عقدة التخصص

عقدة التخصص

بشير بساطة

[email protected]

لأن الحياة تسير هكذا ,,
كل يبحث عن المصلحة وكل يجري وراء المادة ..
في كل نفس بشرية طموح ..
و في كل نفس بشرية حب للإبداع وحب الخير..
يتفاوت من شخص لآخر
لربما لا يبدو ذلك جليا واضحا ولكنها مسلمات وبديهيات
كما يذكر  عبدالرحمن الكواكبي  في  طبائع الاستبداد
يبدأ انطلاق الشخص فينا يعد أن يتخرج من المرحلة الثانوية
تبدأ الأنظار تتجه إليه .. كل يحاول أن يقتعه بأنه شيء كبير
وأنه أمل المستقبل .. كل يعول عليه آمال الأمة
وكل يقنعه بأنه مشروع صغير سينمو ويكبر
ويصبح اسما لامعا ان يجتهد ويثابر ..
لكن الحقيقة تقول ماقال الشاعر:
انت مشروع صغير ..
في مزادات المحافل ..
لاتفكر ..
لاتكن يوم مقاتل ..
لاتفكر ..
كل تفكير ٍ .. بغير شريعة التجار  .. باطل ..
أولى المطبات والعقد التي يواجهها هذا المشروع الصغير
في معترك حياته هو التخصص.. يبدأ برحلة البحث عن تخصص
ويسبح في فضاء التخصصات
مع زحمة الأحداث ... تتذكر القاعدة التي تقول
ماخاب من استخار وماندم من استشار
تبدأ رحلة الاستشارات

>>>>
-
عليك بالطب ... فالطب ملك التخصصات... مافي بعد الطب
-
طيب ليش ؟
-
يعني تخيل أنك ستعالج نفسك وأولادك بنفسك
-
صحيح ..
-
تخيل .. أنه سيكون أمام اسمك حرف د
-
أكيد ..
-
ولاتنس أنك عندما تفكر غدا بالزواج الكل سيوافق عليك لأنك دكتور
-
شكرا
-
ياأبني... اذهب و أدخل الهندسة... توكل على الله
-
هكذا ترى ؟
-
المهندس يفهم بكل شي .. وآفاقه تكون أوسع من غيره .. لأنه ينظر للحياة بنظرة تحليلية
-
بالله عليك ؟
-
لاتنس الميم التي ستكون أمام اسمك ...
-
أوه صحيح... سوف يصبح اسمي ميم كذا
-
الكمبيوتر ,, علم الحاسوب .. أنا أردت نصحك .. الكمبيوتر هو ملك التخصصات الآن
-
يعني له مستقبل
-
المستقبل للكمبيوتر
-
كيف ؟
-
الكل الآن يحوسب عمله .. والأتمتة ماشية في كل مكان
(كلمة الأتمتة معربة من Automation أي جعل الشي يسير بصورة آلية)
إذا ً الكل يحتاجك .. والطلب عليك سيزداد يوما بعد يوم
يعني بدك تصير متل الدولار .. هههههه ..
- (ضحكات بدون نفس(
-
الأطباء والمهندسين ملئو الدنيا أما (الكمبيوترجيه) فهم قلة والعالم بحاجة لهم ..
-
يعني أنا شوف أكون (كمبيوترجي(
-
بصراحة أحببت نصحك ، ادخل صيدلة ، صحيح بتدأ بياع
وانت مابتصنع الأدوية اللتي تبيعها ولكنك في النهاية ستكسب ذهب من وراء بيعك للأدوبة
-
ذهب ذهب .. كيف ؟
-
الأمراض ملأت الدنيا .. إذا انت ستكون مرجع مهم للناس المريضة ... والله جد
-
والله مابعرف .. أنا محتار .. على كل شكرا لك
-
ياأخي في تخصص جديد اسمه (صيدلي دكتور( هذا خليط بين الاتنين والله أنو حلو

.. روح جربو
-
أجربه !!؟؟ بأي كافتريا يباع هذا التخصص
-
شوف ياحبيبي .. أنا رجعت من أمريكا بالأمس
أنا من نظرتي البرجوازية أقول لك التسويق (Marketing)
هو التخصص الماشي .. أتدري لماذا؟
- لا

- لأنه أي منتج يحتاج لمسوق شاطر
سواء كان منتج غذائي أو تصنيعي
حتى الــ #$#$#$ سيحتاج لتسويقك
-
استغفر الله .. ماهذا هالكلام ..
-
ياولدي اسمع كلام واحد جاء بالأمس من امريكا
-
طيب شكرا على النصيحة مستر
-
مممممممم ، مارأيك بالهندسة الطيبة
-
طيب .. نظم معلومات حاسوبية
-
تكنلوجيا أنظمة المعلومات
-
نظم معــــــــلومات إدارية
-
أقول لك شي : طــيار
-
هندسه معلومــات
-
برمجة معلومــات
-
تصميم ديــكـور
-
علاج طبيعــي
-
علاج فيزيائي
- .....
_____________________________________
تتوقف عن الاستشارات والسؤال ، بعد أن تحس نفسك
أنك دخلت بدوامة لها بداية وليس لها نهاية وبعد أن تحس
أن رأسك اقترب لمرحلة الانفجار
أو أنك في مرحلة الهدوء الذي يسبق العاصفة
تلجأ إلى من بيده كل شيء .. تصلي ركعتين
وتجلس بعدهما رافعا يديك :
 
اللهم إني استخيرك بعلمك واستقدرك بقدرتك
وأسألك من فضلك العظيم .. فإنك تعلم ولا أعلم
وتقد ولا أقدر وانت علام الغيوب .. اللهم إن كان في دراستي
لتخصص (.....) خير لي في ديني ودنياي وعاقبة امري
وعاجل إمري وآجله .. فاقدره لي ويسره لي ، وإن كان في دراستي
لتخصص (......) شر لي في ديني ودنياي وعاقبة امري وعاجل إمري وآجله
فاصرفه عني واصرفني عنه ثم اقدر لي الخير حيثما كان وارضني به
_____________________________________
يقول الدكتور زغلول النجار:

الهرم المعرفي ، هو ترتيب العلوم على حسب أولويتها وأهميتها ، وهو كالتالي :
وحــــي الـــســمـــــــــــاء
عـلم الفلسفة )حب الحكمة)

العلوم الإنــــــــــــــــــــــــــــــــسانية
الـــعلــــوم  الــــــــــــكونية

متناسيا .. أو متغافلا هذه القاعدة وهذا السلم المعرفي
و بأنك تراوح مكانك في قاع الهرم
أو بالأحرى مغلوبا على أمرك
تختار احد التخصصات السالفة الذكر
وتبدأ الرحلة..
أو إذا أردت فقل : العقدة ..
عقدة التخصص ...
في معترك الحياة الجامعية ..
كان يصيبني مايشبه الاكتئاب عندما أتذكر أني في قاع الهرم
أراوح مكاني
كنت لا أصدق أن تنتهي محاضرات التخصص
لأجري هربا إلى كليات العلوم الإنسانية
من التاريخ إلى اللغة العربية إلى الحقوق .. وهلم جرا
عـلّـِــي أن أرتقي قليلا فأصعد من القاع إلى مافوقه
هذا هو المؤرخ الكبير الدكتور  عماد الدين خليل
يلقي محاضرة عن الدولة العباسة وخلاقة هارون الرشيد
والأمين والمأمون والحضارة التي شيدناها ونسيناها ..
وها أنا أجلس أمامه كأن على رأسي الطير
أسجل كل كلمة تخرج من بين شفتيه
هاهو يخرج لمحاضرة أخرى .. ليتكلم عن الحضارة الإنسانية والرقي الحضاري ومراحله
أطرق الباب فينظر إلي من وراء نظارة ٍٍ زادته وقاراً واتزانا ً ليقول بلهجته العراقية الجميلة:
-
أنت معنا ياولدي في القاعة ؟
-
لا يا دكتور .. أنا أرغب بالحضور كمستمع
-
أعتذر منك ياولدي .. فالأماكن مزدحمة ولامكان لك
- بابتسامة أغلق الباب بلطف ... وأعود وأنا أجر أذيال الخيبة
لألقى أحد الأصدقاء الذين يدرسون الحقوق
-
مرحبا أسامة .. كيفك ؟
-
بخير والحمدلله ..
-
يبدأ بيننا نقاش سياسي .. فكري .. ديني
ينتهي مع تذكري بموعد المحاضرة القادمة .. وصديقي يقول لي :
-
بالله عليك .. أتقارن شخصا يمضي حياته بين الكتب يفكر ، ويحلل
ويحمل هم الأمة بشخص يقضي حياته بين الآلات والمعامل والأجهزة ؟
-
أكيد ياأسامة لا يستوون ولكن ..
-
أعلم ماستقول لي .. ستقول لولا ذلك العامل لما حصل الباحث على الكهرباء
ولولا ذلك المهندس لما استطاع الكاتب طباعه كتبه بالحاسوب ..
-
طبعا هذا ماقصدت ..
-
هذا لاشك فيه فالأمة بحاجة إلى علماء بكل المجالات .. وحكم الشرع فيه : أنه فرض كفاية ..
-
طبعا ،، بمعنى أنه يجب أن يوجد مجموعة من الأطباء والمهندسين و ..... في الأمة ليخدموها
-
و لكن متعة البحث والغوص في الكتب لا تعادلها أي متعة أخرى..
بهدوء أيضا .. أنسحب .. وأنا أقول له :
-
ربما .. على كل حال نكمل بعد المحاضرة..
خرجت من المحاضرة .. أوه ؟ من هذا ؟ وجهه مألوف !!
شاهدته في التلفاز أكثر من مرة.. وااااااااو تذكرت !! إنه الدكتور أحمد نوفل
تتبعت خطواته .. إلى أن رأيته يدخل إلى إحدى القاعات
..
طرقت الباب ودخلت ..
كان الطلاب كلهم من كلية الشريعة
هذا على الأقل مااستطعت أن أميزه ((سيماهم في وجوههم((
كانت المادة بعنوان : (الإعجاز في القرآن الكريم(
أما موضوع البحث فكان .. إعجاز قصة سليمان عليه السلام مع النمل
ماهذا ؟؟ يالله .. المحاضرة في قمة الروعة .. انها على وشك الانتهاء
مر الوقت كالبرق .... رفعت يدي قبل أن يتدراكنا الوقت ، وسألت الدكتور:
خرجت من القاعة .. قابلت أحد الأصدقاء .. على عجلة قال لي :
-
تعال معي بسرعة ؟
-
خير ؟ الى اين ؟
-
محاضرة الثقافة الإسلامية عند  أحمد نوفل .. لاتفوت ...
تبعته كالمجنون .. مع اني كنت قبل دقائق في محاضرة له
دخلنا متأخرين .. كان الموضوع عن الحرب النفسية والإعلامية
بدأ الدكتور يسقط هذه المفاهيم التي يتحدث عنها
على الحرب التي كانت - في حينها - على أشدها في العراق ..
خرجت ورأسي مثقل بأشياء كثيرة ..
بعد كل هذا .. ليس اجمل من فنجان قهوة
ارتشفه في مطعم الجامعة .. لألملم أوراقي وأرتب افكاري..
هل أنا في التخصص الذي أريد ؟
إن كانت الإجابة بالإيجاب .. فلماذا كل هذا ؟
صراع عنيف .. بيني وبين نفسي .. وبين عاطفتي وعقلي.. وبين الحلم و الواقع...
أحد الأشخاص من الذين يدرسون اللغة العربية ، يجلس معي على نفس الطاولة بتطفل ويسألني :
-
هل شاهدت بالأمس ستار أكاديمي ?
-
لا والله ..
-
لماذا؟ (قالها بحرقة(
-
لأني أحتقر كل شخص يشاهد مثل هكذا برامج
وانت مؤخرا قمت بإضافة نفسك لهذه القائمة وتم قبولك فيها بكل جدارة..
-
مافهمت ؟
-
مو لازم تفهم بس بإمكانك تتركني لحالي..
يالله معقول .. إنه يدرس اللغة العربية ومع ذلك فتفكيره بمستوى ما ارتدي في قدمي..
هاهو معتصم الحريري يطل من بعيد..
-
معتصم .. معتصم .. تفضل ..
-
أهلا صديقي .. كيفك ؟
-
اجلس ,, شاركني في احتساء القهوة
-
شكرا لك .. هذا من لطفك
-
هات ماعندك ياشاعرنا .. ماآخر ماكتبت ..
-
آخر ماكتبت .. آخر ماكتبت .. آآآه .. هل سمعت قصيدة لا تبك ِ
-
لا والله .. هات اسمعنا ..
- بدأ معتصم هنا بإلقاء القصيدة بأسلوبه الرائع
لا تبك أرض الأنبياء ..
لاتبك عيناك الجميلة لا يليق بها البكاء ..
لاتبك دمعك أحمر ..
وحزينة فيه الدماء ..
القصيدة كاملة هنا

http://www.freewebs.com/motasem76

- ماشاء الله عليك يامعتصم .. والله كدت تسيل دمعي ..
-
شكرا لك .. هذه القصيدة من اكثر القصائد التي تعذبت في كتابتها
لا تعرف ياصديقي الشعور الذي كان ينتابني في لحظات تأليفها
ولا أدري كم دمعة نزلت من عيني إلا أن استطعت أن أنهيها ..
- نظرات إعجاب وإكبار
-
عن إذتك .. اسمحلي علي ان ألحق المحاضرة .. عن أذنك ..
ذهب معتصم إلى محاضرته .. وهو يدرس (التحاليل الطبية(
نظرت إليه وهو يمشي .... هاهو معتصم يدرس (التحاليل الطبية(
ولكن هذا لم يمنعه عن أداء رسالته .. وحمل هم أمته ..
جئت في وقتك يامعتصم .. جئت في وقتك يامعتصم ..
أقنعت نفسي أخيرا وبعد صراع استمر فصول .. بهذه النظرية
>>>>>>>
مالمانع بأن يكون تخصصك في قاع الهرم ..
ويكون فكرك واهتمامامتك تعلو القمم ..
مالمانع في أن تكون ممن يخدمون الأمة ..
ويرفعون الهمة.. كائنا من تكون
ألم يكن مالك بن نبي مهندسا..
ألم يكن الشهيد يحيى عياش مثله..
ألم نسمع عن آلاف الشعراء والمفكرين والمؤلفين و المبدعين،
كانوا أطباء ومهندسين وحرفيين؟
ليس التخصص شامة تطبع على الجبين..
ننظر لها بمرآة الأيام ..
ونتذكرها بين كل حين وحين..
فنحدد تفكيرنا..
ونغلق عقولنا..
ونجعل اهتمامتنا حكرا على ماندرس..
ومانعمل..
وإلا ..
فرحمة الله عليك أيها المواطن العربي ..
ورحمة الله على ثقافتنا ..
وأعظم الله أجرنا فيها
...