القوّة العظمى الظالمة .. أسطورةٌ في أفول !..
بقلم : الدكتور محمد بسام يوسف
في أيلول من عام 2001م، وبَعد أقل من أربعٍ وعشرين ساعةً مضت على تشييع ضحايا إحدى عمليات القصف الجوي الأميركي-البريطاني للمدنيين العراقيين .. وتشييع عددٍ من شهداء انتفاضة الأقصى المباركة، الذين قضوا نحبهم بيدٍ صهيونيةٍ آثمة، وأسلحةٍ وتقنيةٍ أميركية .. وبعد ساعاتٍ من انفضاض المجتمعين من أروقة مؤتمر (ديربان)، الذي شهد أكبر عملية اصطفافٍ إرهابيٍ عنصريٍ ظالمٍ، أميركيٍ-أوروبيٍ-إسرائيلي .. وقع الزلزال المذهل في (نيويورك) و(واشنطن)!.. فانهارت أبنية (مركز التجارة العالمي) و(البنتاغون) الضخمة، الرابضة في قلب أميركة، لتنهار معها أسطورة الأمن الأميركية، التي تَقلَّب في نعيمها الشعب الأميركي، دون غيره من شعوب العالم، لأكثر من نصف قرن، وبالتحديد منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية!.. إذ أصبح العالم يسمع لأول مرةٍ منذ ذلك الوقت، مقولاتٍ عن ضرورة حماية المواطن الأميركي في عُقر داره !.. لأنّ الزلزال المدمّر أطاح بكل بدهيات التفوّق، والقوّة الأميركية الخارقة التي لا تُقهَر !..
العالَم الذي ألِفَ مشاهد ضحايا الاعتداءات الأميركية في العراق، منذ أكثر من عشر سنوات، وضحايا الإرهاب الصهيوني في فلسطين العربية المحتلة، منذ عشرات السنين، التي بلغت أوجها في السنة الأخيرة منذ اندلاع انتفاضة الأقصى .. هذا العالَم، ارتفعت عقيرته في الحادي عشر من أيلول، وهبّ مندّداً، ومتوعّداً (الأشباح الإرهابيين)، الذين ارتكبوا جرائمهم (الإرهابية) في (واشنطن ونيويورك) !.. وفي الحقيقة : إنّ سياسة الكيل بمكيالين أو أكثر، هي السمة البارزة التي تميّز ما يسمى بالنظام العالميّ الجديد !.. وهي -فضلاً عن أنها تمثل وجهاً من وجوه الإرهاب- تصرّ على أن تشدّ من أزر القويّ الظالم الجبار، وعلى أن تسحق الضعيف المستضعَف المضطهد !.. وبذلك تختلّ أهم مقوّمات العدالة والنـزاهة، ولعلّ الإصرار الغربيّ على هذه السياسة الظالمة العرجاء، يمثّل طليعة الأسباب والمبرّرات، التي قادت إلى الصدمة –شديدة العنف- في قلب الولايات المتحدة الأميركية، والتي ستقود إلى صدماتٍ أخرى مدمّرة مماثلة أو أشد .
سياسة الظلم والاستكبار، التي تشكّل البنية التحتية للحضارة الغربية بشكلٍ عام، والأميركية بشكلٍ خاص .. ليست حديثة العهد، وليست حقيقةً طارئةً في حياة العالَم الغربي والأميركي .. فالظلم والاستكبار والاحتكام إلى القوّة المادّية، من أهم أدوات الإرهاب العالميّ، الذي لا يعرف الحدود أو القوانين البشرية أو الشرائع السماوية، أو الخُلُق الإنسانيّ السويّ !.. فأميركة هي التي غَزَتْ ( غرينادا )، كما غزت (هاييتي) و(بَنَما)، وقبلها غزت (فيتنام) و(كورية)، وها هي ذي قد احتلت العراق العربيّ المسلم، وارتكبت خلال تلك الغزوات والاحتلالات أفظع الجرائم بحقّ الشعوب .. وأميركة هي الدولة الوحيدة في العالَم، التي استخدمت السلاح (النوويّ في (هيروشيما) و(ناغازاكي)، الذي فتك بمئات الآلاف من البشر .. وأميركة مع دول الغرب الاستعمارية، هي التي حاصَرَت، وما تزال تحاصر شعوباً ودولاً ذات سيادة، فتمنع عنها الغذاء والدواء، ليموت آلاف الشيوخ والأطفال والرجال والنساء، ضحايا عتوّها وجبروتها وعدوانها .. وإرهابها .. وأميركة هي التي تهيمن بالقوّة الغاشمة على دول العالَم، ومنها دول الخليج العربيّ وغيرها، فتنهب النفط العربي، وترابط جيوشها في المياه الإقليمية العربية، لتبقى بمثابة (اللصّ) الذي يرتدي زيّ الشرطيّ القبيح، الساهر على ضمان استمرار نهب الثروات العربية على أكمل وجه .. وأميركة هي التي تقتل وتفتك وتسفك الدماء الإنسانية، مرةً هنا، وأخرى هناك .. في هذا العالَم .. من غير رقيبٍ أو حسيب .. وأميركة هي التي تستخدم حق النقض (الفيتو) ضد كل قرارٍ عالميٍ يتعرّض لإرهاب الكيان الصهيونيّ المغتصِب المجرم !..
نعم .. أميركة تقترف كل ذلك وغيره .. ومع ذلك، مع كلّ ذلك .. هي ليست دولةً إرهابية !.. ولا تحمي الإرهاب أو ترعاه، أو تصنع أدواته !.. لأنّ الإرهاب في المفهوم الأميركي الغربي، هو كل ما يطال مصالحهم، أما ما يحقق تلك المصالح فليس إرهاباً، ولو كان دون ذلك إفناء شعوبٍ وأمم !..
أما إسرائيل -ربيبة أميركة- فهي دولة متحضّرة، وقلعة متقدّمة لمقاومة الإرهاب !.. ومجازرها ومذابحها بحق الأبرياء مباحة لدى المجتمع الدوليّ الغربيّ والأميركي، لأنه عند إرهاب إسرائيل تُطَأطَأ الرؤوس، ويتوقّف كل حديثٍ عن الإرهاب !.. ووعد (بلفور) لشعبٍ مركّبٍ من مختلف الأعراق، بدولةٍ على أرضٍ ليست أرضه .. واقتلاع شعبٍ كاملٍ من أرضه، وقتل أبنائه وتشريدهم في جهات الأرض الأربع .. ليس إرهاباً !.. أما مقاومة المحتلّ الغاصب، والوقوف أمام صلفه وطغيانه وهمجيته .. فهو الإرهاب، في عُرْفِ أميركة والدول الغربية الاستعمارية المنافقة، التي ترعى الإرهاب الصهيونيّ، وتحميه، وتؤجّج ناره، وتطوّر أساليبه !.. وبهذا يتنكّر سَدَنة النظام العالميّ الجديد لقرارات الأمم المتحدة، التي كتبوها بمِدادِهم، ومنها القرار رقم (3314) الصادر بتاريخ 14/2/1974م، الذي ينصّ على أنّ : [النضال الوطنيّ مشروع للشعوب المحتلّة، بما فيه الكفاح المسلّح، من أجل حرّيتها واستقلالها وحقّها في تقرير مصيرها] .
لقد أمعنت أميركة في غيّها وطغيانها وغرورها، فزرعت الشرّ في كل مكانٍ في العالَم، واستخفّت بشعوب الأرض، وبأرواحهم وحُرُماتهم، وتآمرت على مصالحهم، ونهبت ثرواتهم .. فنثرت بذلك بذور الكراهية والحقد والرغبة في الانتقام .. فكان العالَم على موعدٍ مع قَدَر الله عز وجلّ في إبادة مواضع الشموخ والكبرياء الأميركي، بكلّ استكباره وجبروته الاقتصاديّ والسياسيّ والعسكريّ والمعنويّ، وبأبسط الأدوات وأقلّها كلفةً .. ليكشف قَدَر الله أنّ أميركة ليست إلا نمراً من ورق، أو ذئباً من رمل، أو ضبعاً من ملح !..
إنّ السياسات الغبيّة التي كانت أميركة تستفزّ بها شعوب العالَم طوال نصف قرن، وفي طليعتها الشعوب العربية والإسلامية، هي التي قادتها إلى هذا المأزق في عُقر دارها !.. فوحدها أميركة تتحمّل مسؤولية ما حدث في صباح يوم الثلاثاء الواقع في الحادي عشر من أيلول لعام 2001م !.. ووحدها ستتحمّل تداعيات ما سيحدث .. إذا لم تعتبر وتتّعظ، وتمعن النظر في سياساتها العنصرية الإرهابية بحقّ شعوب الأرض المستضعفة!.. ونجد من الفائدة أن نستحضر، بعض المظاهر والسلوكيات والسياسات التي انتهجتها أميركة منذ عشرات السنين وحتى اليوم : ففي عام 1967م، قال (أيوجين روستو) رئيس قسم التخطيط في وزارة الخارجية الأميركية ومساعد وزير الخارجية، ومستشار الرئيس الأميركي الأسبق (جونسون) لشؤون الشرق الأوسط: [يجب أن ندرك أنّ الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية، ليست خلافاتٍ بين دولٍ أو شعوب، بل هي خلافات بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية] !.. ويضيف (روستو) قائلاً : [.. ولا تستطيع أميركة إلا أن تقف في الصف المعادي للإسلام، إلى جانب العالم الغربيّ والدولة اليهوديّة، لأنها إن فعلت عكس ذلك، فإنها تتنكّر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسّساتها] !..
لعلّ تصريح (روستو) ذلك، يفسّر كثيراً من سلوك الغرب وسياسته تجاه العرب والمسلمين في عصرنا الحاضر .. فأثناء حرب حزيران لعام 1967م، جُمعِت التبرّعات في فرنسة والدول الأوروبية، لصالح الكيان الصهيوني، بواسطة صناديق كُتِبَ عليها : [قاتِلوا المسلمين] !.. كما تم بيع ملايين بطاقات التبرّع لدعم الدولة العبرية، وقد طبعوا على تلك البطاقات عبارة : [هزيمة الهلال] !.. وحديثاً، بعد اندلاع انتفاضة الأقصى المباركة، خرجت (هيلاري كلينتون) زوجة الرئيس الأميركي السابق، في تظاهرةٍ على رأس عشرة آلاف أميركي في (نيويورك)، للتنديد [بالعدوان الفلسطينيّ، وإرهابه وعنفه، الذي يمارسه أطفال فلسطين، ضد الحكومة الصهيونية] !.. وصرّحت (مادلين أولبرايت) وزيرة الخارجية الأميركية السابقة بأنه [على الفلسطينيين الكفّ عن اعتداءاتهم ضد الدولة العبرية] !.. وصرّحت ملكة (السويد) في نفس الوقت بأن [القيادة الفلسطينية تستغلّ الأطفال، فتدفع بهم إلى الموت عن طريق مواجهتهم لجيش الدفاع الإسرائيلي بالحجارة، فيضطر الجنود الإسرائيليون لقتلهم] !.. وصرّح الرئيس الأميركي السابق (بيل كلينتون) بعد مقتل اثنين من الجنود الصهاينة، علماً بأن مئات الفلسطينيين كانوا قد قُتِلوا قبل ذلك .. صرّح قائلاً : [لن نسمح بمزيدٍ من القتلى الإسرائيليين] !.. وفي تعليقه على القتل الوحشي المتعمّد للطفل الفلسطينيّ (محمد رامي الدرّة)، قال (كلينتون) مخاتِلاً : [كنت أتمنى لو أنّ والد الطفل (محمد الدرّة)، قد تمكّن من حماية ابنه بشكلٍ أفضل] !.. وبعد كل الاعتداءات والمجازر التي قامت بها إسرائيل بحقّ الشعب الفلسطينيّ الأعزل، عبّر (الكونغرس) الأميركي بكل وضوح عن [تضامنه الكامل مع إسرائيل وشعبها] !.. فيما دعا الرئيس الأميركي (بوش الصغير) الفلسطينيين، الذين يعانون من الذبح اليوميّ على أيدي اليهود الصهاينة .. دعاهم إلى [التوقّف عن ( الإرهاب ) مئةً في المئة] !.. فأطلق بذلك يد المجرم (شارون) للإمعان في إرهاب الفلسطينيين والتنكيل بهم .. وليس هناك أوضح من تصريح ( شارون ) نفسه، حين قال بُعَيْدَ اندلاع انتفاضة الأقصى المباركة : [كلما تحدث العالَم عن وحشية حكومة (باراك)، نظر لها الشعب الإسرائيليّ باحترام] !.. فهل هناك أشدّ إرهاباً وعنصريةً وساديّةً، من أولئك الزعماء الذين يشنّون علينا أقذر حربٍ إرهابيةٍ، باسم مكافحة الإرهاب العالميّ !..
لقد تسلّطت معظم أنظمة الحكم في العالَم الإسلاميّ على مقدّرات الأوطان والشعوب المسلمة، بمباركةٍ أميركيةٍ ودعمٍ لامحدودٍ منها، ومارست الاستبداد والظلم والاضطهاد، واستخدمت لذلك كل الأدوات الإرهابية، من اعتقالٍ وتعذيبٍ واغتصابٍ لإرادة المواطن، وسلبٍ للأموال العامة والخاصة، وامتهانٍ لكرامة الإنسان، وقهرٍ وبغيٍ، وتزويرٍ لرغبات الشعوب في الحرية والعدل والمساواة .. فكانت أميركة المسؤول غير المباشر، وأحياناً المباشر، عن استعباد هذه الشعوب وإرهابها، لتضمن استمرار تحقيق مصالحها الدنيئة، في الاستغلال وامتصاص الخيرات الوطنية، للدول العربية والإسلامية، وغيرها من دول العالَم الثالث!..
سيسجّل التاريخ، أنّ يوم الحادي عشر من أيلول لعام 2001م، كان يوماً فاصلاً في حياة البشرية الحديثة .. فالعالَم بعد هذا اليوم، ليس هو نفس العالَم الذي كان قبله !.. وكلّ المؤشّرات التي تؤكّدها ردّات الفعل الهوجاء، التي تتعامى عن الأسباب الحقيقية المؤدّية إلى وقوع ما وقع في 11/9/2001م .. تدلّ على أنّ ربع الساعة الأخير لما يسمى بالنظام العالميّ الجديد، قد أشرف على الانقضاء، وسيصبح في زمنٍ غير بعيدٍ، نظاماً عالمياً قديماً !.. وعلى الرغم من المشهد الأليم الصاعق، الذي صوّر للعالَم مأساة إزهاق آلاف الأرواح الإنسانية البريئة، ومهما قيل بشأن الجهة المسؤولة عن الهجمات الصاعقة .. فإنّه من المؤكّد أنّ الجهة التي قامت بهذا العمل، مخترقةً قلعة الجبروت والإرهاب، هي إحدى الجهات العالمية الكثيرة، التي تشعر بالانسحاق والظلم، نتيجة الممارسات الإرهابية الأميركية والغربية .. لذلك فهذه الجهة ليست مجرّد حفنةٍ من القَتَلَة الذين يضحّون بأرواحهم بهذه الطريقة المذهلة -كما يصوّرها الإعلام الغربيّ والصهيونيّ-، بل هي جهة لها منهجها وقاعدتها العَقَديّة والفكرية، التي تعتقد بموجبها أنّ أميركة فرضت عليها وعلى شعوبها حرباً ضاريةً شرسة، فتعاملت مع العدوّ الأميركي بنفس طريقة تعامله معها !... ولا يغيّر من هذه الحقيقة وقوع بعض الأخطاء أثناء تنفيذ الهجوم .. فهي من نفس نوع الأخطاء، التي أزهقت أرواح مئات النساء والأطفال والرضّع، في (ملجأ العامريّة) في قلب بغداد، إبّان حرب الخليج الثانية في عام 1991م !.. ومن فئة الأخطاء الأميركية التي دمّرت مصنع الدواء السودانيّ منذ أقل من ثلاث سنوات !.. ومن مجموعة الأخطاء التي ذبحت عشرات النساء والرجال والأطفال، وحوّلتهم إلى أشلاء متناثرة، في (قانا) جنوبيّ لبنان !.. ومثلها عشرات الأخطاء الأميركية الصهيونية الأوروبية المزعومة، التي ارتُكِبت هنا وهناك، في هذا العالَم المترامي الأطراف !..
لقد نقلت إلينا الأنباء، أخبار الحملات المسعورة الهوجاء، التي قامت وتقوم بها حكومات وفئات شعبية أميركية وأوروبية، بحقّ مواطنين من أصلٍ عربيٍ ومسلمٍ .. وهذا في حقيقة الأمر لا يدل إلا على الخلفية النفسية العدوانية الإرهابية العنصرية، المخزونة في النفسية الأميركية والغربية .. وإلا ما معنى توزيع الاتهامات (بالمجّان) على العرب والمسلمين ؟!.. وما معنى القيام بتلك الأعمال الخسيسة، من اعتقالاتٍ ومداهماتٍ واعتداءٍ، على المراكز الإسلامية والمساجد، والشخصيات المسلمة، والنساء المحجّبات اللواتي أُدخل عدد منهنّ المستشفيات هناك ؟!..
لسنا مندهشين من ردّة الفعل الأميركية، التي جرّت معها دول الغرب المعادي للعرب والمسلمين .. ولا من هذا الاصطفاف الأميركي-الأوروبي-الصهيوني، فهذا الاصطفاف يحصل في كل مرةٍ يكون فيها العدوّ المعلن مسلماً أو عربياً، وقد شاهدناه بجلاء في مؤتمر (ديربان) الشهير منذ سنوات .. ولسنا مندهشين من المحاولات الصهيونية الدنيئة الخبيثة، لخلط الأوراق، ومحاولة النجاة من حقيقة كون الدولة العبرية، أشدّ الدول إرهابيةً ونذالةً ونفاقاً .. لكن الذي يدعو إلى الدهشة والاستغراب والاستهجان، هو اشتراك معظم الأنظمة العربية في (الزّفّة) الأميركية الأطلسية الصهيونية .. وبدلاً من أن تُستثمر الفرصة للتأكيد على الحقوق العربية والإسلامية، في الاستقلال والحرية، والتحرّر من كل أشكال الهيمنة والحِصارات، وفي الانسلال من تحت البسطار الأميركي .. نلاحظ أنّ معظم الأنظمة العربية، وجدت فرصتها للتأكيد على حالة الاستخذاء والعبودية، والتنعّم بتلميع البسطار الأميركي، والاستقرار نهائياً بين تجاويف (نَعله) !..
مهما قيل عن هجمات يوم الحادي عشر من أيلول، فإنها أعادت التوازن المفقود إلى هذا العالَم، الذي اختلّ إلى درجةٍ مقلقةٍ مروّعة بفعل (الإرهاب) الأميركي، فالتوازن العالميّ أساسه: (التوازن في الرعب)!.. وإذا كان ثمّة اختلال في هذا التوازن في قابل الأيام، فسيكون لصالح الكفّة المنافسة لأميركة، أو المعادية لها !.. ولن تستطيع كلّ الإجراءات السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية -مهما بلغت- إعادة العالَم إلى مرحلة ما قبل يوم الثلاثاء الواقع في 11/9/2001م، لأنّ أميركة وأوروبة لن تستطيعا القضاء على الجهات الكثيرة، التي استَعْدَتها ونثرت في نفوس أبنائها بذور الكراهية والرغبة في الانتصار لكرامتها !.. وإنّ الدخول في حربٍ ضاريةٍ مع عدوٍ غير واضح المعالم، وغير محدّدٍ أو مَرئيٍّ، أشبه ما تكون بحربٍ عمياء، ضد (أشباحٍ) غير مرئيّين بالعين المجرّدة، ولا بالعين التكنولوجية الأميركية!..
لا يقدر أحد من البشر على إنهاء ما يسمّونه (إرهاباً)، أو على التخفيف من موجة العداء العارمة لأميركة، التي تجتاح الدول والشعوب المسحوقة .. لا أميركة، ولا أوروبة، ولا أذنابهما من أنظمة العالَم الثالث.. فما يسمّونه (إرهاباً) ينتهي وحسب، عندما تعيد أميركة النظر في كل سياساتها الإرهابية العدوانية تجاه الشعوب، وعندما تتخلّى عن مهمة العَوم ضد سُنَنٍ الله عز وجلّ في هذه الأرض، فسنن الله سبحانه وتعالى ماضية برغم أنوفهم، ومَن يرغب أن يسير وفق هذه السنن الإلهيّة، فعليه أن يعيد النظر بعقلانيةٍ وثقةٍ، بأنّ هذا الذي يسمّونه (إرهاباً) ونسميه جهاداً ومقاومةً مشروعة .. لن يتوقّف إلا بإيقاف مبرّراته، والقضاء على أسبابه، التي تتمثّل في : الاحتلالات، والتسلّط والعدوان، والاستعباد، ونهب ثروات الشعوب، والتآمر على حرّيتها، وامتهان كرامتها، والظلم والاستبداد والقهر والقمع وسحق الإنسان، وعدم تحقيق العدالة والمساواة أو إحقاق الحقّ، وإنصاف المظلومين، ونصر المستضعفين .. وعدم التخلّي عن دور الشرطيّ القبيح الفظ، وعدم التعامل مع الأمم والشعوب على أساس الاحترام، وعدم الاعتراف بحقها في العيش بسلامٍ وأمنٍ، بكامل حقوقها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية والثقافية !.. ما يسمّونه (إرهاباً) يتوقّف وحسب، عندما تتخلّى زعيمة (الإرهاب) العالميّ .. أميركة، عن لغة الاستكبار والغرور في تعاملها مع الأمم والشعوب، وعندما تقوم بقراءة العالَم، بعينٍ أكثر عدلاً، وأقلّ تسلّطاً وبلطجةً، بمراجعةٍ حقيقيةٍ مع النفس، لإزالة كل الأسباب المؤدّية إلى ما يسمّونه (إرهاباً)، وفي مقدّمة هذه الأسباب، ممارسة أميركة نفسها للإرهاب !..
إنّ التحرّكات الأميركية المذعورة، سواء على مستوى التحقيقات الهوجاء، التي تجريها للتعلّق بحبال الهواء، فوزّعت بموجبها اتهاماتها (الإرهابية) لجهاتٍ إسلاميةٍ وعربية، كما أدرجت من قبل في قائمة اكتشافاتها الأمنية (الباهرة)، أسماء أفرادٍ مسلمين، زعمت أنهم من بين الذين (انتحروا) في عمليات الهجوم على (نيويورك وواشنطن) .. ثم اكتشف العالَم أنّ بعض هؤلاء، إما ماتوا منذ سنواتٍ، بحوادث طيرانٍ تدريبية في أميركة .. أو أنهم ما زالوا أحياء يُرزقون، ويعيشون في بلدانهم العربية والإسلامية مواطنين صالحين .. سواء على هذا المستوى من التحقيقات .. أو على مستوى الإعداد لشنّ حربٍ ضاريةٍ، لا تتعدّى كونها حرب تصفية حساباتٍ قديمةٍ، مع بعض الحركات والدول، لإقناع الرأي العام الأميركي والعالمي، بأنها ما تزال -على الرغم من كل ما حدث- القوّة الأعظم في العالَم .. فإنّ أميركة -في الحقيقة- تثبت أنها ما تزال تحتكم إلى مقولة (حاييم هيرتزوغ) رئيس الكيان الصهيونيّ الأسبق، التي أطلقها في بداية التسعينيات من القرن المنصرم : [إنّ الأصولية الإسلامية أكبر خطرٍ يواجه العالَم] !.. وإلى أحد (مانشيتات) صحيفة (الواشنطن بوست) بالأحمر العريض : [الإسلام هو العدوّ رقم واحد للغرب] !.. وإلى موضوع ندوةٍ نظّمها معهد دراسات الشرق الأوسط الأميركي تحت عنوان : [الخطر الإسلاميّ، وتهديده للحضارة الغربية] !.. أي أنّ أميركة ما تزال تنطلق في تعاملها مع العرب والمسلمين، من خلفيةٍ عنصريةٍ صهيونيةٍ صليبيةٍ حاقدة .. من جهة، ومن منطلق سياسة الاستعلاء والغطرسة والاحتكام إلى القوّة الغاشمة، التي أثبتت فشلها على غير صعيد .. من جهةٍ ثانية!.. وإنّ اللغة المتعالية، التي بَدَت أميركة متقنةً لها هذه الأيام، التي تطلق -بموجبها- العنان لتهديداتها المذعورة، بإبادة دولٍ وشعوبٍ تلصق بها تهمة الإرهاب، أو سحقها واستئصالها .. إنما هي جوهر القضية، التي ستصعّد بها، من درجة الغضب والعداء والكراهية لكل ما هو أميركي !.. وإنّ أي عملٍ عسكريٍ يوازي اللغة المتعالية التي تتحدّث بها أميركة .. سيؤدي إلى اتساع سجلّها الإرهابيّ الإجراميّ ضد المدنيين والأبرياء والشعوب المستضعَفة، وهذا سيؤدّي بالضرورة، إلى تراكم مشاعر الألم والقهر والظلم والانسحاق، في نفوس أبناء الشعوب المقهورة .. وهي في ذلك، إنما تزرع شوكاً في كل بقعةٍ من هذه الأرض، بما فيها الوطن الأميركي نفسه .. ولن تحصد نتيجة آثامها إلا زقّوماً وعلقماً، لأنّ مَن يزرع الشوك، لا يَجْنِ العِنَب !.. والله سبحانه وتعالى يقول في محكم التنـزيل : (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ، أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ، أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (النحل :45، 46، 47) .
إنّ المسلمين والحركات الإسلامية مدعوّة اليوم، إلى التأكيد على الاحتكام إلى منهج الله تعالى، وتنفيذه في الأرض، لأنّ هذا الخواء والإفلاس القِيَميّ الكامل، الذي يتجلّى في المناهج البشرية الوضعية الظالمة.. هو فرصة ربّانيّة نادرة، لإبراز عدالة الإسلام ورحمته للعالمين، ولتوضيح منهجه القويم للناس أجمعين، الذي سيكون البلسم الشافي لهذا التخبّط، ولكل الأمراض والمشكلات التي تعاني منها البشرية، التي نعيشها ونلمس تأثيراتها المظلمة على مدار الساعة : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون) (آل عمران : 104).
وبعيداً عن المفهوم المشوّه للإرهاب، الذي تروّجه الدوائر الأميركية والغربية والصهيونية، يتوجّب على المسلمين والحركات والدول الإسلامية، أن تبيّن للبشرية بشكلٍ واضحٍ لا لبس فيه، أنّ (الإرهاب) في المنهج الإسلاميّ هو : إخافة العدوّ، وردعه، لمنعه من التفكير بإيذاء المسلمين والأبرياء الذين يدخلون في عهدهم، أو الاعتداء عليهم وعلى حُرُماتهم .. و(الإرهاب) هو امتلاك القوّة الحقيقية بكل أشكالها وأدواتها ووسائلها، لإرهاب عدوّ الله وعدوّ المسلمين وعدوّ الإنسان .. وهذا ما أكّده القرآن الكريم بقوله : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ .. ) (الأنفال : 60).
فالإرهاب في المفهوم الإسلاميّ، مناقض تماماً للبغي والعدوان والطغيان والظلم والجَوْر والغدر والقتل وسفك الدماء بغير حقّ .. بل هو كل ما يمنع وقوع تلك الشرور بين البشر، بهدف تحقيق العدل والمساواة والتراحم والسعادة للناس : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل : 90)، وأمام هذا البغي وهذا الخواء الذي تعاني منه البشرية، فإنّ المسلمين مطالبون أكثر من أي وقتٍ مضى، وهم على أبواب فجرٍ جديد، بتقديم المنهج الربّانيّ العادل للناس، الذي لن يكون هناك غيره علاجاً لكل الأزمات والجراحات، التي سببتها المناهج الظالمة الباغية، الآيلة إلى الانهيار والزوال، فهل سيكون المسلمون، وفي طليعتهم الحركات الإسلامية المتنوّرة، على مستوى حمل هذه الأمانة الثقيلة، فتتحرّر البشرية على أيديهم، بما في ذلك أميركة الإرهابية !..
( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً )