الدروس والعبر من الهجرة النبوية الشريفة
الدروس والعبر من الهجرة النبوية الشريفة
د. فواز القاسم / سورية
إن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه الكرام الى المدينة المنورة ، تعتبر مدرسة جامعة ، وفيها من الدروس والعبر والعظات ما يغني المسلمين في حاضرهم ومستقبلهم .
ففي كل حركة من حركاتهم درس ، وفي كل سكنة من سكناتهم عبرة ، وفي كل قول من أقوالهم عظة .
وسنحاول في هذه الدراسة الوقوف على أهم هذه الدروس التي يوفقنا الله إليها :
* دروس في التضحية من أجل العقيدة والمبدأ :
لقد برزت في هجرته( ص) ، وأصحابه الكرام ، نماذج من التضحية لا مثيل لها في التاريخ .
فالهجرة بحد ذاتها ، نوع من أرقى أنواع التضحية ، لا يعرفها إلا من ذاقها ، ولا يستشعرها إلا من مارسها. ولعل من أهم هذه الدروس :
1.التضحية بالنفس :
إن من البداهة أن كل من هاجر وترك وطنه ، يكون قد ضحى بنفسه ابتداءً ، لأنه يكون بهذه الخطوة قد سلخ نفسه من صف الجاهلية ونظامها ، وانخرط في صف الاسلام ونظامه ، على ما بين النظامين من تعارض ، وعلى ما بين الصفين والخندقين من عداء .!
ولكن سأقف على أروع نماذج التضحية بالنفس من أجل العقيدة والقيادة ، وهي تضحية علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، يوم قبل أن ينام في سرير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على علمه بخطة المشركين لاغتياله تلك الليلة ، وهو يرى بأم عينيه اجتماع المشركين وبأيديهم السيوف على بابه ، وهم يتحينون الفرصة السانحة للانقضاض عليه . فأي نموذج في الفداء هذا !؟ . وأية تضحية هذه !؟
قال ابن اسحق : فأتى جبريلُ عليه السلام ، رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه . قال : فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم ، قال لعلي بن أبي طالب : (( نم على فراشي ، وتسجَّ ببردي )). هشام ص482
2. التضحية بالزوجة والولد :
قال ابن هشام : فكان أول من هاجر الى المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، واسمه عبد الله ، هاجر الى المدينة قبل بيعة أصحاب العقبة بسنة ، وكان قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة من الحبشة ، فلما آذته قريش ، وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار ، خرج الى المدينة مهاجراً .!
ولنترك لأم سلمة رضي الله عنها ، المتخصصة في رواية أحاديث الهجرة ، تقص علينا وقائع هذه الملحمة الخالدة ، قالت :
لما أجمع أبو سلمة الخروج الى المدينة ، رحل لي بعيره ثم حملني عليه، وحمل معي ابني سلمة في حجري ثم خرج يقود بي بعيره ، فلما رأته رجال بني المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم ، قاموا إليه، فقالوا : هذه نفسك غلبتنا عليها ، أرأيت صاحبتك هذه ، علام نتركك تسير بها في البلاد !؟
قالت فنزعوا خطام البعير من يده ، فأخذوني منه ، قالت : وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد ، رهط أبي سلمة، فقالوا : لا والله ، لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا .!
قالت : فتجاذبوا بُنيَّ ، سلمة ، بينهم حتى خلعوا يده .!!!
وانطلق به بنو عبد الأسد وحبسني بنو المغيرة عندهم ، وانطلق زوجي أبو سلمة الى المدينة .!
قالت : ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني . قالت : فكنت أخرج كل غداة ، فأجلس بالأبطح ، فما أزال أبكي حتى أمسى سنة أو قريباً منها ، حتى مر بي رجل من بني عمي ، فرأى ما بي فرحمني،
فقال لبني المغيرة : ألا تخرجون هذه المسكينة ، فرقتم بينها وبين زوجها وولدها .!؟
قالت : فقالوا لي : الحقي بزوجك إن شئت . قالت : ورد بنو عبد الأسد إليَّ عند ذلك ابني .!
قالت : فارتحلت بعيري ، ثم أخذت بُنيَّ فوضعته في حجري ، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة .
هشام ص 469 .
ألا … فهل هناك أعظم ، وأروع ، من هكذا تضحية .!؟
3. التضحية بالمال :
لقد ضحى كل المهاجرين بأموالهم ، فلم يخرج واحد منهم ، إلا خلّف أمواله كلها أو بعضها من ورائه في مكة ، وكان له لون من ألوان التضحية . ولكنني هنا سأكتفي بهذين النموذجين الرائعين ، لدلالتهما الباهرة على تقديم العقيدة والمبدأ ، عند المهاجرين ، على الأموال .!!
قال ابن هشام : وذكر لي عن أبي عثمان النهدي ، أنه قال : بلغني أن صهيباً حين أراد الهجرة ، قال له كفار مكة : أتيتنا صعلوكاً حقيراً ، فكثر مالك عندنا ، وبلغت الذي بلغت ، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك .!؟ والله لا يكون ذلك .!
فقال لهم صهيب :أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي !؟
قالوا نعم . قال : فإني جعلت لكم مالي .! قال : فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
(( ربح البيع صهيب ، ربح البيع صهيب .!)). هشام477
وهذه أسماء تحدث عن أبيها أبي بكر رضي الله عنه ، قالت : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرج أبو بكر معه ، احتمل أبو بكر ماله كله ، وكان خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم ، فانطلق به معه .
قالت : فدخل علينا جدي أبو قحافة ، وقد ذهب بصره ، فقال : والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه .! قالت : قلت : كلا يا أبت .!
انه قد ترك لنا خيراً كثيراً ، قالت : فأخذت أحجاراً ، فوضعتها في كوة في البيت ، التي كان أبي يضع أمواله فيها ، ثم وضعت عليها ثوباً ، ثم أخذت بيده ، فقلت : يا أبت ، ضع يدك على هذا المال .! قالت : فوضع يده عليه ، فقال : لا بأس ، اذا ترك لكم هذا فقد أحسن وفي هذا بلاغ لكم .! ولا والله ما ترك لنا أبي شيئاً، ولكنني أردت أن أسكّن الشيخ.!!! هشام ص 488 …
فهل هناك أعظم من هذه التضحية .!؟ وهل هناك أروع من هذه التربية .!؟
4. التضحية بالبيت :
ما من مهاجري إلا وترك بيته حين هاجر. وفي ترك بيت العائلة ما فيه من اللوعة والأسى ، يعرفه جيداً الذين خرجوا منه لزواج أو سفر مؤقت .. فكيف بمن تركه الى الأبد.!!؟
قال ابن اسحق : ثم كان أول من قدمها (أي المدينة) من المهاجرين بعد أبي سلمة ، عامر بن ربيعة ومعه امرأته ليلى بنت أبي حثمة . ثم عبدالله بن جحش ، ارتحل بأهله وبأخيه عبد بن جحش ( أبو أحمد) وهو رجل ضرير البصر ، فغلقت دار بني جحش هجرة ، فمر بها عتبة بن ربيعة ، والعباس بن عبد المطلب، وأبو جهل بن هشام ، فنظر إليها عتبة بن ربيعة تخفق أبوابها يباباً (قفرا) ليس فيها ساكن ، فلما رآها كذلك أنشد في حسرة :
وكل دار وإن طالت سلامتُها يوماً ستدركها النكباءُ والحُوَبُ .
فهل يجد اليوم ، من هجر وطنه وبيته ، في هذا النص الباهر ، شيئاً من العزاء .!؟
قال ابن اسحق وتلاحق المهاجرون الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق بمكة منهم أحد ، إلا مفتون أو محبوس ، ولم يوعب أهل هجرة من مكة بأهليهم وأموالهم ، الى الله تبارك وتعالى ، والى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أهل دور مسمون : بنو مظعون من بني جمح ، وبنو جحش بن رئاب ، حلفاء بني أمية ، وبنو البكير ، من بني سعد بن ليث ، حلفاء بني عـدي ، فـان دورهـم غلقت بمكة هجـرة ، ليس فيـها ساكن . هشام ص 499 .
5. التضحية بالعائلة كلها :
أي نوع من الدعاة كان أبو بكر رضي الله عنه !؟
لقد سخّر كل ما يملك فداءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخدمة لدعوته …
سخر نفسه ، وأولاده ، وأمواله ، وعبيده ، ورواحله ، وأغنامه ، لخدمة العقيدة ، وإنجاح الهجرة…
أما هو فخادم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومرافق له ، يفديه بالروح والدم والعشيرة ..
وأما أهل بيته ، ومواليه ، فقد كان لكل واحد منهم مهمة ..
فعبد الله بن أبي بكر ، لتنصّت الأخبار ، وأسماء بنت أبي بكر ، لجلب الطعام ، وعامر بن فهيرة مولاه ، لتعفية الآثار …
والرواحل للركوب . والغنم لشرب اللبن . والمال يستأجرون به الدليل ، ويتبلغون به على الطريق …
فهل رأيتم في الدنيا أعظم وأبرك على الدعوة من عائلة هذا الحواري الجليل ، رضي الله عنه .!؟
* دروس في الصحبة :
هذه المرة سنتعلم دروس وآداب وفقه الصحبة والسفر ، لكن من مشرك وليس من مسلم .
أنه مشرك نعم ، ولكنه عربي أصيل . ولقد فقد الكثيرون هذه الأيام حتى قيم العروبة الأصيلة ، فضلاً عن قيم الدعوة والإسلام .!
ولنستأنف مع الصدّيقة أم سلمة رضي الله عنها ذات الهجرتين ، في ملحمتها الرائعة . ولقد وصلنا معها الى اللحظة التي أطلق الله فيها سراحها ، وردَّ إليها وليدها .
قالت : فارتحلت بعيري ثم أخذت ابني فوضعته في حجري ، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة ، وما معي أحد من خلق الله . قالت : فقلت : أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي .
حتى اذا كنت بالتنعيم ( موضع بين مكة وسرف، على فرسخين من مكة) لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة ، أخا بني عبد الدار ، فقال لي : إلى أين يا بنت أبي أمية .!؟ قالت : فقلت : أريد زوجي بالمدينة . قال : أو ما معك أحد ؟ قالت : فقلت : لا والله إلا الله وبُنيّ هذا . قال : والله ما لك من مترك .
فأخذ بخطام البعير ، فانطلق معي وهو يهوي بي ، فو الله ما صحبت رجلاً من العرب قط ، أرى أنه كان أكرم منه ، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ، ثم استأخر عني ، حتى إذا نزلت استأخر ببعيري ، فحط عنه ، ثم قيده في الشجرة ، ثم تنحى عني ، إلى شجرة ، فاضطجع تحتها ، فإذا دنا الرواح ، قام الى بعيري فقدمه فرحله ، ثم استأخر عني ، وقال : اركبي . فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه ، فقاده ، حتى ينزل بي . فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة فلما نظر الى قرية بني عمرو بن عوف بقباء ، قال : زوجك في هذه القرية – وكان أبو سلمة نازلاً فيها – فادخليها على بركة الله ثم انصرف راجعاً الى مكة وهو يومئذ مشرك ..!!! فكانت أم سلمة تقول : والله ما أعلم أهل بيت في الاسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة ، ومـا رأيت صاحبـاً قـط كان أكـرم من عثمـان بن طلحة . هشام ص 470 .
* دروس في الفدائية :
من هجرة عملاق الاسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، نقف على أكثر من درس وعبرة .
فبالاضافة للشجاعة والعزيمة النادرة التي ظهرت في موقف الفاروق المعروف أثناء الهجرة ، فقد كان هناك درس في وجوب توخي الحذر من السقوط في أحابيل الحرب النفسية المعادية ، ودروس في الفدائية النادرة في الاسلام . قال ابن اسحق : ثم خرج عمر بن الخطاب ، وعياش بن أبي ربيعة المخزومي حتى قدما المدينة . يقول عمر متحدثاً عن هذه الرحلة : فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء ، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام، الى عياش بن أبي ربيعة ، وكان ابن عمّهما ، وأخاهما لأمهما ، حتى قدما علينا المدينة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة . فكلماه وقالا له : إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك ، ولا تستظل من شمس حتى تراك ، فرقَّ لها .
فقلت له : يا عياش إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم ، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت ، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت . قال : فقال : أبر قسم أمي ، ولي هنالك مال فآخذه .
قال : فقلت : والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالاً ، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما .
قال : فأبى علي إلا أن يخرج معهما . فلما أبى الا ذلك ، قال : قلت له : أما إذ قد فعلت ما فعلت ، فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول ، فالزم ظهرها ، فان رابك من القوم ريب ، فانج عليها .
فخرج عليها معهما . حتى إذا كانوا ببعض الطريق ، قال له أبو جهل : يا ابن أخي ، والله لقد استغلظت بعيري هذا ، أفلا تعقبني على ناقتك هذه ؟ قال : بلى . قال : فأناخ ، وأناخا ليتحول عليها ، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه وربطاه ، ثم دخلا به مكة نهاراً موثقاً ، ثم قالا : يا أهل مكة ، هكذا فافعلوا بسفهائكم.! وفتناه فافتتن .! ثم سجنوه مع هشام بن العاصي في سجن واحد …
قال ابن هشام : ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المدينة قال لأصحابه : من لي بعياش بن أبي ربيعة ، وهشام بن العاصي ؟ فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة : أنا لك يا رسول الله بهما ، فخرج الى مكة فقدمها مستخفياً ، فلقي امرأة تحمل طعاماً ، فقال لها : أين تريدين يا أمة الله ؟ قالت : أريد هذين المحبوسين – تعنيهما- فتبعها حتى عرف موضعهما ، وكانا محبوسين في بيت لا سقف له . فلما أمسى تسور عليهما ، ثم أخذ مروة (حجر) فوضعها تحت قيديهما ، ثم ضربهما بسيفه فقطعهما ، فكان يقال لسيفه (ذو المروة) لذلك. ثم حملهما على بعيره ، وساق بهما ، فعثر فدميت إصبعه ، فقال :
هل أنت الا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت
ثم قدم بهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة . هشام ص 476 .
* دروس في أخلاق الدعاة والقادة وآدابهم :
لقد كانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم مدرسة للدعاة والقادة ، ينهلون منها من روائع الآداب العامة ، والأخلاق الربانية الفاضلة …
فقد كانت هجرته درساً في :
1. أدب الزيارة :
فهذه عائشة رضي الله عنها تصف الأدب الجم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة أصدقائه، فهو لا يزورهم في غير وقت الزيارة المعتاد .
قالت عائشة رضي الله عنها : كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار ، إما بكرة وإما عشية ، فهو لا يأتي بالهاجرة ووقت الراحة والقيلولة ...
فليتعلم الدعاة ذلك .!
2. ودرساً في الإيثار :
وأي إيثار أعظم من أن يؤمّن كل إخوانه ، ويطمئن عليهم في موطنهم الجديد ، ثم يكون هو آخرهم هجرة.؟ ولنعرج على خيمة أم معبد ، لنصحب هذا الركب المبارك ، ونقتبس النور والحكمة من هذا المهاجر العظيم .
تقول السيرة : لقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم وموكبه الكريم ، على خيمة أم معبد في بطن الصحراء، والقافلة تضم (محمد بن عبد الله سيد ولد آدم ، وأبو بكر الصديق أفضل هذه الامة بعد نبيها ، وعامر بن فهيرة خادمهما ، وعبد الله بن أرقط المشرك دليلهما) . فسألوها لحماً وتمراً يشترون منها ، فلم يصيبوا عندها شيئاً . فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم الى شاة بكسر الخيمة ، فقال : ما هذه الشاة يا أم معبد !؟ قالت : شاة خلّفها الجهد عن الغنم . فقال : هل بها من لبن ؟
قالت : هي أجهد من ذلك . قال : أتأذنين لي أن أحلبها .!؟
قالت : بأبي أنت وأمي ، إن رأيت بها حلباً فاحلبها .!
فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمسح بيده ضرعها ، فسمى الله تعالى ، ودعا لها في شأنها فتفاجّت عليه ، ودرّت واجترّت ، ودعا بإناء ، فحلب فيه ثجاً حتى علاه لبنها ، ثم سقاها حتى رويت ، وسقى أصحابه حتى رووا ، وشرب هو آخرهم ، ثم أراضوا ، ثم صب فيه ثانياً بعد بدء حتى ملأ الإناء ، ثم غادره عندها ، ثم بايعها على الاسلام ، ثم ارتحلوا عنها…
يا لها من جامعة .. تحت سقف خيمة .. في هجير الصحراء الملتهبة…لتدريس مادة الأخلاق الإنسانية .!!
وهذه هي موادها : أدب ، واستئذان ، وتواضع ، وعبودية ، وإيثار، ووفاء ، ودعوه ، ومبايعة .!!
فهل هناك جامعة في الدنيا أعظم من جامعة أم معبد .!؟
وهل هناك مدرس في الوجود يلقي كل هذه المحاضرات في حصة واحدة .!!!؟
3. ودرساً في الأمانة :
أية أخلاق ، وأية أمانة ، تلك التي يمتلكها رجل يطارده المشركون ويخططون لقتله ، فيحاصرون بيته ، ويسدّون عليه منافذ الأرض ، وهو حائر بأماناتهم أنفسهم ، كيف يسددها لهم .!!؟
قال ابن اسحق : ولم يعلم بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد حين خرج الا علي بن ابي طالب ، وأبو بكر الصديق ، وآل ابي بكر. أما عليّ فان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره بخروجه ، وأمره أن يتخلف بعده بمكة ، حتى يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع ، التي كانت عنده للناس . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه ، إلا وضعه عنده ، لما يعلم من صدقه وأمانته صلى الله عليه وسلم . هشام ص 485 .
4.وآخر في النـزاهة :
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في القضايا المالية ، مضرب المثل في النـزاهة والترفع والعفّة فكان هو الذي يفضل أن يعطي أصحابه لا أن يأخذ منهم .
وكان يتوجّس كثيراً من أن يناله من وراء دعوته أي مكسب دنيوي..
ولقد كان مبالغاً في ذلك حتى يتعلم الدعاة من بعده ، فلا يتخذون من دعواتهم دكاكين سياسيّة للمتاجرة والربح والإثراء .!
قال ابن اسحق : فلما قرّب أبو بكر رضي الله عنه الراحلتين الى رسول الله صلى الله عليه وسلم قدّم أفضلهما، ثم قال : اركب ، فداك أبي وامي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لا أركب بعيراً ليس لي . قال : فهي لك يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي .
قال : لا ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به ؟
قال كذا وكذا ، قال: قد أخذتها به ، قال : هي لك يا رسول الله ، فركبا وانطلقا … هشام ص 487 .
ولقد روى البخاري في صحيحه ، وأبو سعد من طبقاته 2/4 ، 4/258
ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بركت ناقته في مربد الفلاحَين الأنصاريين .
أمر أن يُبنى ذلك الموضع مسجداً ، ودعا الفلاحَين ، وكانا يتيمين في كفالة أسعد بن زرارة ، فسام فيه فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله . فأبـى رسـول الله صلى الله عليه وسلم حتـى ابتاعـه منهما بعشرة دنانير .بوطي ص 193
5. وآخر في القدوة :
لقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم كلها قدوة ، فلقد ضرب أروع الأمثلة في الصبر والتحمل ، فكان قدوة لاصحابه في أيام المحن ، ولقد برز جانب القدوة في الأخذ بالأسباب المادية أثناء الهجرة بشكل يدعو الى الإعجاب ..
6. وفي محبة الإخوان والحرص عليهم :
برز ذلك في حبه لعمار بن ياسر رضي الله عنه ، قال ابن اسحق : اختلف عمار بن ياسر وأحد الصحابة الكرام (رضي الله عنهما) فتلاسنا ، فقال ذلك الصحابي لعمار : قد سمعت ما تقول منذ اليوم يا بن سمية ، والله إني لأراني سأعرض هذه العصا لأنفك . قال : وفي يده عصا .!
قال : فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال :
ما لهم ولعمار ، يدعوهم الى الجنة ، ويدعونه الى النار .!؟
(( إن عمار جلدة ما بين عيني وأنفي)) . هشام ص 497 .
وذلك كناية عن حبه له ، وقربه منه …
وكذلك في استنقاذه لعياش بن أبي ربيعة ، وهشام بن العاصي في القصة التي وردت سابقاً، حين قال لأصحابه: (( من لي بعياش بن أبي ربيعة ، وهشام بن العاصي )).؟
فتطوع الوليد بن الوليد بن المغيرة رضي الله عنه لاستنقاذهما من سجنهما في مكة ، في أروع عملية فدائية استشهادية عرفتها تلك القرون. !!
* دروس للنساء فقط :
لقد كان للنساء دور عظيم في مسيرة الدعوة الاسلامية في مرحلة الاستضعاف المكية ..
فلقد كان أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة ، وهي السيدة الفاضلة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها .
قال ابن اسحق : وآمنت خديجة بنت خويلد ، وصدقت بما جاءه من الله ، ووازرته على أمره ، وكانت أول من آمن بالله وبرسوله، وصدّق بما جاء منه . فخفف الله بذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم ، لا يسمع شيئاً مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له ، فيحزنه ذلك ، إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها ، تثبته وتخفف عنه، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس ، رحمها الله تعالى . وكان أول من هاجر في الله على وجه الأرض من هذه الأمة ، هو عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هاجرا أول من هاجر الى الحبشة . ولقد رأينا الملحمة الأسطورية التي عاشتها المهاجرة الصابرة أم سلمة رضي الله عنها في هجرتها مع زوجها أبو سلمة الى المدينة المنورة ، كما رأيناها من قبل مهاجرة الى الحبشة ، ولقد كانت شهادتها الرائعة إحدى أهم الشهادات التاريخية عن تلك الرحلة المباركة .
ولقد كانت المرأة المسلمة حاضرة في بيعة العقبة ، وهي واحدة من أهم المحطات في دعوته صلى الله عليه وسلم ، والتي كان لها ما بعدها ، وغيرت وجه التاريخ..
ولقد رأينا دور أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها البارز في هجرته صلى الله عليه وسلم .
فلقد ساهمت بشكل فعال في أحداث الهجرة ، كما كان لها شرف تحمّل الإيذاء في سبيل الله ، ومن أجل العقيدة والمبادئ والدعوة …
تغير الأولويات بتغير الظرف والمرحلة :
لقد كانت الهجرة النبوية الشريفة حدثاً هائلاً في تاريخ الدعوة الاسلامية ، نقل الجماعة المسلمة ، ونقل الامة من ورائها ، من طور الى طور ، ومن واقع الى واقع .
ولم تكن الهجرة بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين، مجرد تغيير سكن ، أو تغيير وطن فحسب _ كما ذكرنا سابقاً_ بل كانت قبل ذلك ، تغيير واقع ، وتغيير مرحلة ، وتغيير ظرف ، وتغيير خطة ، وتغيير أولويات وتغيير اهتمامات …
لقد كان من جوهر خطة النبي صلى الله عليه وسلم في مرحلة الاستضعاف في مكة ، هو الصبر وكف الأيدي ، واحتمال الأذى ، وعدم المواجهة . وكان من أولى أولوياته ، الدعوة والبناء …
دعوة الناس بحذر شديد الى الاسلام . ثم بناء المدعويين ، بصبر وأناة فائقين ، ليكونوا لبنات جاهزة لتشييد صرح الاسلام العظيم ، والدفاع عنه ، عندما يحين الوقت لذلك ..وها قد أزفت الساعة ، وحان وقت التنفيذ ، فلقد ذهبت مرحلة الخوف والصبر ، واحتمال الأذى ، وكف الأيدي. وبدأت مرحلة الأمن والقوة والعزة والجهاد … (( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ، وإن الله على نصرهم لقدير ))
ولذلك .. ما إن وطئت أقدام رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض المدينة المنورة ، حتى بدأ يضع خطته الجديدة على ضوء الواقع الجديد …ولئن كان أهم عنصر في مرحلة الاستضعاف هو (الدعوة) المصحوبة (بالصبر) . فان أهم فقرة في مرحلة التمكين هي (الدعوة) أيضاً، ولكن المدعومة (بالقوة) ، والمحمية (بالجهاد) ، والمنطلقة من (الدولة) ... ولذلك فقد كان أول عمل عمله رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض التمكين هو : تأسيس أركان الدولة الاسلامية (الداعية) ، وبناء الجيش الإسلامي (المجاهد ) ..
الذي يدافع عن هذه الدولة ويحميها ، ويكون قادراً على تحطيم كل الحواجز ، وكسر كل القيود ، وإزالة كل العقبات ، التي تحول دون إيصال صوت الدعوة الخالد الى أرجاء الأرض ….
وتحقيقاً لهذه الخطة الجديدة ، وتنفيذاً لأولوياتها فقد بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتطبيق الإجراءات التالية :
1. حشد القوى وتجميع الطاقات :
لا توجد دولة بدون شعب ، ولا يوجد جيش بدون جنود ..!
ولذلك فان أهم خطوة قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لاقامة دولته الداعية ، وبناء جيشه المجاهد ، هو حشد كل القوى ، وتجميع كامل الطاقات لهذه المهمة العظيمة، إن في المدينة نفسها ، وذلك بدعوة أكبر عدد ممكن من أهلها الى الاسلام.
أو في مكة وما حولها ، بوجوب الهجرة على كل مسلم ومسلمة ، ووجوب الالتحاق بالتجمع الإسلامي الجديد بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة .. وهذا ما أكده رواة السير ..
قال ابن اسحق : وتلاحق المهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق بمكة منهم أحد ، إلا مفتون أو محبوس …
وذكر عن عوائل هاجـرت بأكملـها وغلقـت بيوتـها هجـرةً ليس فيها ساكن . هشام ص499
ولقد أنزل الله تعالى قرآناً يعيب به على المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتباطئين عنه ، والمتكاسلين عن اللحاق بالدولة الاسلامية الوليدة ، ويخرجهم من دائرة الولاية للمؤمنين ..
قال تعالى ( والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا، وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر ، إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ، والله بما تعملون بصير)) الأنفال .
وهكذا يجعل القرآن العظيم هؤلاء المؤمنين المتقاعسين عن الهجرة، والمتباطئين عنها وعن اللحاق بمعسكر المؤمنين في المدينة ، أقل حرمةً ، حتى من أصحاب العهود من المشركين . لأن الأولوية في هذه المرحلة ، ليست لمجرد الإيمان السلبي المتكاسل.
بل لبناء التجمع الإيماني الكبير ، وتنظيمه ، وتدريبه ، وتسليحه ، ليكون قادراً على تحمل كامل أعباء المرحلة المقبلة ، من دعوة عزيزة ، وجهاد في سبيل الله ، لإيصال هذه الدعوة الى أقصى أرجاء الأرض ، وتحطيم كل ما من شأنه أن يحول دون صوت الدعوة، وآذان المدعوين .
2. بناء المؤسســات :
لقد كان من أولى أعماله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة ، اقامة المسجد الجامع …
ولذلك دلالة هامة ينبغي على الدعاة أن يقفوا عندها طويلاً .
فلم يكن يقتصر دور المسجد يومها على إقامة شعائر الدين ، على أهميتها ، ولكنه كان يمثل بالنسبة لهم أهم مؤسسة في الدولة .
بل هو المؤسسة التي تنبثق منها كل وزارات الدولة على الإطلاق ..
فهو يمثل القصر الجمهوري ، وديوان الرئاسة، ومقر القيادة العامة ، وغرفة العمليات ، ومقر وزارات الحرب ، والتخطيط ، والتدريب ، والمالية والعدل ، ومقر المحكمة العليا ، ودار القضاء ، ومجلس الشورى..
بالاضافة الى كونه دار ضيافة لمن لا مأوى له من المهاجرين ، الذين تركوا دورهم وأموالهم ، والتحقوا بدار الاسلام ، مضحين بكل ما يملكون من أجل دينهم وعقيدتهم ومبادئهم …
ولقد كانت كل التوجيهات والتعليمات وأوامر الوحي وتشريعاته تنطلق من هذه المؤسسة المباركة ، لتتحول الى مشاريع عمل ، وخطط تنفيذية ، تساهم في بناء صرح الدولة الاسلامية العتيدة .
3. بناء الصف الداخلي للمؤمنين :
من الأولويات الهامة التي حرص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة الجديدة ، هو إحكام بناء الصف الداخلي لمجتمعه المؤمن من جهة ، وتمتين لحمة الوحدة الوطنية للمجتمع المدني عموماً من جهة أخرى ..
فلقد كان المجتمع المدني إبان هجرته الشريفة صلى الله عليه وسلم يتألف من ثلاث أصناف من السكان:
أ. الصنف الاول : وهم المؤمنون ، والذين يتألفون من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم ولحق بهم من أهل القبائل ..
ب. والصنف الثاني : وهم المشركون من أهل يثرب الذين لم يدخلوا بعد في هذا الدين ، وهم قلة قليلة لا تخلو من أهواء وأغراض شخصية .
ج. والصنف الثالث : وهم اليهود ، الذين كانوا يساكنون أهل المدينة مدينتهم ، وهم أكثر عدداً من المشركين وأشد خطراً منهم ، لما يتمتعون به من مكر وحقد وأنانية ..
ولقد كان أولى أعماله صلى الله عليه وسلم ، هو رصّ الصف الداخلي للمؤمنين ، وتمتينه، وتنظيمه ، وتحصينه ، ضد أية خروقات أو شرذمات قد تهدده ، وتهيئته للدور الجهادى العظيم الذي ينتظره ، ولقد حقق رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدافه هذه بوسائل كثيرة لعل من أهمها
* الإخاء والتكافل :
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص دائماً على إفهام المؤمنين من حوله أنهم يمثلون جسداً واحداً، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر .
ولذلك فقد سن لهم قانون الإخاء والتكافل العام ، وطبق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم هذا القانون على أكثر من دائرة :
أ. الدائرة الاولى : دائرة المهاجرين من قريش :
فلقد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين من قريش وذلك قبل الهجرة ، ثم أكد هذه الاخوة بعد الهجرة مباشرة ، وبدأ بنفسه الشريفة ، فآخى بينه وبين ابن عمه علي بن أبي طالب ، ثم ثنى بعمه الحمزة بن عبد المطلب ، فآخى بينه وبين مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه ، وهكذا بالنسبة لبقية المهاجرين من قريش …
ب. الدائرة الثانية : بين المهاجرين من قريش ، وبين المؤمنين الأنصار من أهل يثرب:
يقول ابن القيم : ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار ، في دار أنس بن مالك ، وكانوا تسعين رجلاً ، نصفهم من المهاجرين ، ونصفهم من الأنصار ، آخى بينهم على المواساة ، ويتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام ، وبقي ذلك سارياً الى حين وقعة بدر. فلما أنزل الله : (( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله )).الأحزاب(6).
ألغي عقد التوارث ، وبقي عهد الأخوة في الدين .
ومن هذا النص الذي أورده ابن القيم ، نفهم أن هذه المؤاخاة ، لم تكن مجرد إجراء شكلي أو معنوي فحسب، بل كانت مؤاخاة حقيقية ويترتب عليها كل ما يترتب على أخوة النسب من حقوق وامتيازات . كالمساعدة ، والأنفاق ، والحماية ، والنصرة ، والوراثة بعد الموت.
ولقد سجلت لنا صفحات التاريخ صوراً مشرقة باهرة .! لا يمكن أن تحصل إلا في أمثال هذه المجتمعات الإيمانية الراقية . فقد روى البخاري أنهم لما قدموا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع .
فقال سعد لعبد الرحمن : إني أكثر الأنصار مالاً ، فأقسم مالي نصفين. ولي امرأتان ، فانظر أعجبهما إليك فسمّها لي أطلقها ، فإذا انقضت عدتها فتزوجها .!
فقال له عبد الرحمن بارك الله لك في أهلك ومالك ، ولكن دلوني على السوق .فدلوه على سوق بني قينقاع فذهب فتاجر حتى كفاه الله.
ج. والدائرة الثالثة : المؤاخاة بين المؤمنين المهاجرين من قريش ، وإخوانهم الأنصار من يثرب ، من جهة، وبين كل من لحق بهم ، وجاهد معهم ، من المؤمنين ، من قبائل العرب الأخرى ، من جهة ثانية . جاء في الوثيقة ( الدستور ) التي أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم
((هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم ، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ، ومن تبعهم فلحق بهم ، وجاهد معهم ، إنهم أمة واحدة من دون الناس )). هشام ص501
* الحث على التطوع والإنفاق :
من الإجراءات الهامة التي اعتمدها الرسول صلى الله عليه وسلم ، لاحكام بنائه الداخلي ، وسد الثغرات المادية التي نجمت عن الهجرة ، وترك الأموال والأولاد ، هي الحث على التصدق والإنفاق في سبيل الله . فلقد كانت أول خطبة خطبها الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة ، تتحدث عن واحد من أهم فروض الوقت والمرحلة في حينه وهو البذل والإنفاق في سبيل الله .
قال ابن هشام : وكانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن قام فيهم ، فحمد الله ، وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال( أما بعد .. فقدّموا أيها الناس لأنفسكم ..تعلمنَّ والله ، ليصعقنَّ أحدكم ، ثم ليدعنَّ غنمه ليس لها راعي ثم ليقولنَّ له ربه ، وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه :
ألم يأتك رسولي فبلغك ، وآتيتك مالاً وأفضلت عليك .!؟ فما قدمت لنفسك .!؟ فلينظرنّ يميناً وشمالاً فلا يرى شيئاً ، ثم لينظرنّ قدامه فلا يرى غير جهنم ، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل ، ومن لم يجد فبكلمة طيبة ، فإنها تجزى الحسنة بعشر أمثالها الى سبع مائة ضعف ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)). هشام ص 501 .
4. وضع الدستور وإرساء الوحدة الوطنية :
ولقد كان من أهم أولويات الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة ، كتابة الدستور، وتمتين الوحدة الوطنية ، وتنظيم العلاقات بين المسلمين وبين سكان المدينة من غير المسلمين من جهة ، وبين مجتمع المدينة والمجتمعات الأخرى من جهة ثانية ..
قال ابن اسحق : وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً بين المهاجرين والأنصار ، وادع فيه يهود ، وعاهدهم ، وأقرهم على دينهم وأموالهم ، وشرط لهم واشترط عليهم ..
ولنقف على أهم ما جاء في هذه الوثيقة (الدستور)، لنتعرف على شكل العلاقات التي أرادها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لمجتمعه الجديد ، ودولته الوليدة …
1- المسلمون من قريش ، والمسلمون من يثرب ، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم ، أمة واحدة من دون الناس .
2- هؤلاء المسلمون جميعاً على اختلاف قبائلهم ، يتعاقلون بينهم ، ويتكافلون ، ويوالي بعضهم بعضاً بالمعروف والقسط ويفدون عانيهم (أسيرهم) .
3- ان المسلمين لا يتركون مغرماً (أي مثقلاً بالديون) بينهم أن يعطوه في فداء أو عقل .
4- إن المؤمنين المتقين ، على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم ، أو إثم ، أو عدوان ، أو فساد بين المؤمنين ، وأن أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم ..
5- لا يقتلُ مؤمنٌ مؤمناً في كافر ، ولا ينصرُ مؤمنٌ كافراً على مؤمن .
6- ذمة الله واحدة ، يجير عليهم أدناهم ، والمؤمنون بعضهم موالي بعض دون الناس . بشرط أن يهاجروا ويلتحقوا بهذا المجتمع وهذه الدولة الاسلامية .
7- لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة ، وآمن بالله واليوم الآخر ، أن ينصر محدثاً أو أن يؤويه . وإن نصره فان عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل .
8- اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ..
9- لليهود دينهم ، وللمؤمنين دينهم ، ومن أسلم من يهود فقد صار من المؤمنين ، إلا من ظلم وأثم فلا يوتغ (يهلك) إلا نفسه وأهل بيته .
10_إن علـى المسلمين نفقتهم ، وعلـى اليهود نفقتهم ، وإن بين المسلمين وبين اليهود النصر علـى مـن حـارب أهل هذه الصحيفة.
11-المرجع الأول في هذه المدينة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكل مـا كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخــاف فسـاده ، فـان مرده إلى الله عز وجل ، وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
12-من خرج من المدينة آمن ، ومن قعد آمن ، إلا من ظلم وأثم .
13-إن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره ، وإن الله جار لمن بر واتقى ..
هشام ص 501 ، بوطي ص 203 …
وهكذا يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد أقام مجتمعه الإسلامي على أسس دستورية راقية ، وأسّسَ دولته الإسلامية ، منذ بزوغ فجرها الأول ، على أتم ما تحتاجه الدولة الحديثة من المقومات الدستورية والإدارية ..
وإن نظرة متفحصة في فقرات ومواد هذا الدستور الخالد ، تبين لنا الأولويات الهامة ، التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهتم بها، ويركز عليها في هذه المرحلة ، مثل : تثبيت أركان الدولة ، وتنظيم العلاقات الداخلية والخارجية فيها ، وتمتين الصف الداخلي للمؤمنين ، وإعداده للدور العظيم المنوط به في المستقبل القريب ، وهو الجهاد في سبيل الله ، لتحطيم كل الحواجز المادية والمعنوية التي تحول دون