آفة النسيان

آفة النسيان

حارثة مجاهد ديرانية

[email protected]

شاهدت الناس خلال حياتي يبرّئون أنفسهم من أشكال النقائص كلها، اللهم إلا نقيصة واحدة رأيتهم يتنافسون أيهم أستاذ الناس فيها، تلك هي نقيصة النسيان!

وجل أولئك أدعياء مبالغون، ولو أن هؤلاء الذين يفاخرون بهذه الآفة جربوا أن يصابوا بمرض النسيان حق الإصابة لكانت أفاوههم أطبقت إلى الأبد عن المفاخرة بهذه الآفة المعذبة لأصحابها.

ومن حسن حظي وحظكم أن عندنا رجلاً من معارفنا قد أصيب بهذا الداء المرهق حتى بلغ أعلى مراتبه (وإن كان هذا من سوء حظه هو!) لكي أروي لكم طرفاً من قصصه الطريفة، فيحمد الله منكم من قد عافاه الله منه بدلاً من الافتخار على الملأ أنه من النسائين وماهو كذلك، ولكم في حديث نبيكم أسوة: "لا تمارضوا فتمرضوا"! واسمحوا لي أن أعرّض قصص صاحبنا لشيء من التنكير من غير أن أحول مغزاها احتراماً لخصوصيته، ولنسم صاحبنا النسّاء زيداً.

فمن أعجب قصصه أنه كان يرجع بأمه من المدرسة التي تعمل مدرسة فيها، وتأخر عن أمه ذات مرة فشرد ذهنه، وبات يحلق بأفكاره بعيداً عن هذه الدنيا فيما لا يعلمه إلا الله، وإنه لكذلك، وإذا بسيدة مغطاة بالسواد كلها تقتحم عليه سيارته، وثارت ثائرته لهذا العدوان على الدين والأخلاق إذ تركب امرأة لا يعرفها في سيارة لا تعلم هي صاحبها، فما كان جواب السيدة إلا أن قطعت ثورته بقولها: "ولك أنا أمك يا زيد!!".

وهذه الحادثة ليست شيئاً بالغ التفرد في حياة زيد، وإنا لنعلم قصصاً لا تعد هذه معها شيئاً! وأراد زيد أن يداوي نفسه من دائه، فعزم -حين لم يستطع- أن يتخذ "احتياطاته التذكيرية"، فعمد إلى ساعته فصار كلما أوكلت إليه مهمة ما خلعها من يده اليمنى فوضعها في يسراه، لعله إذا نسي أن تذكره ساعته التي وضعت في غير موضعها المعتاد، وهو حل مبتكر طريف، ولكن التجربة أثبتت أنه ليس أفضل الحلول! فلقد كان على الطريق السريع عائداً إلى منزله ذات يوم، لا يلبث كل قليل أن ينظر الوقت في ساعته وهي على يسراه! وومضت في ذهنه فكرة فإذا هو ينتبه أنه وضعها هناك لكي تذكره بميعاد إرجاع أمه من المدرسة، وكانت هي في تلك اللحظة تنتظره إزاء بوابة مدرستها في الشمس والحرّ على الطرف الآخر البعيد من المدينة!

لقد ذكرته ساعته فعلاً، ولكن بعدما فات الأوان.

وتحضرني الآن قصة ثالثة أنه كان مرة من قديم يوصل صديقاً معه بسيارته إلى منزله، وكان طول الطريق غارقاً في أفكاره لا يفتح فاه بحرف، وإذا بزيد يبلغ منزله بعد حين فيقف سيارته وينزل منها، وبقي صديقه الذي كان معه حائراً ينظر إليه وعيناه مثبتتان عليه في ذهول، ثم لم يلبث أن صاح بصديقه السرحان: "زيد! ماذا عني أنا؟ أنسيت أني موجود!"، فما كان من زيد إلا أنه ضرب رأسه بيده وهو يقول فزعاً: "أخ! صحيح، أنت كنت معي!".

ولكن زيداً -على ذلك- رجل ظريف خفيف الظل، وهو الذي قص علينا قصصه بأسلوب شيق لا يقلده ولا يبرع فيه مثله أحد سواه، ولكن المسكين ليس مسروراً بدائه البتة ولا يراه مفخرة يفاخر بها! وإن قصصه لحقيقية لم أتزيّد فيها ولم أبالغ، ولم أكد أنكّر فيها إلا أقل القليل، إلا ما جاء على لسان زيد نفسه من مبالغات، لأنه من ذلك الصنف من المتحدثين الذي يرش على أحاديثه شيئاً من "البهار"! أقول هذا من باب الأمانة.

ولي قريب آخر هو ابن عم لي غير زيد هذا، وهو لا يكاد يشبه زيداً في خصلة من خصاله إلا أنه مثله في نسيانه وقلة تركيزه، وأنت تنظر في عينيه[1] فتعلم أنه يسبح الآن في عالم خاص به ولا يكاد ذهنه أن يعي شيئاً مما يدور حوله في العالم الحقيقي، ونحن نعلم عنه قصة بالغة الطرافة حصلت منذ سنوات، وهي ليست فريدة في حياته ولكن ما يحضرني الآن، وتقول القصة[2] إنه تعرف فتى في مثل سنه بطريق علاقات جدته وخالاته، تعرَّفه وصفاً من غير رؤية مباشرة وأعطوه عنوان بريده الإلكتروني، وركب ابنَ عمي الحماس فقصد حاسوبه وشرع في كتابة رسالة إلى صديقه الجديد الشاب وأفاض في أخباره وحديثه عن نفسه يعرّفه بها، حتى أنهى ما بين يديه فبعث برسالته إليه، وإذا بابن عمي يذكر بعد حين أنه نسي -بعد كل ذلك- أن يذكر للفتى اسمه! فوثب إلى حاسوبه وانكب على رسالة ثانية حشد لها كل ما خطر بباله من عبارات الاعتذار المهذب[3]، ثم أنهاها وبعث بها إلى صديقه، فارتاح باله، واسترخى جسده في مقعده، ثم إذا بومضة تومض في ذهنه، وينظر فينتبه أنه بعث برسالة الاعتذار الثانية، ونسي أن يعرف صديقه باسمه، مرة أخرى!

ومن القصص التي حصلت معي أنا أنني مررت على واحد من هذه المتاجر العملاقة الحديثة منذ وقت قريب، أريد أن أشتري سلعة معينة لا تباع إلا هناك، وأشياء أخرى معها لمجرد أنني مررت على متجر عملاق، ومر كل شيء على خير، حتى إذا فرغت من السوق ودنوت من منزلي إذا بي أذكر أمراً. أوتدرون ماذا ذكرت؟ لقد ذكرت أني نسيت شراء ما دخلت المتجر من أجله بالذات! رغم أن أكياسي كانت ممتلئة بأشياء أخرى لم تكن في بالي حين دخلت المتجر!

ولست أسوق هذه القصة لكي أفاخر أنني أنا نفسي من أئمة جماعة "النسائين"، فمعاذ الله أن أنهى الناس عن خلق ثم آتي مثله! وأصدقكم القول أنني لا أفاخر بهذه الخصلة في نفسي، ولكني بشهادة الناس أميل إلى النسيان قليلاً أكثر من غيري، على أني ما زلت بعيداً عن صاحبنا المسكين زيد! ولقد اتخذت لنفسي مفكرة صغيرة خفيفة أحملها معي حيثما ذهبت، فكانت كافية لعلاج مشكلتي إلى حد بعيد، لأن النسيان عندي لم يبلغ مبلغاً مستعصياً، وأنا أذكر هذا لكم لكي أشرككم في تجربتي من باب أن تعم المنفعة، لعل هذا العلاج البسيط أن يفيد غيري من المسلمين مثلما أفادني أنا.

وجاءت مناسبة الحديث عن النسيان في اجتماع لنا عائلي منذ بضعة أشهر، فملت على أحد عقلاء عائلتنا وقلت له في صوت خفيض: "الناس يبرئون أنفسهم من أشكال النقائص كلها، إلا هذه النقيصة تراهم يتنافسون عليها!"، فابتسم الرجل، ثم لم يلبث أن غمزني وهمس لي بعد سكتة تفكير قصيرة: "يفعلون ذلك لأنه من مصلحتهم!!"، ورسم قوله -الجامع على قصره- الضحكة على وجهي، فلقد كان -فيما قاله- مصيباً تماماً!

               

[1] أي لما يكون مستغرقاً في أفكاره.

[2] كما رويت لنا راوياً عن راوٍ، في مرحلتين، ولعلها أن تكون "ضخمت" عن حقيقتها شيئاً ما في خضم ذاك.

[3] أي لأنه نسي أن يذكر اسمه له. ويظهر أن هذا من أجزاء القصة التي طالتها المبالغات، ولكنها -على ذلك- حقيقية ونهايتها الطريفة حقيقية ليست من تأليف المؤلفين ولا مبالغات المبالغين.