أيها الطبيب .. تعال ندعو إلى الله

د.مصطفى عبد الرحمن

أيها الطبيب .. تعال ندعو إلى الله

د.مصطفى عبد الرحمن

عندما كنت حديث العهد بالتدين.. كان لدي اعتقاد غريب بل مفهوم عجيب عن مفهوم الدعوة إلى الله عز وجل ... اظنه انه كان عند أغلبكم ... تذكروا وسترون صدق اتهامي لنفسي ولكم ...

كنت اعتقد أن هناك طريق واحد للدعوة إلى الله لا ثاني له وهو : أن أطلق يوما لحية واضع عمامة والبس جبة وقد يكون لزاما أن اتكئ على عصا ثم اعتلي منبراً في أي مسجد أو مجمع أو تجمع !!!... أي باختصار إن احل محل أي شيخ متفقه في دين الله وأقوم بدوره .. وكأن هذا الدرب قد قل وعاظه أو افتقر إلى رجاله لا قدر الله ...

هذا المفهوم )المقزم) للدعوة جعل كثيرا من الأطباء وغيرهم يضيعون الأوقات ويصرفون الساعات في جدال عقيم غير مفيد في حين ينسون إن عليهم واجبا آخر في إتقان علمهم والإبداع في فنهم !!!...

وكنت والله - عفا الله عني - واحدا من هؤلاء !!!... كنا نقضي الليالي الطويلة في مناقشة )حجم اللحية) التي ترضي الله عز وجل ونصرف الجلسات المديدة في محاولة البعض منا في اقناع الطرف الاخر ان (اتباع مذهب معين) يجوزأولايجوز...

والغريب انني لم اتذكر ان احدا من اخواني استطاع تغيير وجهة نظري التي لطالما دافعت عنها!!!... ولااتذكر ايضا انني استطعت يوما ان اغير قناعة احد من الاخوة في وجهة نظره !!... وكأن مناقشاتنا كانت والله فقط للغو وقتل الاوقات ومحاولة ابراز العضلات!!!...  واذكر حينها- و كانت دماء الشباب لازالت تسري في اوصالنا- أننا كنا اذا تكلمنا نطقنا حمماً... وان بارزنا أرعدت الدنيا من حولنا برقاَ وشرراَ..  واذكر كم كان ذلك يأخذ مني جهدا ويستهلك من عمري وقتا في البحث والتنقيب في الكتب الصفراء لترجيح وجهة نظري امام اخواني ... بينما كانت - ولاتؤاخذونني ان اعترفت لكم وبصراحة - كانت كتب الطب تشكو منا الهجر والنسيان وكنا في كثير من الاحيان لانتذكرها الا اذا اقترب موعد الامتحان وشعر احدنا انه مهدد بالرسوب في صفه!... فكنا ننفض الغبار عن كتاب الامراض والادوية لننقذ ما نستطيع انقاذه !!! ... بينما مناقشاتنا كانت تعلق مؤقتاً... الى ما بعد الامتحانات !!!...

وقد اشتط الامر ببعض الاخوة الى حد ضرورة هجر كلية الطب الى كلية الشريعة حفظها الله اعتقادا منهم ان في ذلك قربى الى الله اكثر وهجرة اليه انفع واسرع ... واذكر كيف كاد ان يستقر في ذهني ذلك... ولولا حبي الشديد للطب لكنت حتما في ذلك الحين من المهاجرين الى كلية الشريعة حفظها الله وزادها علما ونورا ورجالا...

والعجيب ان هذه المفاهيم لازالت تعشعش في اذهان الكثير من شباب الامة وعقولها وادمغتها!!!...  اعرف اخا طبيبا كان معنا هنا في فرنسا ثم عاد الى بلده وقد نال شهادة عالية في تخصص طبي دقيق... لكنني والله لم اكن اجتمع به مرة قبل رحيله – وكان التقائي به اسبوعيا – الا وحدثني عن ضرورة لبس العمامة وتطويل اللحية الى اكثر من شبر ولابد من لبس الجلابة هنا في فرنسا ... نعم هنا في فرنسا !... مهلاً.. مهلاً .. فلقد فعلها والله!… فأتى مرة من بلده زائرا لحضور مؤتمر في باريس... فلم يعرفه احد منا بسهولة .. بلحيته الطويلة وعمامته الشامخة وجبته السابغة وعصاه التي يتوكؤ عليها ليهش بها على جلسائه ومخالطيه !!!...

وبعد ان سلمت عليه وسألته عن اهله وولده بادرته بسؤالي : وما لذي اتى بك يل أخي بعد هذا الغياب الى باريس؟... أخترعت لنا )تكنيكاً( جديدا في فن جراحتك واتيت به الى مؤتمر باريس لكي تعرضه على القوم فيتبنوه كما فعل صموئيل وناتان وكوهين ؟... هل بنيت لنا مستشفى راقيا في مدينتك واجريت فيه دراسات وابحاث واحصائيات وحملتها الينا في حقيبتك لتطلع عليها اهل العلم في باريس وتبين لهم ان الشرق بدأ )يتلحلح( من سباته؟...

اتعلمون بماذا اجابني ؟... قال : اولازلت تفكر بالدنيا كما عهدتك ؟... وأضاف : ان قراءة صفحة في كتاب)اصفر( لهي احب عندي من كل كتب الطب قديمها وجديدها !!!... وان اصل ببحثي الخاص الى ترجيح حديث على اخر احب الي من ان اكتشف علاجا للسرطان او دواءً للايدز !!!... و... فقاطعته معتذراً انني ما استطيع سماع المزيد والله.

أريد ان اتكلم بوضوح وصراحة وأرجو أن تصححوا لي إن كنت جانبت الصواب :

ما اظن ان عقلية طرأت على فكر الامة في عصورها المتأخرة اضر من هذه العقلية ... وما اعتقد ان فكراً مظلماً شاب تفكير الامة كان مخدرا لها اكثر من هذا النمط من التفكير ...

انه حين ساد هذا الاعتقاد تقدم غيرنا ونحن تأخرنا!!!... اخترع غيرنا لنا ونحن استهلكنا!!!... غزا غيرنا القمر ونحن ما صدقنا!!!... ابتدع غيرنا التلفاز ونحن مازدنا ان غنينا فيه بل ورقصنا !!!... وعندما توصلوا الى وصل العالم بزواياه الاربع بما عرف بالانترنت قال بعضنا : انه ليس لنا فاوصد الباب بوجهه!!!... ومازاد اخرون عن البحث فيه عن الغانيات والمميلات والليالي الحالمات !!!... بينما انشغل المخلصون منا في بحث حله او حرمته وصرف اخرون منا الوقت والمال في محاولة تنقيته وتصفيته من امراضه وعلله .

إذا أردت يا أخي أن تعرف حال الأمة :

فتعال معي نبحث في كل الكتب المراجعية في أي من الاختصاصات الطبية.. اتجد منا احد يرصع اسمه غلاف!!..

تعال نفتش في أي من الابحاث العالمية في اشهر الدوريات الدولية... اتجد لنا اثرا يعادل في الثقل وزن ورقة واحدة في أي من هذه المطبوعات الدورية !!!...

تعال ننظر في كل هذه الادوات الطبية القديمة منها والحديثة من عصر السماعة الى عصر الرنان المغناطيسي مروراً  بالصونار والتصوير الطبقي المحوري .. اتعثر لنا على جهد او براءة اختراع او حتى مشاركة في هذا كله!!...

صحيح انك ستجد هنا او هناك اسماء لنا مبعثرة متباعدة متناثرة لكنها لايربطها رابط فلاتفيد منها الامة ولا حتى تمثل الامة في هذا الفضاء العالمي الرحب .

نعم ان من واجب الطبيب الدعوة الى الله عز وجل .. لكن باسلوب آخر :

ان تبحرك بطبك واتقانك لفنك ومداواتك لمريضك هو دعوة الى الله …

ان اختراعا تأتي به او دواء تكشف عنه او تقنية جراحية يلهمك الله اياها جزاء جدك وجهدك وتفكيرك هي دعوة الى الله ...

ان تعليمك لطلابك بحرص وتفان واخلاص لتخريج العلماء والمبدعين والعباقرة والمجيدين هي دعوة الى الله ...

ان كتابا تكتبه او مقالا تنشره او بحثا توزعه فيستفاد منه في الوقاية من الامراض ومعالجة الادواء واتقاء الوباء هو دعوة الى الله .

ان في فكرنا بل ومن صلب عقيدتنا ان الانسان خليفة الله في الارض

) واذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الارض خليفة(

وان الانسان مكلف باعمار هذا الكوكب الى حين يقرر الله سبحانه وحده نهايته... والخلافة والاعمار يقتضيان العلم والاختراع والابداع والبحث عن الافضل .

ان مفهوم العبادة التبس على كثير منا عندما كنا شبابا... ولازال يلتبس على قسم ليس بقليل من الشباب المتدين والساعي الى الله ... فساد هذا المفهوم الرهباني الذي يقصر العبادة على الصلاة والصوم وبعض العبادات الاخرى ... فيرى بعضنا ان ساعات يقضيها في مسجد يعكف فيها على الذكر والتبتل افضل من ساعة يتبحر فيها في طبه او علمه!!.. وان سويعات يمررها في تسبيح الله بلسان متحرك وقلب غافل اقرب الى الله من لحظات من التأمل في بديع صنع الله  في خلق الانسان والحيوان والنبات والكون !!!... عجيب .