على إسفلت الكلام !
لطفي خلف
شاعر فلسطيني
ما عاد لدي متسع من الوقت للخوض في تفاصيل الكتابة ، وما عادت شغلي الشاغل ولا عادت أشجارها تظللني فتميزني عن نفسي العادية في ثوب رجل الشارع الطبيعي قبل اقتحامي نار الكتابة والإبحار على متن قارب بلا شراع عند لحظة الاغتراب الأولى في مجاهيلها وأغوارها السحيقة !
وما عادت غابات النفس تتسع لصراخ ثعالب أفكاري،أضحى مداها أضيق من جناح فكرة مفاجئة ، ولا عادت صحاري نفوذي تملك شيئا من واحات الراحة والطمأنينة والاستقرار ،ولم أعد أجد أحدا يعيرني عكازة ضميره الحي ليوصلني إلى بر الأمان عند اقترابي من حدود الغرق !
كانت المغامرة مسلية، وكان المصفقون لي كثيرين وكان صخب ردودهم التشجيعية العفوية البريئة يصم أذني ، كنت لحظتها أسبح في فضاء انعدام الوزن لشدة ذهولي ما بين الأرض والسماء جذلا ، وكذلك واقعا صعبا لأن لكل بداية أجنحتها الغضة فزغب الاكتمال والنضج لم يكن بما فيه الكفاية حينها للتحليق عاليا ، كانت دروب الحياة سالكة ، وكانت أشجار حسن النوايا تحف بي من كل جانب وأقطف عنها ثمار الطيبة والتسامح والضحكات الحقيقية حيث كان ذلك يمنحني دفعات معنوية قوية تسير حافلات الكتابة عندي على إسفلت الكلام دون وقود.
واليوم تصفعنا أكف الواقع المرير حين نشمر عن سواعدنا لملاحقة كل جديد بسيوف يراعاتنا على هضاب القرطاس حيث يبهرنا اللون الأبيض فنهب لمنازلة ثيران الدمار الفكري الذي يجتاح بظلاله الداكنة عقول وألباب فئات وشرائح عريضة من أجيالنا الذين استسلموا لسطحية الثقافة المستوردة المعلبة في غفلة من الزمن عبر فضائيات منسلخة تماما عن روح حضارتها وتراثها وجذورها لتحقيق أهداف ربحية واستثمار ما هب ودب من برامج تافهة بلا مضامين في أحسن الأحوال.
أين سنقف نحن من كل ذلك ؟ في أي حيز يعيش الكاتب اليوم ؟ وكيف يصنفه عالمنا المادي الجاف ؟ ماذا بقي للمبدع غير الوقوف على أطلال نصوصه والنحيب عليها؟ وأين هو موقعه على خريطة الأولويات والاهتمام في دولنا العربية ؟ لقد ضاقت بنا السبل بعدما سلخنا جلد الكتابة والإبداع عن جسده الأصلي.