أغنية للمطر
يسري الغول
كالعادة، يباغتهم المطر كل فجر. يتسلق الجدران ثم يسقط في باحة المنزل الكرميدي، ليرسم لوحة الغرقى في بحر التيه. هكذا تأتي الكلمات مع سقوط المطر على أرض الحكايات وترابها الموشح بالدم، دون أن يمحو آثار الدمار التي مني بها قطاع غزة جراء الحرب الصهيونية الغاشمة على قطاع غزة.
يأتي المطر بالحكايات والقصائد، فتشرع ألسنة الشعراء وأقلامهم، تتلو القصائد وتغني مواويل لعالم موشح بالحب والحزن والخوف والرجاء. ويأتي المطر فتتألق الحروف وترسم لوحات قصصية وروائية درامية ومونودرامية وسحرية متكاملة. فما أن تشرع بالبحث عن روايات تحمل عناوين ذلك المطر حتى تنهال عليك العشرات بل ربما مئات الروايات التي تحمل عناوينها ذلك المطر. فمن رواية المطر الأصفر إلى صيف المطر الباكي إلى عروس المطر إلى البكاء تحت المطر إلى المطر الأسود إلى أحلام المطر وروايات أخرى لا يمكن حصرها بمقال.
والمطر في غزة سيمفونية الغرقى في بحر الحب، ذلك الحب الغير تقليدي للوطن. حب يستبيح المال والعيال والنفس. نجحت فيه غزة نجاحاً منقطع النظير. فتوشحت وسام العزة والفخار. إلا أن هذا المطر الجميل لم يعد كذلك في عيون الناجحين. حيث رجعت الشتوية بصوت غير فيروزي، بل بزخم من الطين والجري على عتبات المخيم تفادياً للغرق.
تغرق غزة الجميلة بالمطر، فتصبح الأضداد مستقراً في هذه المدينة، فمن كانوا يكتبون الشعر ويرسمون الحياة مع ندف المطر، هم من يتسولون الدفء من خيام وبراكسات لا تحميمهم قيظ الشمس أو هزيم الرعد وبركان المطر. ولم تعد قراءة الكتب أو متابعة الأفلام والبرامج على أصوات حبات المطر موجودة في معظم بيوت غزة التي دمرت، فلا شباك تقف خلفه الصغيرة لترسم بما تبخرت به أنفاسها مستقبلها، ولا حاضرها أيضاً.
والمطر وصمة عار على جبين الجبناء، الأصدقاء والأعداء، الذين تركوا غزة وحدها تقاتل ووحدها تنفجر، فغزة كما يقول درويش لا ت?ف عن الإنفجار، فتخدش وجه العدو وت?سر أحلامه وتصده عن الرضا بالزمن.
غزة تحمل في جوفها الأحلام، وتغرد بأرواح أطفالها إلى عنان السماء، رغم أنف طائرات الـF16 ورغم أنف الهيلوكوبتر والطائرات بلا طيار، غزة تكبر ولكنها لا تشيخ، والمطر سيظل أيقونتها الجميلة لتكتب عن الحب والحرب وعن الحزن والأمل، وعن الحياة في حواصر طير يغرد بلا خوف. وهذه الغزة أجمل ما فيها أنها لا تموت رغم كل من مروا عليها، ورغم أنف الغزاة. وما أروع درويش حين يقول بصوتنا:
ليست غزة أجمل المدن، وليس شاطئها أشد زرقة من شواطئ المدن العربية، وليس برتقالها أجمل برتقال على حوض البحر الأبيض، وليست غزة أغنى المدن، وليست أرقى المدن وليست أكبر المدن، ولكنها تعادل تاريخ أمة. لأنها أشد قبحاً في عيون الأعداء، وفقراً وبؤساً وشراسة. لأنها أشدنا قدرة على تعكير مزاج العدو وراحته، لأنها كابوسه، لأنها برتقال ملغوم، وأطفال بلا طفولة وشيوخ بلا شيخوخة، ونساء بلا رغبات، لأنها كذلك فهي أجملنا وأصفانا وأغنانا وأكثرنا جدارة بالحب... أحبك غزة.