ضَبائرُ الرَّيحان
ضَبائرُ الرَّيحان
رجاء محمد الجاهوش
أَنْشَدَت "صـَـبـَا" بنَغَمٍ عَذب:
قُـرآنُـنَـا عِطْرُ الحَيَاةِ فَهَل ترى = عِطْرًا كَمِثْلِ الفُلِّ والرَّيحَـانِ؟ [1]
غَشيَني العِطْر الذي انْـتَـثَـرَ، انْـتَعَشت رُوحي، ماسَت الذَّكريات بين دَمعة وبَسمة، فضجَّ الحَنين؛ حَنين إلى عمَّتي والوَطن.
فكم كانَت عمَّتي لنا وَطنًا..!
شَقيقة والِدي الوَحيدة، تلكَ المرأة القَرويَّـة الأميَّـة الأبِيَّـة، لطالما سمعْـتُها تَرجو الإله وتَدْعوه: "اللهم عافِ أخي، وارزقه البُن والبَنين، وعِـزًّا لا يَميـل."
فاحَ شَذى العِطر فتأجَّـجَ الشَّـوق...
شَوق إلى ضَبـائر الرَّيحان التي تزيّن بَيتها الرِّيفي الجميل..
إلى شُهور الصَّيف التي كنَّا نقضيها فرحًا/مَرحًا بين مَنازلِ الأهْلِ والأحْبابِ..
إلى أكاليلِ الرَّيحـانِ التي كانت تحملها هدَّيةً ثَمينَةً كلمَّا جاءَتْنا زائرَةٌ.
"أهناكَ أجمل مِن (عِرْقِ) الرَّيحان في البَيتِ يا بُنيَّتي؟"
تَلمَحُ لا مُبالاتي، فتُـتابِع: - انظري إلى أوراقِهِ وقد غطّاها زَغَبٌ ناعمٌ كغِلالَةٍ واقِيَة، وتأمَّلي أزهارَه كيف تآلفَت فتَعانَقَت ببياضِ النَّقاء، وحُمرة الحُبِّ؛ أمَّا رائحته فيكفي أنها عِطر لا يُـرَدّ.. سُبحانَ مَن أبدَعَـه!
اليَّـوم ـ يا عمَّتي ـ فَهمتُ، عرفتُ، وأدركتُ...
فَهمتُ بوحَكِ القَديم، وعرفتُ ما للرَّيحـانِ مِن أسْرارٍ في عَقيدتنا، وأدركتُ أن الفِطرة السَّويَّة نِعْمَة عَظيمة يَمنُّ الله بها على مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ..!
«مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ، فَلاَ يَرُدُّهُ. فَإِنَّهُ خَفِيفُ الْمَحْمِلِ طَيِّب الرِّيحِ.» - ]صحيح مُسلم[
بهذا وصَّانا نبيُّ الأمَّـة ـ صَلى الله عليه وسلم ـ، فوَعَيْتِ وصِيَّته دون أن تَسْمَعيها، وأصبحَ الرَّيحان هدَّيتك الأثيرَة ، فمَنْ علَّمكِ يا حَبيبة؟!
وها هو يُذْكرُ في القرآن الكريم مرَّتين، وما ذِكْر الشَّيء الطّّيِّب في القرآن إلا دليلٌ على حُظْـوَتِهِ.
قال تعالى: « وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ».] - الرحمن:12[
وقال تعالى: «فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ».] - الواقعة:89 [
"إن الرُّوح ـ بضَمِّ الراء ـ : هي رُوح الإنسان.
والرَّيحان: هو الرَّيحان المعروف.
وقيل في معنى ذلك: أن أرواح المقرّبين تخرج مِن أبدانهم عند الموتِ برَيحان تشمّه.
وقيل: تخرج رُوحه في ريحانة.
وعن أبي العالية أنَّه قال: لم يكن أحد من المقرّبين يُفارق الدُّنيا، والمقرّبون السَّابقون، حتى يؤتى بغُصن من ريحان الجنَّـة فيشمّه، ثم يُقبض." – ]تفسير الطبري[
عَرفوا الله جَلَّ جلاله، قَدَروه حَقَّ قَدْرِهِ، أخْلَصوا لهُ الدِّين، سارَعوا في الخيراتِ، أحـبُّوه حـبًّا لذاتِـه، لا يَتَفاوت بتَفاوتِ إحْسانهِ، فأشْرَقَت مِنهم القلوب، وكُرِّمَت الأرواح.
" وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: إذا تُوُفِّيَ المؤمن أرسلَ الله إليه مَلَكين، وأرسلَ معهما تُحْفة من الجنَّـة، فيقولان لها: اخرُجي أيتَّها النَّفسُ المطمئنَّةُ راضيةً مَرْضِيةً، ومَرْضِياً عنك، اخرجي إلى رَوْحٍ وريَحْان، ورَبٍّ راضٍ غيرِ غضبان، فتخرج كأطيبِ ريح المسكِ وَجَد أحَد من أنفه عَلى ظهر الأرض" - ]تفسير القرطبي[
أيَـا "عمَّتي"...
هل كنتِ تَعلمينَ كلَّ هذا يومَ كنتِ تَبْذرينَه في أرضِكِ؟ وتَبْتهِج لِتَفَـتُّـحِهِ نفسكِ وعينكِ؛ أم أنَّها الفِطرة السَّـويَّـة التي فَطرَ الله النَّاس عليها..؟!
تَنَشَّـقْتُ عبيرَه ـ كما علَّمْـتِـني ـ حتى أحبَبْتُـهُ...
ولـمَّا أحبَبْتُـهُ زَرعتُه في أرضي، أسكنْتُه زوايا مَنزلي، دَسَسْتُ أزهارَه وأوراقَه العَطِرَة تحت لحافي، بين ثِيابي، وفي حَقائبي المسافِرة، وانْتَظرت..!
هَلْ تُرانا نَلتقي؟
هُنـاكَ..
ساعَة الرَّحيـل..
فتأتيني ذاتَ مَساء ، أو ربَّـما ذاتَ نَهار، لتُحرِّرَ رُوحي ـ برِفْـقٍ ـ مِن أسْرِها، فتَصعدُ إلى خالِقها بأمـانٍ واطمِئنـان.
[1] بيتٌ مِن قصيدة "والحُسْنُ فيهِ مُعَانِقُ الأغصَانِ" – للشاعرة الكريمة: صَـبَـا / وتُعرف أيضًا باسم: بُـرادة الألمـاس.