إلغاء الفرد لصالح المجموعة

جميل السلحوت

[email protected]

ذات يوم من عام مضى استمعت الى محاضرة عن اختلاف الثقافات، في إحدى الجامعات الأمريكية، وكان في قاعة المحاضرة تسع وعشرون طالبة وطالبا، وقد بدأ المحاضر الموضوع بأن علق صورة مكبرة لقرية نموذجية تقع على جبل تكسوه الأشجار والزهور، والجبل يقع على شاطىء بحر، وسأل الطلاب واحدا تلو الآخر: ماذا ترى؟؟

فأجاب الأول وهو طالب عربي أرى بحرا كبيرا.

ثمّ ماذا؟

فأجاب: أرى جبلا مرتفعا مليئا بالأشجار والزهور.

ثم ماذا؟؟

فأجاب: وعلى الجبل قرية جميلة.

ثم تتابعت اجابات جميع الطلبة وهم من الشرق الأوسط وجنوب شرق اسيا وامريكا اللاتينية وافريقيا، مثل اجابة الطالب الأول الى أن وصل الطالبة الأخيرة وكانت امريكية، فأجابت بأنها ترى قرية جميلة، ثم سألها الأستاذ ثم ماذا؟ فأجابت بأنها تقع على جبل مرتفع تكسوه الاشجار والازهار، ويقع على شاطيء البحر.

ومن هنا بدأت المحاضرة عن اختلاف الثقافات، فالثقافات التي تلغي الفرد لصالح المجموعة ومنها ثقافتنا العربية، رأت البحر أولا كونة الأكبر، ثم رأت الجبل كونه الذي يليه في الحجم، ثم رأت القرية، أما ثقافة ابراز الفرد حسب قدراته فقد رأت العكس في الترتيب، والواقع ان هذا هو الصحيح لأن الصورة أصلا للقرية وليست للبحر أو الجبل.

وفي ثقافتنا العربية تنبع أهمية الفرد من أهمية عائلته وعشيرته ومدى سطوتها وقوتها وتراثها، ويغيب الفرد في المجموع، وبالتالي فإن الفرد الذي ينحدر من عائلة صغيرة العدد، ضعيفة القوة يصعب عليه أن يبرز او يتبوأ منصبا رفيعا مهما كانت كفاءته، والمجموعة قد تعاقب على خطأ ارتكبه أحد افرادها، في حين لا تثاب على صحيحه، أو ابداعه، وهذه الثقافة متوارثة عندنا من عصر الجاهلية الأولى يقول عمرو بن كلثوم في معلقته:

إذا بلغ الصغير لنا فطاما تخر له الجبابر ساجدينا

في حين قال شاعر آخر في مرحلة لاحقة ينتقد هذه الثقافة:

لا تقل اصلي وفصلي انما اصل الفتى ما قد فعل

وقال آخر:

ليس الفتى من يقول كان أبي أنما الفتى من يقول ها أنذا

وعندما جاء الاسلام حطم في بدايته بعض القيود القبلية، فوجدنا شخصا لقيطا مثل زياد بن أبيه وهو مجهول النسب يتبوأ مناصب عسكرية قيادية، كما استلم منصب الولاية أيضا.

ثم ما لبثت أن رجعت حليمة لعادتها القديمة؟؟ فعدنا الى الغاء دور الفرد، مع ما يحمل هذا من قتل للقدرات والتمايزات الفردية، وما يتولد عنها من علم وابداع قد يفيد المجموعة او الإنسانية جمعاء.

وقد يستغرب البعض هذا الكلام، ولإزالة هذه الغربة فإنني أعطي بعض الأمثلة عند شعوب أخرى فمثلا رئيس الاتحاد السوفييتي الأسبق نيكتا خروتشوف، ومستشار المانيا الأسبق فيلي براندت لقطاء، وبيل كلينتون الرئيس الامريكي السابق ابن سكّير، ولو افترضنا أن هؤلاء عربا، فإنه من المستحيل عليهم أن يتبوأوا منصبا مهما صغر أو كبر، حتى يستحيل عليهم ان يعيشوا حياة عادية كبقية البشر،لأن اقرانهم في مجتمعاتنا يلقون الاحتقار والتجاهل وحتى الخوف من التعامل معهم او الاحتكاك بهم.