و نفسٍ و ما سوّاها
و نفسٍ و ما سوّاها
يمان حكيم *
هناك في زاوية ما من زوايا النفس البشرية, يعيش شيء عجيب بل شيء غريب , شيء يشبه نقطةً سوداء عمياء عششت في النفس حتى باتت في فروعها بل في أصولها, شيء يسيطر على الإنسان دون أن يشعر به حتى يمسي اليد التي يبطش بها, و اللسان الذي يقتل به. شيء يدعو الإنسان ليقتل نفسه بسكين, فيذبحها أو بسم فيقتلها.قد لا يكون هذا بالمعنى الحسي و لكنه يحدث غالباً ...
و في المقابل, يجلس في زاوية أخرى, شيء يقابله و يواجهه و يزجره دون إيذاء النفس البشرية بأية أداة كانت.
و عادةً الإنسان يبقى غريباً عما يحدث داخله و ذلك بسبب زحمة العيش التي يحيا فيها, و لطالما تصرّف ذلك الإنسان دون وعي تام بما يدور من حوله, أو بما يقوم به.
ولكن ماذا لو وضعنا ذلك الإنسان في مواجهةٍ مباشرة مع نفسه, في رحلة ما داخل عالمه الذي لا يعرف عنه شيئاً, ماذا لو تركناه يتحدث مع ذلك الذي يتحكم به ... ليعرف حقيقة ما يجري بداخله, ربما يستطيع أن يشرح لنا ما غمض علينا, و ربما يزيدنا غموضاً بقدرة الله عزّ وجلّ .
سنجد ذلك الإنسان يقول لنا :عندما دخلت إلى ذلك العالم, و تجولت فيه وجدت فيه هوةً عميقة, سحيقة مظلمة, و أحسست أنّي كالضائع الذي لا يعي شيئاّ من حوله. رأيت أناس يتقاتلون و يتشاجرون, و يصيح أحدهم ماذا فعلت و الآخر يقول ما أنا فعلت هذا, و بينما أنا في هذا الضياع شعرت أحدهم يلاحقني , التفت خلفي فألفيت شخص غريب الأطوار, شكله غريب جداً, بل و يدعو للاشمئزاز, قلت له و الحيرة و الغرابة في هذا الموقف تكاد تغلبني: من أنت , و الغريب أنّي عندما أرى نموذج في حياتي على هذا الحال أبتعد عنه تماماً و لا أخالطه و لا أكاد أنطق معه و لا بحرف واحد و لكن هنا الأمر مختلف تماماً رغم منظره القبيح و حالته و استهزائه التي تدل على أخلاقه السيئة إلاّ أنّي وجدت نفسي أحدثه دون أي انزعاج من ذلك و كأنّه إنسان عادي صادفته في حياتي و مستعد لصداقته...
قال لي: و ماذا يفيدك إذا عرفت من أنا , المهم أنّي سأرافقك هنا في رحلتك هذه فقلت له : و ما أدراك أنّي هنا , فضحك ضحكةً ساخرةً و أخذني من يدي ثم أخذ يتجول بي من مكان إلى آخر و هو يريني نماذج من أناس كنت أكرههم كلما أراني إيّاهم و لا أعرف السبب و الغريب أكثر أنّ هذا الشخص أخذ يتحكم بي بطريقٍ غريبة, حتى بتّ أكره كلّ ما رأيت و كل ما حولي, و رغم أن أمي و أبي حتى أقاربي حاولوا تحذيري من ذلك الشيء بطريق غير مباشرة, إلاّ أنّهم كلّما حدثوني في هذا الأمر ازددت كرهاً بالعالم من حولي و عندما وصلت إلى هذا الحد من الكره و البغضاء, أخذ يدعوني إلى شيء أكثر فظاعة... لقد دعاني لقتل نفسي و بالفعل استجبت له.
لقد لاحظت أن ذلك الشخص ذو تأثير عجيب علي حتى أنّي استجبت له دون أي مناقشة وهذا على نقيض ما كنت عليه في حياتي, إذ كنت أناقش الأمور و أجادلها قبل أن أقوم بأي عمل, بل كنت أناقش الناس و أحادثهم, و لكن هنا الحال تغيّر. إذ لم يكن لدي استعداد أن أسمع لأي شخصٍ كان مهما كانت معزّته في داخلي و ذلك بسبب السيطرة الشديدة التي سيطر بها ذلك الشخص علي.
المهم بعد أن طلب مني ذلك قمت بأول محاولة مني لقتل نفسي, و أمسكت بسكين حادة و كبيرة و وجهتها نحو عنقي, و كان الكل من حولي ينظر إلي بروعة و الكل يصيح لا لا لا تفعلي ذلك دون جدوى و هو واقف في الزاوية يمسك سكيناً و ينظف بها أظافره و يبتسم ابتسامةً باردة, و بينما أنا كذلك و إذا بشخص سريع الخطى يخطف السكين و يرميها جانباً نظرت إليه بدهشة فقال لي يا بني لما تفعل ذلك بنفسك ألا ترى أن يأخذ بك على الهاوية.
و ما أحسست إلاّ بذلك الشخص اللعين يختطفني من يدي و يقول لي دعك منه فهو رجل مجنون ثم يأخذ بي إلى مكان فارغ لا يوجد به أحد سواي و إيّاه و يناولني كأس كبيرة من السم القاتل و يقول لي اجترعه فلن تشعر بألم من بعده أبداً و بالفعل أخذت الكأس من يده و أضعته على فمي لأشربه, و لكن يعود ذلك الشخص للظهور أمامي و اختطاف ذلك السم و إلقائه جانباً, حتى إذا ما وقع على الأرض احترق كل ما وقعه عليه, ونظر إليّ قائلاً أرأيت ماذا كنت ستحتسي, مالك هل جننت, فقلت له و من أنت:
قال و هو يبتسم ألا تعرف من أنا و قد عرفت ذلك الكريه و بينما أنا أحدثه عاد ذلك الشخص و أخذني من يدي و راح يشدني و أنا أنظر إلى ذلك الشخص بعينين ملؤها اليأس و هو يقول لي لا لا تفعل لا تصغي إليه. و لكن ذلك الشخص أخذ يشدني و يشدني بقوة حتى أتى بي إلى شرفةٍ عالية و قال: هيّا ألق بنفسك هيّا بسرعة قبل أن يأتي ذلك الشخص و يفسد علينا لذتنا فقمت على حافة الشرفة و وقفت عليها و لكنه عاد و أنزلنا و أخذ يهزني و يقول مالك هيّا اصح, كفاك هلاكاً.
ثم ضمني على صدره و لكني رحت أدفعه و أقول له مالك هل جننت ماذا تفعل بي و ابتعد عنه. فقال: أنا أعرف كيف أصحيك من هذا و إذ به يرفع يده إلى الأعلى ثم يلطمني على خدي و يهزني ثم يضمني على صدره في ذلك الوقت أحسست و كأنّ الدفء سرى في عروقي و نبض به قلبي ثم رأيت النور قد أشرق من حولي فقلت له الآن عرفت من أنت و من هو و اتجهت إلى ذلك الشخص لأراه يفر هارباً و هو يقول لا لا لا ....
فقال لي دعه و شأنه, و لكن لا تبعد عني فإن ابتعدت عني أبعدت الله عنك و إن أبعدت الله غضب عليك و جاءك ذلك الشخص اللعين لحفك بالمخاطر و ليقضي عليك رعاك الله وحفظك من كل مكروه.
قد لا يكون ذلك الإنسان قد أمسك سكيناً أو حاول احتساء السم أو الرمي من مكان عال على أرض الواقع لأنه إن فعل ذلك كان إنسان فاقد للعقل مثله كمثل أية دابة على ظهر الأرض حتى و إن كان بكامل قواه العقلية و لكن الأمر مختلف عن ذلك تماماً و قد تكون أحداث هذه القصة ما هي إلاّ تفسير لأعظم قول في الحياة و الممات على حدٍ سواء و هو قول الله تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم “ و نفسٍ و ما سوّاها فألهمها فجورها و تقواها قد أفلح من زكّاها و قد خاب من دسّاها” صدق الله العظيم.
و أنا أسأل الله تعالى أن أكون و جميع المؤمنين من الذين زكّوها بإذن الله تعالى و إنّ الله على كلّ شيء قدير, و العاقبة للمتقين.
* أديبة سورية.