جرة قلم

فؤاد وجاني

به وبسطوره أقسم القاهر في عرشه ، وبنونه وحروفه حلف المنان في كرسيه ، وأوحى لنبيه خير الكلام من هديه . العربية خير بساتينه ، الفصحى أجمل جداوله ، لغة الضاد أعطر  رياحينه ، النثر أوضح ملامحه ، الشعر أبلغ تقاسيمه ، القرآن أغزر معاجمه . درب الأدباء ، وطن الغرباء ، صنو الكرماء ، صِدِّيقُ الشرفاء هو  .

إنه القلم العربي ، ذلك النحيف العفيف يستشهد جهادا على ساحة الورق ، تقي كالسيف هو والخوالج نصاله ، الحروف تصهل كالجياد في ميادين الأدب بفضله ، وشوكة الحق تخز جحافل الباطل بحدته . عدلا يبتغي ، صدقا ينوي ، فمدادا يدمي . مخلوقا لايخاف ، عدوا لايهاب ، وهل يعقل الخوف والدنيا مفارقة ، والمأوى فراش من تراب ،  والمثوى جنة عدن أو خلود في عذاب  ؟

إنه الطاهر المطهر في زمن الغرائز، الماجد المجدد في مكمن العجائز، يستل الأفكار من غمد القرائح سلا، يصهر التجارب من وحي المحن ذهبا ، ينقل العلوم عملا ، يستنبط الأحكام حكما ، يرفع المخلوق إنسانا .

هنيئا لنا بالقلم الهزيل جسما الحصيف عقلا ، يزلزل عروش الملوك من قواعدها ، يستأصل قلوب الطغاة من شرايينها ، يحرر أرواح العاشقين من أسر أبدانها ، يرفع هامات الخيِّرين من خلق تواضعها ، ينير وحشة الدروب في حلكة ظلمتها ، يقدح  رؤوس اليانعين في علو كبريائها ، يقرع مسامع  الجاهلين من نوم غفلتها ، يشحن العزائم في عز تخاذلها ، يحف المشاعر بين رهف أطيافها ، يرسم وجوه الجمال في صور  قبحها ،  فسبحان الخبير الحفيظ يزرع حكمته في أضعف مخلوقاته .

ولما كانت هذه منزلة القلم عندي ومكانته في نفسي ، وإن كنت من الذين لايسألون إنسيا ولاجنيا شيا،  فإن من عاداتي السيئة وماأكثرها عدم استرداد الأقلام لأصحابها ، لذلك ماترددت قط في طلب قلم جميل رأيته ، وماتأخرت عن الإستحواذ على يراع مزركش لمحته، بعد الحصول على إذن من صاحبه  .

ربما لوكانت لغتي الأصلية أعجمية ماكنت لأولع بالقلم كل هذا الولع ، ولاكان له في وجداني كل هذا الشغف ، بل لعلي أكرهه كرها وأضيق بها ذرعا ، إلا أن للعربية حلاوة لاتقاوم ، وبغيرها من الألسن الناقصة لاتقارن ، كما لا يشبه زحل بتمام بدر السما، ولايترك الأصل المثمر ويجنى الفرع الذي لم يثمر ، ولايرتقي الحضيض مبلغ السنا ، ولايبلغ السفح قمة الجبل ، ولايجاوز قبس المصباح ضياء الشمس ، وشتان بين البحر والأنهر،  وهيهات هيهات بين الرغوة والحاملات من السحب .

إلا أن مايحز في مهجتي ، ويضنك عيشتي ، ويؤرق ليلتي ، أن القلم العربي الغني الفصيح عند أمة إقرأ مسكين منبوذ مهجور . فماأن ينتهي الواحد من طلب العلم وتحصيله حتى يقبل على العيش وسعيه، فيهمل القراءة إهمالا ، ويخذل القلم العربي خذلانا.

فلا من مجيب لدعوة القلم إن دعا ، ولامن متلق للإبداع إذا حضر ، ولامن مستمع للكلمة إن نطقت . بيد أن خير الكلام ماكتب بلغة الضاد ، وأشرف قراءة ماقرئ بلغة القرآن ، لغة الحضارة  في سائر الأزمان .

وليس على أكتاف السواد الأعظم وحدها اللومُ يقعُ ،  بل على أعناق الكُتَّاب العتبُ كذلكمُ يَشِعُ ، فترى بعضهم يهيمون في واد ينأى عن حال المجتمع وأوجاعه ، ويتيهون في واحة تقْرُب من ساحة اللهو  وأوزاره .

الكتابة كنز أودعه الله قلوب الكتاب وخزائن عقولهم  ،  وموهبة وصاهم بها ، و رسالة استخلفهم عليها . فلاخير في كتابة تدعو الى منكر ، ولاتحض على معروف ، ولاتصدع بحق  أمام  هوى سافر أو سلطان جائر .

إن الأقلام الأمينة ترسم مسار الشعوب القارئة باتجاه العلم والحكمة ،  وتزرع بذر العشق للوطن والتراث والأرض والتربة ، وتساهم في بناء سد روحي للإنسان يحميه فيضانات الجهل  ويقيه جفاف الظلم .

ولاخير يرجى من مجتمع لايقرأ ، وإذا قرأ لم يعلم ، وإذا علم لم يعمل . وقد تعيش الشعوب بالخبز والماء ، لكنها لاتحيا سوى بالعلم والقراءة ، وشتان ما العيش والحياة . جعلكم الله وإيانا من القارئين الغانمين من فيض القلم ، المتعلمين العاملين  من المهد الى موعد لقاء رب القلم .