ويبقى الأب

(من يوميات امرأة محاصرة في غزة)

سما حسن

فجأة وبلا مقدمات  توعك زوجي الذي يعيش على هامش حياتنا، والذي  هو دائما في انشغال بذاته وبنفسه عن مشاكلنا وطلباتنا، توعك فجأة ليشتد الألم ويسقط في يوم وليلة بلا حراك....

سنوات طويلة مرت على ارتباطي به، ولكن هذه المرة الأولى التي أراه بها بهذا الضعف والتخاذل، في كل مرة كان ينهال بها ضربا عليّ  كنت أراه قويا عملاقا، بقوة جسدية لا توصف لدرجة أنني كنت أرتجف منه رعبا دون أن يلمسني، ولدرجة أنني كنت أسأل نفسي: هل ممن هم في قوته من الممكن أن يصابوا مثلي بتلك الأمراض الغبية المسماة الانفلونزا والمغص الكلوي، أو حتى يرتفع ضغط دمهم كما يحدث مع انسانة هشة مثلي، فيتعالى صراخه ويمسك برأسه كما أفعل، وأطلب من الصغار ان يطفئوا أنوار غرفتي، ويسدلون الستائر ويتركونني أصارع نوبة الضغط المرتفع حتى تمر ساعة، ويبدأ مفعول عقار الضغط........

ولكن فجأة سقط زوجي مريضا، هكذا أصبح طفلا صغيرا بحاجة لرعاية، وبحاجة لعطفنا وحنونا، قرر بمجرد أن مرض أن يتخذني عصاه التي يتوكأ عليها،وأن يصرخ بلا وعي: لا تتركوني وحدي.....

الصغار الذي حرموا منه طويلا  شعروا بمعنى أن يمرض الأب وربما يرحل، لدرجة ان ابني الصغير قال لي: ماما أنا عمري ماحسيت بحنان بابا

بس لو صار لو شي راح ازعل؟؟؟ كيف صحابي يكون لهم أب وانا زي الأهبل ماليش بابا.

حين قال ابني هذه العبارة غرقت في الضحك، ولكنني فكرت مليا بأمثال جدتي : ظل راجل ولا ظل حيطة.......

وأيضا" الراجل لو كان فحمه ع الدار رحمه......

طبعا جدتي كانت تقولها واثقة أن الرجل مهما بلغت قسوته فهو له قيمة كبيرة في البيت ، لا أنكر أني عشت سنوات وأنا لست بحاجة له، ولكنني كنت أمام المجتمع زوجة وعلى(ذمة راجل) وقد افادني ذلك كثيرا، ولم يكن ضارا لي في مجتمع لا يعرف المرأة الوحيدة إلا كشاة جاهزة لأن تلتهم........

الخوف من الموت ومن المرض جعله ضعيفا عاجزا، وهو الذي اعتاد أن يكون قويا، لا أخفى ان بداخلي نشوة قد تحركت وأناأراه يحتاجني لأول مرة في حياته، وأنا أراه يقبع في السرير لأيام وليالي طويلة، وهو الذي اعتاد أن يقضي كل وقته خارج البيت ، هائما وراء الأصدقاء وبطانة السوء...

زوجي ووالد اولادي الذي لايعرف في أيّ الصفوف الدراسية هم، بل أنه أجاب على سؤال صديقه بان ابني الصغير في الصف  السادس،وفوجيء حين صرخ الصغير مستهجنا: لا أنا كبير ........ أنا في الصف الثامن....

الآن يقبع في البيت مريضا،ويراقب البيت الذي هجره الذي هجره بكل مافيه، يراني أتحرك فيه كنحلة دؤوب، ويرى النظام الذي يسير عليه كساعة مضبوطة، ويرى كيف أصنع من لاشيء كل شيء، هل يشعر حقا أنه قد تلاشى من هذا البيت ويحاول أن يعود له؟

الصغار يقفون على باب غرفته ينظرون له، ولكن لا يجرؤون على قذفه ببعض العواطف، الكبيرة تتقدم وتقيس له ضغط دمه، وتطبع له قبلة سريعة على وجنته...أناأقوم بدوري كممرضة حاذقة ومتمرسة، ولا أخفي نشوة بداخلي أنه قد احتاجني ذات يوم، ولكن أردد لنفسي: المرض والموت لا شماتة فيهما لأنهما ليسا بيد البشر

ربما شمت به حين أصيبت سيارته بحادث وتهشمت، ولكنني الآن وأنا أراه بهذ المنظر لا أخفي دموعي أمام مرضه، وخوفي  من يوم لم أحسب له حسابا.......

سنوات كثيرة مرت وهو على مرمى بصر من حياتي مع صغاري، ولكنني كنت أشعر أنني(مسنودة) ولست هشة وأنا لست وحيدة، وبأن مشكلة كبيرة لو حدثت سأهرع إليه، وبأن ابنتي لو تقدم لها عريسا ذات يوم سيطلبها منه.

نجحنا في الحفاظ على مظهرنا الاجتماعي، رغم أن بيتنا كان متداعيا، هو يعيش وحوله بطانة السوء، وأنا مغموسة بأطفالي وعملي ومشاكلنا سويا.

حين كنت أمرض كان الأربعة يركضون تحت قدمي كقطط سيامية.

الآن وهو مريض فأنا أتسول منهم بعض المشاعر حتى لايتهمهم الذي هو جفاهم وضن عليهم بأبوته.

أفكر واسرح كثيرا لو يفكر الانسان أنه اضعف من نملة......

لو فكر زوجي أنه سيسقط كما تسقط الأحصنة في السباقات

حقا أتمنى أن ينهض

ولكنني لا أتمنى أن يعود كما كان.........