هنا مؤقتاً
ياسر علي
كم لفتتني دائماً أبيات لمحمود درويش كان يلقيها في أمسياته، ولم أكن أفهم المقصود منها، إلا مؤخراً. صحيح أنها في جانب منها ذات بُعد فلسفي، غير أنها نزلت على الأرض، وأرض الأرض في زواريب مخيماتنا.
«لماذا يدوم المؤقت يا سيدي إلى الحدّ الذي...»، منذ بداية النكبة، يقول مَن سألتُه، «قالوا لنا: اخرجوا مؤقتاً لمدة خمسة عشر يوماً، وستعودون عند استتباب الأمن!».
وكلما أنهى شيخ أو عجوز شهادته كان يختمها «قالولنا خمستعْشر يوم، ومرت ستين سنة وبعدها ما خلصت الخمستعْشر يوم.. ياه ما أطول هالأيام..».
حياة الفلسطيني في اللجوء مؤقتة، نكبته مؤقتة، أصرّ ويصرّ دائماً على أن تكون مؤقتة، ويرفض أن يقنع نفسه أنها دائمة، فلا توطين ولا تهجير، ولا حل إلا بالعودة.
ولكن، هل يبقى في خيمه التي أعطته إياها الأونروا، أم يسعى إلى تحسين ظروفه من أجل نضال ووعي وكفاءة أفضل؟! اقتناع الفلسطيني بطول اللجوء، جعلته يؤقلم نفسه مع الواقع.
لذلك طوّر خيمته إلى «برّاكية»، ومنها إلى بيت من الحجر بسقف «زينكو». وبعد الحرب اللبنانية شاع في المخيمات صب الأسقف بالباطون بدل «الزينكو». ثم تزوج الأولاد، فعمّروا الطوابق، وأصبحت المخيمات غابات من الإسمنت، وباتت الزواريب مسقوفة بجسور تصل البيوت ببعضها أو بشرفات أو بتعديات بناء..
هذه كلها مقدمة للمشهد التالي:
في مدخل مقفل في مخيم البرج الشمالي، قرب المدارس، كانت دورية الجيش اللبناني ترفع تلّة صغيرة بالرمل، كي لا يتم عبرها «تهريب» مواد البناء «الممنوعة». وكانت مع الأيام، ومن كثرة ما تدوسها أرجل المارة، تنخفض التلّة تدريجياً، فيأمل المواطنون بزوالها التلقائي، ولكن ما تلبث أن تأتي الدورية ومعها جرّافة صغيرة، فتعيد رفعها..
ربما اقتنع الناس أن هذه التلّة صارت تشبه النكبة، وتشبه كل القضايا المؤقتة التي يعاني منها الشعب الفلسطيني. لذلك فإن التلّة ستدوم كدوام المؤقت، ولا بدّ من أجل ذلك أن يتم تحسينها للمارة، بدل الأمل بزوالها.
في الفترة الأخيرة، جاء من صبّ عليها كمية من الباطون، وأنشأ شبه درج بسيط للمارة، في سبيل تحسين شروط مرور المشاة ريثما يتمّ حلّ القضية.
تخيلت أثناء مروري فوق هذه التلّة الرملية أن هذه الطريق ستتطور لاحقاً، فيتم تحويلها إلى رصيف ومتنزه للمشاة، ولكثرة هؤلاء ستتواجد عربات الترمس والبزر والفول وغزل البنات، ثم سيفتتح فيها بعض الدكاكين، وستقام على جانبي الرصيف محلات الإكسبرس والكوكتيل، مع طاولات للضيافة تلّتف حول نافورة ماء ملونة بالضوء..
لم يعد ينقص هذه الطريق سوى أن أصحو من هذا الخيال، وقد صحوت بسبب قوة نفاذ رائحة ما، تأتي من روث الأبقار والدجاج ومستوعبات الزبالة التي تجاور باب مدرسة الأونروا..

