" وجعلناكم شعوباً وقبائل "_لتعارفوا _
" وجعلناكم شعوباً وقبائل "
_ لتعارفوا _
محمد السيد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلكم بنو آدم ، وآدم خلق من تراب .. "
بعض الكلام يدهم الفجر في وكناته ، فيخرج مضمخاً بكرامة الإنسان ، ويقطر ندىً عذرياً ، تغار منه وريقات تويج شقائق النعمان ، في اجتماعها المعجز على بعث الجمال والكمال والانسجام ، وذلك رغم الافتراق فيما بينها في الحجم أحياناً ، وفي زهو اللون والافتتان أحياناً أخرى ...
أحسد ذلك التعارف الجمالي ، وأغبط ذلك الافتراق ؛ الذي لا يلبث أن يجد في الانسجام مأوىً آمناً يلتحم فيه بجذر الأب الجامع ، المانع لإدمان العصبيات أو القبليات أو الانحشار في قوقعة الإقليميات .. التي تشن الحروب على الإنساني المتمدن ، الآخذ بروح التقوى ؛ خيمة تجمع الإنسان ولا تفرق ، تظهر التنوع ولا تتعصب ، تجلب الإعمار بالتعاون ولا تحتكر ، تصنع الفرح يربض فوق كل الشفاه ولا تهيمن ..! تقتسم الموجودات بالعدل ولا تندم ..
هي تلك " لتعارفوا " :
(( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ، وجعلناكم شعوباً وقيائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )) .
وكما قال سيد قطب في ظلال القرآن : (والذي يناديكم هذا النداء هو الذي خلقكم من ذكرو أنثى ، وهو يطلعكم على الغاية من " جعلكم شعوباً وقبائل " .
إنها ليست التناحر والخصام ، إنما هي التعارف والوئام ، فأما اختلاف الألسنة والألوان ، واختلاف الطباع والأخلاق ، واختلاف المواهب والاستعدادات ، فتنوع لا يقتضي النزاع والشقاق ، بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف والوفاء بجميع الحاجات ، وليس للون والجنس واللغة والوطن وسائر هذه المعاني من حساب في ميزان الله ..)
إن الحياة اجتماع عام لخدمة الإنسان ؛ كي يجتاز مفازة العمر بأمان ، وكلٌ يخدم في هذا الاجتماع على طريقته وبلونه الخاص ؛ فالخلق عيال الله .. أكثرهم قرباً إلى الله أكثرهم نفعاً لعياله . هذا ما يمكن الاجتماع عليه إذا ما تفرقت الأديان والألوان واللغات والأعراق ، فلنجتمع عليه ، ولنصنع خطابنا الحضاري منه ، ولكن ليعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه من اعتقاد ووسائل واتجاهات . فإذا علمنا أن في ذلك اشتعال العمل ، وأن الحروف إذا تنوعت ، فإن الحناجر عند الله علمها ، وإن الكرامات إلى الله مآلها وتقديرها ، ولكن الصوت في نهاية الأمر مجتمع على الشفاه ؛ يلهج بنفع العيال ، ويقيم جدار الصدّ ، يرد قهر الرجال ، ويصمد لجحافل الغزو ، التي لا تحمل نفعاً ، ولا يسكن شفاهها صدق ، فإن يك بعد الصدّ جرح ، فإن الهم واحدٌ ، والرب
واحدٌ ، والعيال عيالنا جميعاً ، والواجب متحدٌ ، والنزيف من وريد واحد ، والخطاب لا ينفك ينادي فينا ، ممتداً من بيت لحم إلى الأقصى .. إلى مكة : أن تحصنوا بالتقى ، وتعالوا ممتطين جناحين ؛ جناح يرفأ الجرح ، وجناح ينثر ورد اللقاء ، لتنبعث في الآفاق جملة فائقة تقول : مِنْ هنا ، من حصني المنيع ، في مكة الرؤوم ، تدفق النور ، ومن هنا ، من بطاحي التلحمية ، انداح الحبُّ يحمل رسالة الوئام ، فاخنسي جيوش الظلام .. فَمِنْكَ يا ربي السلام وإليك السلام .. مشكور المركز الأردني للدراسات ومأجورٌ إن شاء الله أن أذن في الناس بمؤتمر يذكر بـ لتعاونوا .. وهو بذلك أدى واجباً ودفع بالكلمة إلى الأمام على قدر الاستطاعة .
ولكن ترى .. هل يمكننا حمل تكاليف : " لتعارفوا " ..؟ أم هو اجتماع في قاعة ، في فندق ، وكلمات تُلقى _رفع عتب _ ، أو تأدية واجب وقت ، ثم تصاغ كلمات على عجل ، ليقال : لقد أدينا الواجب ، وأعذرنا ، وأهدينا المقولات للصحافة ؛ كي تملأ بعض فراغها ، ثم أدار الجميع ظهورهم ، ومضوا غير عابئين : إن تحقق بعض ما نظَّروا ، أم لم يتحقق ، فالقضية قضية صوت وصدى الصوت ، وصل أم لم يصل .. لا يهم ..!
" لتعارفوا " : ألم تخشع القلوب لذكر من الله ؟ أم أنها اكتفت بالصوت ، ثم الصمت ، ثم المضي في الحياة ، وليبق ما كان على ما كان ، ولا نبالي .. ؟
إن " لتعارفوا " : عرض رباني كريم ، يدل الناس على طريقة العيش الآمن ، وهو عرض متضمن أمراً ، فيه النفع العظيم لعيال الله ، يحتاج مع القول إلى فعل ، ومع الصوت إلى حراك ، ومع الحراك إلى إرادة التغيير ، ومع الإرادة رؤية تثري الهوية ، وتصون العقائد , وتنتفع بالميراث ، وتنبذ المروق ، وتفتح الأبواب دون النصح والناصحين ، وتغلقها أمام من يريدون تسليم عقولنا للآخرين دون قيد أو شرط ، وتسليم موجوداتنا لهم بدون حساب ولا مراجعة .. وأن تكون مرجعيتنا في كل ذلك التخاذل الذي يريدونه لنا اجتراراً لمصطلح ( الحداثة ) ، الذي يخبئون تحته كل سخائم الهزيمة وبكل تجلياتها . وإلى هؤلاء نقول : إن لدينا " لتعارفوا " ، جامعة لكل من عاش فوق هذه الأرض ، فتحدث بلغتها ، وشرب ماءها ، وتنشق هواءها ، واستلهم تاريخها وتراثها ، وأحب أهلها ، وانتمى إليهم : تاريخاً ، ومواطنة ، وعيشاً مشتركاً ، وهماً واحداً ، منطلقاً أصلاً من اعترافٍ برب واحد ، وجذورٍ مشتركةٍ ، ولغةٍ موحدةٍ ، وجمعٍ عرف أن لا بقاء له إلى بهوية مؤصلة ، وبإيمانٍ عتيدٍ يقرر : أنه لا استمرار لهذا الجمع إلا بالانحياز إلى حصن مدافعة المغيرين المعتدين ، عضداً واحداً يقويه ويمتنه التنوع المبصر ...