هتاف البَقاء .. لأمّة تأبى الفَناء:

عبدالله القحطاني

بقلوبنا وعيوننا         نفديك يافرعوننا

كان ثلاثة من الطلبة العرب،في إحدى الجامعات العربيّة، ينتمون إلى أقطار شتّى،من مَغرب العالم العربيّ ومشرقه،يتناقشون حول معنى هذاالبيت ،وهو لشاعرمعاصر معروف: 

  أمّة العُربِ لنْ تموتَ وإنّي        أتحدّاكَ باسمِها يافَناءُ

قال حامد،وهو من إحدى دول المغرب العربيّ،معلِّقاً على البيت:ما أروعَ هذا البيت..!كأنّ قائله يخترق حجبَ الغيب،حين قاله قبل نصف قرن أو يزيد.انظروا إلى حال الأمّة،منذ تاريخ نظم هذا البيت إلى اليوم..كيف صعدت وتقدّمت،وما تزداد كلّ يوم،إلاّ تقدّماً وازدهاراً ، وصموداً وقوّة ومنعة ..!

قال صابر،وهو من دولة عربيّة مشرقيّة:كأنّي ألمح في كلامك نوعاً من السخرية !

قال حامد:وكيف أسخر يارجل ..!؟ إنيّ جادّ كل الجدّ .

قال شاكر متسائلاً باستغراب:ولكنّ حال الأمّة لا ينطبق عليه رأيك ياسيّد حامد.ألا ترى ما هي فيه من شَرذمة وتمزّق،وضعف وهوان،وخضوع لإرادة الغرباء،وانهيارٍ في كلّ مجال،بدءاً بالسياسة،وانتهاء بالأخلاق،مروراً بالاقتصاد والعلاقات الاجتماعيّة..!؟ 

قال حامد:علينا أوّلاً أن نوحّد زاوية الرؤية،التي ننظر منها إلى الأمور،فإنّ اختلاف زوايا الرؤية،يؤدّي إلى اختلاف الآراء والمواقف .

قال صابر:وما الزاوية التي تنظر منها أنت !؟

قال حامد:زاوية الاتّحاد،أو الاندغام،أو قل:التجسّد..بمعنى أدقّ!ويمكن أن تسمّيها زاوية الانصهار..وقبل أن يسألني أحدكم عن معاني هذه الكلمات،أوضح معانيها حالاً،وكلّها بمعنى واحد،فأطرح الموضوع بصيغة سؤال،فأقول :

ألا ترون أن كلّ قطرمن أقطارالأمّة،اتّحد بكل عناصره وجزئياته في كيان واحد، وهو كيان الحاكم،بل اندعم فيه،بل تجسّد، بل انصهر وذاب،وتجمّد متجسّداً في جسد إنسان واحد،ذي عقل واحد،وقلب واحد،وإرادة واحدة،ومزاج واحد،وطموح واحد،وقرار واحد..وهذا الإنسان،هو الحاكم حصراً..!؟ فإذا كنتم ترون ذلك،فنحن متّفقون حول مضمون البيت.وإن كنتم ترتابون فيما أقول،فسوف أضطرّ إلى دعم رأيي بشواهد يوميّة حسيّة، تقطع عليكم الشكّ باليقين..!

قال صابر:حسنٌ..بوسعك أن تسمِعنا بعض الشواهد الحسيّة،ففي النفس شكّ ممّا تقول.

     قال حامد:حسن..أظنّكم تعلمون أنّ إراداة الإنسان،إنّما يعبّرعنها لسانُه أو سلوكه..وكذا إرادة الشعب.وبناءً على هذا،سأسمعكم ما تردّده جماهيرالشعب،في البلد العربيّ الذي أنتمي إليه..وما تهتف به هذه الجماهير صباحَ مساء. وهذه عينة للتمثيل لا للحصر :

·        شعارالمناسبات الوطنيّة والقوميّة: يا مولانا يا فرعونْ   أنتَ زِينة هذا الكونْ

·        شعار التحدّي،حين ينشب صراع سياسيّ، بين دولتنا ودولة عربيّة أخرى :

بأموالنا وأولادنا                    نفديك يا جلادنا

·        شعارالأزمات،وهذا يردّد حين يمرّ الحاكم بأزمة داخليّة أو خارجيّة :

بأجسادنا وأرواحنا                نحميك يا ذبّاحنا

·        شعار العوارض الصحيّة التي تُلمّ بالحاكم،كأنْ يصاب بزكام أو صداع :

بقلوبنا وعيوننا                  نفديك يافرعوننا

  * وقبل أن يتابع حامد في عرض الشعارات الأخرى،ضحك صابر،وقال مهلاًمهلاً..يارجل،  متى سرقتم منّا كلّ هذه الشعارات!؟ إنها هي ذاتها التي نردّدها في دولتنا صباحَ مساء..!فهل شعارنا وشعاركم واحد،أم أنّكم سطَوتم على شعاراتنا كلّها في ليلة ظلماء !؟

قال شاكر معترضاً:على رِسلكما أيها الزميلان..ماأظنّ المزاح بلغ بكما هذا الحدّ الذي تزعمان فيه أنّ هذه الشعارات هي لدولتيكما..إنّا نحن في بلادنا،أوّل من ابتكَرها وتغنّى بها ..!

قال حامد مبتسماً:حسن..ليس مهمّاً الآن معرفة من ابتكر هذه الشعارات،ومن سَطاعليها, المهمّ أنّ حال شعوبنا في أقطارنا واحد!فكلّ شعب في قطره،مندغم في حاكمه،منصهرفيه، فإذا كان الحاكم بخير،فالشعب كلّه بخير، وإذا شبع الحاكم ممّا لذّ وطاب من قُوت شعبه،أو من لحم شعبه،فإنّ الشعب يحسّ تلقائياً بالشبع،حتّى لو حرِم الطعام شهوراً.وإذا رهَن الحاكم قَرارَ شعبِه للغرباء،فهذا حقّ له،لأنّ الأرض ومن عليها وما عليها، ملك لمولانا الحاكم،يتصرّف بها كما يشاء،وهو أدرى بمصلحة شعبه من شعبه! أليس عقلُ شعبه كلّه،منصهراً في عقله!؟وإذا رأينا هذا الانصهار التامّ،انصهارَ الشعب في حاكمه،وهذا قمّة ما يتصوره الإنسان من وحدة،فإنّ أعلى درجات القوّة تكمن هاهنا،في هذه الوحدة الرائعة الفريدة على المستوى الداخلي..!

قال صابر:وعلى مستوى العلاقات بين الدول العربيّة،أيْ : دولِ الأمّة الواحدة !؟

قال حامد:هذه أمرها أوضح وأيسر! فالأمّة كلّها مرتبطة بشبكة واحدة من العلاقات،إذا اهتزّ أحد أطراف الشبكة،اهتزّت كلّها وتأثّرت،وخاف الحكّام جميعاً من السقوط = كلّ يخاف على نفسه – إذا سقط أحدهم في بلده! لذا،فإنّهم يسارعون جميعاً،لحماية كلّ فرد منهم،من السقوط ، ويسخّرون الجامعة العربيّة للقيام بدورالوقاية،وما تحتاجه من وساطات عربيّة ودوليّة،لحماية الحاكم المهدّد،من أن يسقط فتسقط الأمّة كلها،عبر سقوط حكّامها،الذين انصهرت في أجسادهم،وانصهرت عقولها في عقولهم،وقلوبها في قلوبهم..وهذا هو المعنى الرائع الفريد     لِالاستقرار الإقليمي)! أرأيتم ما أروع هذا !؟ ألمْ أقلْ لكم:إنّ الشاعر يستشرف الغيب ، وينظر من خلال حُجبِه الكثيفة ..!؟

هزّ الاثنان رأسيهما وصمتا ..  

       وكان بالقرب منهم طالب من رومانيا.. يدرس اللغة العربيّة في الجامعة،فدهش وتحيّر ممّا رأى وسمع،فاقترب منهم وقال مستغرباً،بلغة فيها بعض الرطانة:أيّها الزملاء،لقد سمعت ما قلتم،وأشفقت على حالكم وحال أمتكم..فقد ذكّرتموني بالحال التي كنّا عليها نحن في رومانيا  في عهد الطغيان،أيام ( تشاوشيسكو )؛إذ كنّا نردّد للطاغية،الشعارات التي تردّدونها اليوم لحكّامكم،لكن بلغتنا وبطريقتنا..وقد أنقذنا الله من ذلك العهد الأسود،وعاد إلينا إحساسنا بإنسانيّتنا وكرامتنا الآدميّة.ولقد وصل كثيرمن أبناء شعبنا،أيّام الطاغية،إلىالإحساس المرَضيّ الذي أنتم فيه!وكان علماء النفس لدينا يسمونه(المازوخيّة..أوالمازوشيّة)أيْ:التلذّذ بتعذيب الذات،إذ كناّ نقبّـل بتلذّذ وشغَف،يدَ الجلاّد الذي يسومنا سوءَ العذاب،والذي كان مصاباً،هو الآخر،بداءٍ يسمّى(الساديّة)أيْ:التلذّذ بتعذيب الآخرين!أيْ أنّ شخصيّتنا الإنسانيّة قد مسِخت بأيدي حاكم مستبدّ ممسوخ الشخصيّة.وهذا النوع من المَسخ،قد أشار إليه المصلح الفذّ عبد الرحمن الكواكبي،في كتابه طبائع الاستبداد،بأسلوبه الخاصّ!وما أحسبكم ممسوخين على الحقيقة، بل خاضعين لحكّام ظلَمة،تَحنون لهم رؤوسكم خوفاً،وقلوبُكم تلعنهم.وإنّي لأرجو أن يحرّركم الله بأيديكم،ممّا أنتم فيه، وأوّل التحرير،هو أن تحرّروا،أنتم المثقّفين،أبناءَ شعبكم البسطاء،من حالة شاعركم القديم،العاشق المبتلى، حين قال :

خليليّ ، فيما عِشتُما ، هل رأيتُما               قتيلاً بكَى مِن حبّ قاتِله قَبْـلي !؟