حنانيك يا رب

حنانيك يا رب

أحمد جمال

حنانيك يا رب كان يرددها في جوف الليل يكاد يغطيها أزيز صدره ممزوجة بدموع مجروحة مدماة، دموع ما هي إلا ذوب القلوب وخلاصة الحشا، معجونة بكل ما في نفسه الواثقة من حرقة وأسى، وقهر ساحق وظلم عربيد.

حنانيك يا رب ليس لنا إلا أنت، وتنهمر الدموع السخينة على الوجنتين عبر ما حُفر فيهما من أخاديد على مدى سني التسلط والطغيان والإذلال والحرمان..

حنانيك يا رب قالها مع فيض الدموع الحرّى، وهو يعلم ما يقوله الناس.. يقولون إن البكاء لا يصنع شيئاً!.

نعم لكن لكل بكاء شأن. إن بكاء الضراعة الموصولة بأسباب السماء، ضراعة النفوس المظلومة التي لم تهنأ بعيش ولم تلق إلا الكيد والأذى والطرد وسلب الحق. ليس كغيره من البكاء.

ماله وكلام الناس.. لقد كان يؤمن أن ضراعة النفوس المظلومة ولجوءها إلى من بيده الأمر كله سهامٌ لا تخطئ هدفها..

رباه ما أعظمك منحت الذين قُلّمت أظفارهم وخُضّدت شوكتهم سلاحاً أعتى من كل سلاح وأعصى الأسلحة على المصادرة والسلب. إنه سهام السحر، وهي أمضى ما تكون عندما تنطلق من أفواه المظلومين وقلوب الضارعين. ألم يقل سبحانه (ادعوني أستجب لكم) وألم يقل تباركت أسماؤه (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) غبي أبله من يظن أن صيحات الضراعة تضيع سدى.. بليد بليد من تجاهلها وأصمَّ أذنيه عن سماعها، وعما قليل سيرى أن هذه الضراعة المكبوتة وأن تلك الدموع النقية التي تعرف وجهتها قد غدت سيولاً جارفة ماحقة تدمّر كل شيء بأمر ربها، بعدها تُفتح لها أبواب السماء ويستجيب لها الرب تقدست ذاته قائلاً كما في الحديث القدسي: (وعزتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين). فيا مراجل قلوب المظلومين لا تتوقفي عن الأزيز والغليان، وليشتد التغيّظ والزفير. ويا دموع المظلومين تجمّعي وارتفعي وتعاظمي وارفدي بحار الغضب الطاهر المقدس، عسى أن تكتسح أمواجك العاتية بنيانَ الشر فتأتي عليه من القواعد.

(اللهم ارحم ضعفنا.. اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا) عاد الصوت من جديد يريد أن يعلو فتخنقه تشنجات الألم، وتحبسه شهقات البكاء الصامد الحزين، بكاء النفس الموقنة المبصرة، تألّبَ عليها الشر من كل حدب وصوب وكأنه لا يكفي بطش بني الجلدة وظلمهم.. لا لذنب ارتكبوه أو عدوان أوقعوه وإنما محاربة للحق وأهله، وكيداً ربما يشفي نفوسَ الأعداء المريضة.

حنانيك يا رب.. هل لنا سواك نتوجه إليه وندعوه ونرجوه؟! وإلى من نشكو أمرنا إذا لم نرفع الشكوى إليك..

يا رب تحزّب الكفر يبغي القضاءَ علينا، حسّاً ومعنى، حتى تمادى بعض الحمقى من سدنته فزعموا أن حضارتهم حضارة القتل والتدمير والاحتلال وسلب خيرات الآخرين، حضارة التمييز العنصري وسرقة السود من أرضهم واسترقاقهم حضارة الدعارة واللواط، والخيانات الزوجية والانتحار والمخدرات والجريمة والخنافس، وإفساد جو الأرض وتلويثها والمضي في ذلك دونما أدنى ضمير أو إحساس.. أعلى كعباً وأكثر رقياً وأنها متفوقة على حضارتنا؟! وهل من عاقل يتردد في الحكم على هؤلاء بأنهم مِن فئة مَن لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها (أولئك كالأنعام بل هم أضل)..

حنانيك يا رب ها هم أعداء الإنسانية عبيدُ الشهوات والأهواء مَن خلت قلوبهم من الرحمة والتسامح حتى لكأنها غُسلت منهما غسلاً قد لجوا في استعبادنا وذبحنا بالآلاف وليس هذا فحسب بل يريدون منعنا أن نقول إننا نُذبح ونُقتل، وهم راغبون أن نقتل بصمت وهدوء تامّين لئلا نُزعج المتحضرين أدعياء الرقّي.. بحشرجة المذبوح، وشكوى المقتول المظلوم بين يدي قاتله..

والعجب أنهم لم يرضوا بهذا الضيم كله ولم يطفئ ما تأجج من نار حقدهم المتوحشة الهوجاء. إن المطلوب منا أن نغيّر عقولنا وقلوبنا وأن ننزع الإيمان من صدورنا وأن نرضى بتبعيّة هي دون الذل بدرجات وأن نُعلن ونصرّح بملء أفواهنا أن قتلهم لنا وسلبهم ونهبهم إنسانية ورحمة ورأفة ورقي حضاري وتحرير، ودروس ديمقراطية على الطريقة الغربية لا نستحق أكثر منها..

يا أهل الأرض –قالها بصوت مرتفع وحيداً في غرفته يرعى نجوم الليل- يا أهل الأرض: إذاعات الأرض وفضائيات الأرض الثقيلة والخفيفة، الرصينة والرعناء، تثقب آذاننا بالحديث عن كلب أو قرد يُستخدم في بحث طبي فتثور جمعيات الرفق بالحيوان في سبيل إنقاذه من أيدي المتوحشين الذين يفعلون به هذا. يا رباه ما هذا الإحساس المرهف والإنسانية الرقيقة.. أين إنسانيتهم والمسلمون يُسحقون سحقاً، ويفعسون فعساً، فلا يتحرك ساكن ولا يهتز قلب ولا يرتفع صوت، وما هي الهمجية والوحشية والتخلّف إن لم يكن السكوت على ما يصيبنا وحشية وتخلفاً..

إلهي تخلّى العباد عنّا، بخبث ولؤم، لكن إذا كنت معنا فلا نبالي فيا رب العباد والعبيد أنت حسبنا ونعم الوكيل..