التربية القرآنية تصنع الإنسان الشامخ
التربية القرآنية تصنع الإنسان الشامخ
محمد السيد *
قال تعالى : " واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد " سورة إبراهيم _ 15 _
هيا نبني نفوساً تستطيع قول " لا " مبصرة ، هيا نخلع الأغلال سيراً بقلوب شامخة ، لتستطيع ركوب فوهة الشمس رجالاً كما صنعهم محمد صلى الله عليه وسلم ، فاتحين يقولون للعالم : جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد القهار ، قاهرين بحروف النوركل الخنوع وانتظار دور الذبح ، بانين بأيادي الإنسان الشامخ طروساً من أناسي ، يصنعون الإضافات الفذة التي تنتظرها الإنسانية .. إذ خذلتها ترهات ذوي العاهات من الجبابرة ، الذين اهريقت بين أيديهم دماء الأبرياء ، وتقيأت قلوبهم أحقاداً ، وامتلأت نفوسهم إقبالاً على الصغائر والزائلات من بضاعة هذه الدنيا ، فراحوا يجتاحون بأباطيلهم كل البراءات ، مرتلين ضلالات فرعون حين قال :
" ... ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد " .
أرأيتم .. إنها كلمة هو قائلها .. وهي ديدن كل الجبابرة على مرّ العصور .. يطلقونها بصيغ متجددة في وجه الشامخين الذين يدندنون بـ " لا " مبصرة . لكن الطغاة يريدون منا أن نكون أبخس الموجودات ، لا نعرف إلا نعم مطأطئة مخذولة مرذولة غير واعية ، ويريدنا الله أن نكون المُكَرَّمين ..
" ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً .."
وأن نكون أبداً يداً من القدرة تبني الحياة ، وتجمل وجهها بشمس الإباء ، وهذه هي القضية ذات الأولوية عند الشامخين .
وها هي التربية القرآنية ، تفضح قول كل مدَّعٍ بأن الليل يملأ حواشي النفوس المؤمنة وأن النور والتنوير يتلألأ في صدور ذوي العاهات من الجبابرة ، وفي قلوب من كانوا قدوة لهم من أهل عاهات الثقافة المستوردة .. فإن كنت على غير يقين من قولنا ، فارجع البصر كرتين هل ترى في قوله تعالى :
" والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم "
إلا النور وإشعاعه ، وهل ترى فيه إلا عبق الهدى ، تنشره حروف مضيئة ، تَخْضَرُّ الأرض بنداها ، ويضيء ليل العالمين بهداها ..؟ أفلا تستيقنون بهذا ..؟ أم أنكم تحتاجون إلى الرحيل مع ظلام ضلال الفراعين العصرية إلى " أبي غريب " وإلى قلعة الشمال الأفغاني ، وإلى رفح .. رفح فلسطين ومصر ؟ ثم ألا تسألون كيف هي رفح ..؟ بعد أن مستها يد الطغاة الذين تربوا خارج آيات الله .. وبعد أن خذلها طغاة صغار على حدودها .. كل همهم أن يخرجوا على العالم كل يوم باعتقال الأيادي المتوضئة ، والنفوس النيرة ممن لا ذنب لهم إلا أن يقولوا :ربنا الله ..ونريد أن نكون بناة للحياة الآمنة فوق أرض الإنسان ؟ . وهنا لا يجد الطغاة حجة لفعلهم هذا إلا فيما قاله فرعونهم من قبل :
" إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد " ..
إذ أنهم جعلوا من كراسيهم دنيا يخافون عليها أن تبدل
إذا انتشر فكر ومعتقد المؤمنين .. وراحوا يصفون الفساد الذي عمموه في الأمة بالطهر والرشاد . مقتدين بما قاله فرعون من قبلهم حين وصف نهجه قائلاً :
" ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد "
ثم أطلقوا على كل فكر أو قول أو رأي آخر ألواناً شتى من الأوصاف ؛ فحيناً سموه إرهاباً .. وتارة قالوا عنه تآمراً ، وتارة أخرى وصموه بالتخلف ومحاولات لإرجاع عقارب الساعة إلى الوراء ..
ولكن .. لكن .. قول الله تعالى : " وخاب كل جبار عنيد " لهم بالمرصاد ، فلا يَتوهَّمْنّ أحدٌ أن الواقع المشاهد هو النهاية ، أو أنه هو الدائم المستمر ، أو أنه المعاصر من الاتجاه و الفكر والسياسة الذي يجب على الكل أن يدير عنانه باتجاهه .. و إلا نُعت الذين يملكون جرأة " لا " نقية فاعلة بشتى النعوت المستحدثة ، تقذف بها نخب أعياها النضال الثوري الذي تبنته ردحاً من الزمن _ خربت من خلاله ما خربت _ وهي اليوم تركب صهوة الليبرالية العلمانية ذات الأنياب الرأسمالية الوحشية ، وذلك لتتابع عمليات التخريب الموكولة إليها من قبل ، متخذة لكل مرحلة زياً مناسباً .. وفي معرض هذا القفز الفكري البهلواني لمثل هؤلاء يحضرني قول لشخص يدعى علي الشهابي يكتب فيقول : ( إن الأصولية ثمرة تزاوج الدين والتخلف ... والأصوليون أينما كانوا نسخة معدلة من طالبان ، نسخة بلا جلباب ولا عمامة ، وقد تكون بطقم وربطة عنق ، تتماشى ومواصفات المجتمع الموجودين فيه ، هذه هي حقيقتهم ، حتى لو تحدثوا عن الحرية والديمقراطية واستعدادهم للعمل المشترك مع الآخرين وتبادل السلطة عبر الانتخابات " .
لا .. ليست هذه هي النهاية ، وليس هذا الواقع المرّ الأليم الذي يزخر بالطواغيت من كل لون سياسي أو ثقافي أو اقتصادي .. هو نهاية التاريخ .. بل إن التاريخ حدثنا قديماً وحديثاً عن نهايات دنيوية أليمة لكثير من الطواغيت كانوا يستحقونها ، كما أن نهايتهم في الآخرة تنتظرهم ، وهي أشد ألماً وفظاعةً ، بل إن الألم والعقاب هناك لا يمكن تصور شدته .. فهذا مآل فرعون وأمين سره هامان .. و تلك نهاية قارون طاغوت المال أمثلة صارخة على سوء مآل الذين أعرضوا عن الهدى ، وغرتهم الحياة الدنيا ، وراحوا يكيلون لأصحاب الفكر النظيف والأيدي النظيفة والسلوك المهتدي بهدي الرحمن شتى أنواع التنكيل و التهميش والإقصاء والتصفية الجسدية والمعنوية ، فوقع أولئك بشر أعمالهم وانتهوا إلى أسوأ النهايات ، واستمرت الحياة بدونهم تتأرجح في موازنة أبدية بين الخير والشر . و في العصر الحديث الكثير من الأمثلة على سوء مآل الطواغيت و في الاتحاد السوفييتي أكبر الأمثلة ، وفي الشاه الدليل القاطع .. وفي صدام حسين العبرة .. ومن بعد هؤلاء ينتظر البعض الدور .. فليتلمس كل طاغوت يعمل على قهر شعبه وإذلاله وهضم حقه رأسه _ وهو يعرف نفسه _ وعلى رأس هؤلاء طواغيت دوليون أمثال بوش ،وآخرون محليون وإقليميون من أمثال شارون .
" واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد "
" وكذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار "
وفي النهاية لا أقول إلا كما قال مؤمن آل فرعون :
" فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد " .
وهذا هو الرأي .. والله أعلم .
* كاتب سوري يعيش في المنفى