الإيمان والحياة

د . فوَّاز القاسم / سورية

[email protected]

إن الأصل في الحياة الإنسانية _ وفق التصور الإسلامي _ أن يلتقي فيها طريق الدنيا مع طريق الآخرة ، وأن يكون السبيل إلى صلاح الآخرة ، هو نفسه السبيل إلى صلاح الدنيا ، وأن يكون عمل المسلم في الدنيا ، وإخلاصه فيها ، وإتقانه لسننها ، وتفجيره لطاقاتها ، واستثماره لغلاتها ، هو ذاته الموصل إلى ثواب الآخرة مثلما هو محقق لسعادة الدنيا سواء بسواء ..

فالدنيا في المفهوم الإسلامي الصحيح ، هي مزرعة الآخرة ، وبما أن وظيفة الإنسان الحقيقية في هذه الأرض هي خلافة الله فيها ، كما قال تعالى في كتابه العزيز : بسم الله الرحمن الرحيم

(( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة )) البقرة ( 30 ) صدق الله العظيم .

فإن العمل والإنتاج والإتقان والإبداع والعدالة في التوزيع واستثمار كل خامات الأرض ومواردها ، المسخّرة من الله عزّ وجل للإنسان ، هي كلّها واجبات على طريق الوفاء بأمر الخلافة نفسها ، وهي من أصل الإيمان وصميم الإسلام ، وبناء على ذلك فإن قيام المسلم بهذه الواجبات والمسؤوليات يعتبر طاعة لله ، ينال عليها ثواب الله في الآخرة ، في نفس الوقت الذي يحصّل فيه السعادة في الدنيا والرخاء فيها .

وعلى العكس تماماً ، فالمسلم الذي يقصّر في الواجبات المنوطة به في الدنيا ، فلا يتقن عمله ، ولا يخلص في واجبه ، ولا يفجّر طاقات الأرض ، ولا يستغل خامات الطبيعة المسخّرة له من قبل الله عزّ وجلَّ ، يعتبر عاصياً لله ، ناكلاً عن القيام بوظيفة الخلافة كما أمر الله …

وهكذا يجتمع في حسّ المؤمنين الصادقين ، العمل للدنيا ، مع العمل للآخرة ، في توازن رائع ، واتساق بديع

فالمسلم لا يهمل دنياه لينال آخرته ، كما أنه لا يفرّط بالآخرة ليتلذّذ في الدنيا .. بسم الله الرحمن الرحيم

(( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ، ولا تنس نصيبك من الدنيا)) القصص (77 ) صدق الله العظيم .

والمسلم الحقّ ، لا يقدّم الإيمان والعبادة والصلاح والتقوى ، بديلاً عن العمل والإنتاج والإعمار والإبداع ، لأن المعاني الأولى _ في حسّ المسلم الحقّ _ تمثل حوافز عملية الاستخلاف ، والثانية تمثل أدواتها ووسائلها ، وهذه وتلك معاً ، هي المؤهلات الحقيقية لنيل الفردوس الدنيوي والفردوس الأخروي معاً ، وبالتالي لا يوجد انفصام وخصام في منهج المؤمنين الصادقين ، بين قيم ( الدين ) وقيم ( الحياة ) ..

بل المؤمنون المخلصون هم الصناع الحقيقيّون للحياة .. بسم الله الرحمن الرحيم (( ولو أنَّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ، ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون )) الأعراف (96)

وهنا قد يثار سؤال مهم وهو : إذا سلّمنا بهذا التلازم بين طريق الإيمان ، الذي هو طريق الآخرة ، وبين طريق الدنيا ، كسنّة إلهية ثابتة في بناء المجتمعات والأمم ، فلماذا _ إذاً _ نرى هذا التخلف الرهيب في الجوانب المادية لدى المسلمين ، بينما نجد في المقابل ، التقدّم الهائل لدى الكثير من الشعوب التي لا تعير أهمية لقيم الإيمان والآخرة في حياتها .!؟

وللإجابة على هذا التساؤل الهام ، لا بد أن نوضّح حقيقتين راسختين :

الأولى : هي أن سرّ تخلف المسلمين اليوم عن ركب المدنية المعاصرة ، لا يكمن في كونهم مسلمين ، بل العكس تماماً هو الصحيح .!!!

فتأخرهم ناجم عن عدم فهمهم لحقيقة الدين ، وعدم تطبيقهم لمنهجه ونظامه ، بدليل أن الذين فهموه وطبقوه بصورة صحيحة من أسلافنا الكرام رضوان الله عليهم ، كانوا قد بنوا به أعظم امبراطورية شهدها التاريخ ، وتربّعوا على عروش الحضارة والمدنيّة ، وظلت البشرية تنهل من علومهم وأخلاقهم وحضارتهم لعدّة قرون.

والثانية : إن لهذا الفصام النكد ، بين القيم المادية والقيم الروحية ، الذي تعيشه اليوم الكثير من المجتمعات الكافرة ، ضريبة باهظة يدفعونها من أعصابهم وراحتهم واستقرارهم .

ولقد شهدنا في النصف الثاني من القرن الماضي ، الكثير من الظواهر التي تعبّر عن هذه الحقيقة الصارخة ،

إنْ في سوء توزيع الثروات _ مما يجعل مجتمعاتهم تغرق في الأضغان والأحقاد والانقسامات الطبقية المقيتة.! أو في الأمراض النفسيّة ، والتحلل الأخلاقي ، الذي يهدّد بتدمير الحياة المادية نفسها ، أو في الخوف المستمر والقلق الدائم ، الذي يصل في بعض الأحيان حدّ الرعب الذي يؤرّق البشرية ، ويقضُّ مضجعها ، خشية الدمار العالمي الذي يتوقّعونه في أية لحظة ، من جرّاء انفلات التكنولوجيا ( المجنونة ) المعرّاة من أي سند أخلاقي وكوابح دينية .!!!

ولذلك ، فلم ينتشر الموت المفاجيء بالسكتات والانتحارات وانفجارات الدماغ ، كما انتشر مؤخراً في الأمم المترفة ، التي تعتبر نفسها من الأمم الراقية .! والتي ضربت أرقاماً خيالية في التطور المادي فعلاً ، بينما لا زالت تتمرّغ في أوحال الرذيلة والجريمة والانحراف .!!!

ولقد كان بإمكانها أن تعيش حياة ملؤها السعادة والهناء ، لو أنها وازنت بين القيم المادية والقيم الأخلاقية ، استجابة لقانون الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه : بسم الله الرحمن الرحيم

(( ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا ، لكفّرنا عنهم سيّآتهم ، ولأدخلناهم جنّات النعيم ، ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربّهم ، لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم )) المائدة (66)

صدق الله العظيم