لحظات فجر من غزة

إيناس الطويل-كاتبة فلسطينية

[email protected]

أحاول الكتابة منذ زمن .. و لا أدعي في الوقت نفسه أني كاتبة مخضرمة أو أن قلمي ينزف جموع مفردات ....ولكن حين تداهمك الأفكار فترة من الزمن و تكثر الهموم التي تشغل ما تبقى لك من عقل وتأتي الأفكار لتتداعى إثر أحداث متلاحقة متضاربة والكثير منها صادم ....تظن بنفسك حينئذ أنك ستعود حتما لأن تكتب عن كل هذه البحور المتلاطمة من حولك ...

ويبرز السؤال الأهم لم أكتب؟ و عم أكتب؟ وهل من سيقرأ؟

منذ شهور ثلاثة وأنا مثقلة مهمومة بأرواح مائة وسبعة عشر روح تعترف بهم الطبيعة أنهم من بني البشر ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن يعترف بهم الجنس البشري أنهم يتبعونه خاصة إذا ما اتضح ارتكابهم جريمة تجنسهم بفلسطين!!

قصتهم لم تبدأ بخروجهم من أرض العراق في ظل حرب دامية و لم تنته بسجنهم في مخيم الرويشد لخمسة سنوات وأكثر ولم تتوج هذه القصة بعد بوجودهم على اطراف الطرقات يفترشون حشائش الحدائق العامة في مدن البرازيل وضواحيها كما أعلم جيدا أن نزف معاناتهم على مدار اللحظة لن يتوقف بمجرد كتابتي عن ألمهم الذي يعتصر كل قلب مهموم بأحزان لاتنته ...

وانا أرتشف قهوة الفجر بين جدران تحمي من حر الموت وتجمد النخوة الإنسانية ... فإن هذه الارواح المائة والسبعة عشر في هذه اللحظة و أنتم تقرأون ما زالوا متروكين للأقدار قد يقتل منهم بعد ثانيتين طفل بفعل سكير هائج مائج في شوارع البرازيل أو قد يلفظ أنفاسه من يعش على انبوبة الاوكسوجين  في حديقة الرعب في البرازيل ....

وهم تحدثوا للصحافة ورفعوا صوتهم عاليا يستصرخون و يستنجدون الجميع فلم ينجدهم أحد فتركوا على قارعة الطريق في صورة تبدو كمؤامرة خبيثة مع الموت ليحتضنهم فيريح الجميع !!

قضية تؤرق الجفون وتزيد الهموم وتضاعف الشعور بالذنب .....

ولكن قد يأت من يقول الأبدى بكي أن تكتبي عن آلاف الأسر التي تفترش أرضا و تلتحف سماء ملبدة بالزنانات محملة بهواء فوسفوري خانق ..... نعم في هذه اللحظة التي تجاورني بها قهوتي بين الجدران ربما تتسلل مجددا لطفلة أم سهل تلك العرسة الكبيرة التي حدثتني أنها انقضت قبل أسابيع على أذن طفلتها في داخل لوح الصفيح الذي يسحقهم فيعيشون داخله لا رضا و لا قبول بقدر ما هو فرض لأمر وقع من قبل موت الضمير في هذا العالم .....

قصة تقشعر لها أبدان الأحياء فقط ...وماأقلهم في هذا الزمان ...

ومتى تستحيل الكتابة ؟ هل عندما تزداد الهموم والضعوط يبرز الاحباط فيقتل الحروف لتموت الكلمات مرغمة ؟ أم أن كثرة الضغوط وتلاحم الهموم يستفز القلم ليبوح عن ما هو مسكوت عنه ؟

الحصار في غزة خانق .... ومن سخرية القدر أن تنظر أمامك فترى كل هذا الفضاء المائي الأزرق الجميل الواسع الذي يقدم لغزة حلم الوصول لكل العالم على طبق متأرجح متلألئ ...ولكن هذا فقط بنظرة كاتبة حالمة ساذجة .... أما الواقع الأليم فهو فضاء أسود محاط بسلاسل حديدية يلف غزة بسلك شائك رملي يستحيل معه الحلم أو حتى التأمل ......

ومن رحم المعاناة يولد الإبداع ففي غزة تلق ذلك الشاعر الشاب المتباه بتمكنه من لغة قوية ممزوجة بموهبة متدفقة ... وفي غزة أيضا تصادف الشابة القاصة الشديدة الجرأة الثرية التجربة ..... وحتما ستلاق تلك الشاعرة الأصيلة التي تقطر موهبة منغمسة ببداوتها ذات الحضور الساحر .....

و في هذه الأشهر الناس في غزة لم يعودوا يتحملون التحدث بالسياسة ....وبالمقابل تسمع كل يوم عن تجمع ثقافي أدبي فني أو حتى رياضي .....تحكم غزة هذه الأيام حروف الكلمات فتكثر الندوات وتعلو الأصوات .....

وللخوف في غزة معنى آخر ....

أن تنطلق سيرا في الطرقات تبحث عن شيئ ما يدهشك في مدينة أصابها اليأس بقدر ما حاصرها الإحباط

أن تمضي في مناقشة عقيمة قد تودي بك إما إلى جدران عزل أو توقعك في فخ الكراهية والحقد

أن تعبث ضجرا في مفكرتك بحثا عن صديق قديم فتصدم مما جد به من تشوه

أن تعول كثيرا على سرب ظننته يحفر طريق النجاة فتجده في لحظة يبرق بزامور الخطر

أن تنتظر يوما يزف إليك فرح غلام فتي فتشهده ملقى على قارعة الطريق

أن تظن في لحظة أن الأبيض أبيض والأسود أسود فما تلق غير أن غارق في رمادي كئيب مبهم

أن تزداد أملا بسماعك حناجر التجديد فتصدم بحقيقة التمويه والتأويل والتزييف

أن تمعن بحثا عن فرصة تعبير فتجدك تقتل ذاتك برقيب تولد من المحيط

ويبرز فجر جديد فهل سيحمل شيئا جديد؟