن الرّوحَ هي نفخة الله المقدّسةُ التي تخلّلت مسالك هذا القفص الترابي فأحيتْهُ الحياةَ الطيبة ، و أسجدتْ له ملائكةَ الرّحمن في السماوات العلى .

فإذا خلا منها الجسد فلا يعدو أن يكون صلصالاً من حمأٍ يتجه بصاحبه إلى الموبقات , ثمّ يسقطُ عنهُ ثوبَ الخلافة الذي ألبسهُ إيّاهُ ربّ العالمين ، فلا يكون حينها أهلاً لأن يكون خليفة الله في أرضه .

و ما دام المسلمُ مرتقياً في معراجه هذا فهو على الحق ، لا يضرّهُ بعد ذلك من خالفه .

فعلى المسلم أن يختار في هذه الدّنيا مكانه الحقّ ، فلا يأتيه الباطلُ لا من بين يديه و لا من خلفه ، مكانٍ يرتفع به عن سفاسف الحياة فلا تحيط به الشّبهات ، مكانٍ يأتمرُ فيه بأمر الله و ينتهي بنهيه ، ليكون من بعد ذلك كلمة الله في الأشياء ، و نوره في العناصر ، و قضاءه و قدرَه في الوجود .

و ليصل إلى حالةٍ يصفها مولانا جلال الدين الروميّ بقوله :

روحُهُ في لا مكانٍ و هْوَ طينْ        لا مكانٍ فوقَ وهْمِ السّالكين

و لكم تذهب بي النّشوة و تجيءُ و أنا أقرأ لإقبال قصيدته ( جوابُ شكوى ) حيث يصف روحه المؤمنة و هي ترتقي في ملكوتِ ربّ العالمين :

حـديـثُ الرّوحِ للأرواح يسري ii
هـتـفـتُ  بـهِ فـطارَ بلا iiجناحٍ
و مـعـدِنُـهُ تـرابـيٌّ و iiلـكـنْ
لـقـدْ  فاضتْ دموعُ العشقِ منّي ii
فـحـلّـقَ في ربى الأفلاكِ حتّى ii
*               *               ii*
تـحـاورتِ الـنّجومُ و قلنَ iiصوتٌ
و  جـاوبـتِ الـمـجرّةُ علّ iiطيفاً
و  قـال الـبـدرُ هذا صوتُ iiشاكٍ
و لم يعرفْ سوى رضوان صوتي 
ألـمْ  أكُ قـبـلُ فـي جنّاتِ iiعدنٍ











و تـدركُـهُ الـقـلـوبُ بلا iiعناءِ
و شـقّ أنـيـنُـهُ صـدرَ iiالفضاءِ
جـرتْ  فـي لـفـظِهِ لغةُ iiالسّماءِ
حـديـثـاً  كـانَ عُـلـويَّ iiالنّداءِ
أهـاجَ  الـعـالـمَ الأعـلى iiبكائي
*               *               ii*
بـقـربِ الـعرشِ موصولُ iiالدّعاءِ
سـرى  بـيـنَ الكواكب في iiخَفاءِ
يـواصـلُ شـدوَهُ عـنـد iiالمساءِ
و  مـا أحـراهُ عـنـدي iiبـالوفاءِ
فـأخـرجـني  إلى حينٍ قضائي ii؟