رحمه الله ...كان إنساناً
رحمه الله ...كان إنساناً
يمان حكيم
الإنسانية شيء جميل, بل شيء رائع.. بل هي معنى الحياة التي خلقنا الله من أجلها و سخر لنا الأرض و السماوات مع المخلوقات.. ولكن ما معنى أن يكون المرء إنساناً؟
و كيف يمكن له أن يحقق هذه الخاصية و يتصف بها.. و من ثم يحافظ عليها؟!
للإجابة على هذه التساؤلات لا بدّ من العودة إلى الواقع... و إلى الواقع الحيّ الذي ضاعت فيه معاني الحياة.
و الحق يقال أنك لن تجد صعوبة كبيرة في الإجابة, لأن الجواب هو من يبحث عنك, و يقول لك انظر هنا... حولك.. في نفسك..
يولد الطفل و هو محمل بكل معاني الجمال و الطهر, و الإنسانية, ليجد نفسه وجهاً لوجه أمام عالم أسود قاتم جشع, يضعه على مفرق طريقين, و يقول له اختر أحدهما, و امض فيه...
الأول: مليء بالتعرجات و الأشواك, متشح بالسواد, يبدو الناس فيه أشقياء شاحبين. يعملون ليل نهار دون رحمة أو راحة. تجد في وجوههم بسمةً صفراء, لا تعرف سببها, و علامات الطيبة تعلو عيونهم كالليل القمراء في كبد السماء.
أما الثاني: فهو طريق سهل مفروش بالحرير. آثار الترف و البذخ في كل طرف فيه. يبدو الناس فيه منعمين مالكين. من حولهم الخدم و الحشم. جلسوا يقهقهون و يأكلون و يشربون. تجد في وجوههم السواد و الغضب و لا تعرف السبب, تعلو عيونهم علامات اللؤم و الخبث واضحةً, تستطيع التنبؤ بها كما تتنبأ برائحة الجيفة الميتة.
يقف الطفل حزيناً حائراً بين هذا و ذاك. أيكون آلةً تعمل ليل نهار , ثم تقتل الحياة فيه شيئاً فشيئاً مع عفن الدنيا و متطلباتها, أيترك للدنيا أمره حتى يصبح رقماً من أرقامها, و صخرةً من صخورها؟
أينسى نفسه من أجل سدّ الرمق, ثم يدفع دم قلبه من أجل لحظة إنسانية, و لحظة جمال, و إحساس بالذات أم يقتصر الطريق, و يحمل سكيناً يذبح بها قلبه في البداية, ثم يتحول إلى حيوان مثل باقي الحيوانات. يأكل و يشرب ليتبع غريزةً عمياء صماء, لا تسمع الأنين, و لا ترى الجريح. ميّت الروح و القلب. حيّ الجسد و الغريزة يا له من شعور مثير للاشمئزاز, أن ترى البشر قد تحولوا إلى حيوانات تأكل بعضها بعضاً, و هي تقرع الكؤوس على طاولات العشاء...
في كلا الحالتين سيفقد الإنسانية. و الفرق أن الطريق الأول سيحافظ فيه على البقايا, و قد طويت في الأعماق كطي السجل قد يفتحها سماع بكاء طفل أو صراخ مريض... و الثاني تباد فيه معانيها حتى يقال رحمه الله كان إنساناً.
تريد أن تبقى إنساناً! املك الحياة و الدنيا. كن سيّداً لها... تجد الجمال و المعنى لذي خلقت من أجله لا تجعلها تملكك و تجعلها عبداً لها و لماله.. دعها تركض من أجلك و لا تركض من أجلها و إلاّ اعذرني إذا قلت رحمه الله كنت إنساناً...

