حملته كرهاً ووضعته كرهاً

حملته كرهاً ووضعته كرهاً

بقلم: نبيلة الخطيب

ما إن تحس المرأة ببشائر المولود الأول حتى تُحضر نفسها لمرحلة الأمومة وهي نقلة بعيدة وعميقة لا تدرك حجمها إلا الأم نفسياً ومادياً وتبدأ بالشعور بالمسؤولية وأعبائها، والمرأة في هذا الطور هي رأس الأمر وعموده وذروة سنامه، فليس للأب دور في البداية سوى الإنفاق والرعاية والنظر، أما الأم فهي الحامل وهي المرضع وهي الحاضنة والساهرة والمربية  والممرضة وصدق الله تعالى:

(ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهراً) الأحقاف: 15.

(ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير) لقمان: 14.

 ويقول ابن كثير في قوله تعالى: (حملته أمه كرهاً) أي قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعباً من وحم وغثيان وثقل وكرب (ووضعته كرهاً) أي بمشقة أيضاً من الطلق وشدته.

فالطفل يرضع من دمها ويتشرب أنفاسها وتشكل نبضات قلبه مع خفق قلبها أروع سمفونية هي لحن الحياة والخلود..

وتواصل الأم العناية والتربية والتعليم والتلقين مؤدية أعظم وظيفة وأرقى عمل وأسمى رسالة، تفوق -في الحقيقة- عمل الرجال الذين كتب الله عليهم (الشقاء) في الحديد والتراب والأنعام مع كل الجمادات والعجماوات. يقول تعالى:

(فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) طه: 117.

فالشقاء له وحده، يقول ابن كثير في تفسيره: فتتعب وتعنى وتشقى في طلب رزقك.

أما دورها هي فأنبل عمل يعجز عنه الرجال، إنه تربية الأجيال، ورسم صورة المستقبل للأمة كلها، إنها تمارس أشرف عمل، مع الإنسان الذي كرمه الله على سائر الأشياء (ولقد كرمنا بني آدم) ثم هي تكمل رسالتها وعملها غير السهل ولكنه الجميل الممتع باستقبال الرجل وقد عاد في آخر نهاره مكدوداً مهدوداً تهيئ له أسباب الراحة والاطمئنان، وترخي عليه سدول السكينة والمواساة، وتمسح عنه آلام المكابدة والمكافحة..

إنها تكافح مع الأبناء أماً، ومع الزوج زوجة، وفي البيت راعية.

هي الأم التي لفظتها الجاهلية الأولى، حين كان شعارهم أبوك ثم أبوك ثم أبوك.. فجاء الإسلام ليعدل الميزان ويقول: أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك، لا لينشئ خللاً جديداً، فالميزان لا يعتدل ولا يستقيم إلا بتساوي الثقلين والوزنين، ثم أعطى زيادة اهتمام وعناية بالأم، ثم سوّى بين الوالدين في البر: (يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك وأباك، وأختك وأخاك).

وتقديم الأم على الأب والأخت على الأخ في ذلك الوقت له معنى وقصد.

وروى مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

(رغم أنف من أدرك والديه عند الكبر، أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة).

وروى النسائي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو، وقد جئت أستشيرك. فقال: هل لك من أم؟ قال: نعم. قال: فالزمها، فإن الجنة عند رجليها.

وروى الترمذي عن ابن عمر أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أصبت ذنباً عظيماً، فهل لي من توبة؟ فقال: هل لك من أم؟ قال: لا، قال: فهل لك من خالة؟ قال: نعم. قال: فبرها.

فهذا جزء من تكريم الإسلام للمرأة، أماً، ويكفي أن برها تكفير لأعظم الذنوب، كما جاء في الحديث.

هذه هي المرأة بمكنوناتها الثلاث بنتاً وزوجة وأماً وأختاً وخالة وجدة، ما كان ينبغي أن ترتكس ثانية لتعود ثانية جارية (أن تلد الأمة ربتها) لتوأد من جديد في جاهلية جديدة لتكون آلة تفريخ، لا أكثر ثم ليس لها من الأمر من شيء.. بتحويلها إلى جسد مجرد جسد جامد لا روح فيه ولا حياة ولا أنوثة –فراغ وضياع وعبث- تتقاذفها الرياح الهوج والأعاصير العاتية تحت أسماء وشعارات ودعايات وإعلانات.

أي تكريم للمرأة وقد أضحت ضحية تجارة "الرقيق الأبيض" بالآلاف عدداً في العام الواحد، للتجارة والتكسب الحرام:

(ما أكرمهن إلا كريم وما أهانهن إلا لئيم):

(استوصوا بالنساء خيراً) وصدق الله:

(لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث).

(فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون) المائدة: 100.