خبز الخلود !
إيحاءات داغستانية :
أديب إبراهيم الدباغ
لو أعطيتني الدنيا كلَّها … لو توجتني ملكاً عليها … لو ملَّكتني زمام أمرها… لو طويتها ووضعتها في جيبي … لو حملتها على طبق وقدمتها على مائدة روحي …لو اعتصرتها في كأس وجعلتني أتحسَّاها حتى الثُمالة… فإنك ـ في الحقيقة ـ لم تفعل شيئا، ولم تعطني سوى قبضة ريح، وحفنة تراب، لا تلبث أن يلفها الزوال ويطويها العدم، بينما يظلُّ لهيب الشوق في أرجاء نفسي مستعراً، وصراخ الجوع الى خبز الخلود يهزّ أسماع الفضاء، ونازع الفطرة الى البقاء والأبد يهيج في الروح نواحاً كنواح التكالى.
أبو الأنبياء ابراهيم عليه السلام، صرخ بوجه الكون: ( لا أحب الآفلين ) إمضي عني … تَنَحَّ عن طريقي …لا أريدك…ليحترق العالم كله…ليتحول إلى رماد…ليطوه الفناء…فليس هو من همّي…وليس هو مطلبي…مطلبي مكوّن الكون…محبتي لمن لا يزول…قلقي بمَنْ لا يفنى ولا يموت…عبوديتي لأبدي البقاء.
يقذف به النمرود بالمنجنيق، يدركه جبريل عليه السلام وهو يهوي نحو النار المتأججة فيقول له : ألك حاجة ؟
فيردّ أبو الأنبياء : أما اليك فلا !
يقول جبريل : سَلْهُ …أي سل الله حاجتك .
يقول إبراهيم : عليم بحالي غَنِيُّ عن سؤالي .
وفي الحديث : (لو قال : نعم لي إليك حاجة لمحي اسمه من ديوان الخلّة)
النورسي رحمه الله يلخص لنا هذا الموقف الإبراهيمي بعبارتين فيقول: " تعلق أيها المسلم ـ بالأبدي تتأبد…وصل أسبابك بأسباب الخلود تخلد " .
في المعراج يقول الله تعالى عن رسوله الكريم [ ما زاغ البصر وما طغى ] رغم عظم ما شاهده صلى الله عليه وسلم من مظاهر الجلال والجمال في أرجاء الكون، فقلبه الشريف ظل متعلقاً بصاحب الجمال الأقدس والجلال الأعظم، ولم يلتفت طرفة عين الى الفانيات الكونية، وبهذا احاز مرتبة المحبوبية والأقربية التي لم يحزها نبيُّ ولا رسولٌ قبله .
الشوق المضطرم في قلبك الى معالى الأمور هو دليل حياتك، مَنْ يخلُ قلبه من الشوق يَمُتْ وإن بدا للناظرين حياً… مَنْ لم يتحول الإيمان في قلبه الى طاقة من الشوق الى الله والمحبّة لرسوله لا خير في إيمانه لأنه لا يأتي بخير… لتكن نفوسكم تواقةً الى الخلود، وتواقةً الى الجنة … لترتفع ببصرها عن الفانيات الهالكات ولتستشرف ببصيرتها على الباقيات الخالدات …
مجدد القرن الثاني الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز يقول بعد أن لم يبق فوق الخلافة والحكم منـزلة يتوق اليها: (( إنّ لي نفساً تواقة ما تاقت الى شئ ونالته الا وتاقت الى ما هو أعلا منه، وهي اليوم شديدة التوق الى الجنة )) ويتوفاه الله بعد هذا الكلام بأيام.
لأجل الرسالة العظيمة التي يحملها المؤمن كان أفضل مخلوقات الله. وأنفس كائناته، وأحبهم الى موجوداته، ففي الأثر: إن الجبل ليقول للجبل : سعدت اليوم بخطا مؤمن مشى فوق ظهري وسار بين شعابي…وإن الأرض لتقول للأرض : شَرُفَتُ اليوم بسجدة مؤمن فوق ترابي… وإن الشجرة لتقول : ليت الذي يستظل بظلي ويأكل من ثمري لا يكون إلاَّ مؤمناً، وتقول حبّة القمح: ليتني لا أغذو الا جسم مؤمن، وتقول قطرة الماء ليتني لا أروي الاّ عروق مؤمن .
في غسق هذه البلاد سطعت شمس إيمانكم… فهبّوا أملأوا الأقداح الظامئات من انوار قلوبكم… أعطوا ولا تأخذوا… جودوا ولا تبخلوا… ارسلوا ولا تمسكوا… تكاثروا تزاحموا عندما يفزع الايمان… وانصرفوا راشدين عن مواطن الأجرة والجزاء… هكذا كان اجدادكم يكثرون عند الفزع، ويقلون عن الطمع… كونوا عطاءً خالصاً لتحيوا…الشجرة تموت حين تكف عن العطاء… إيمانكم يضعف ويهزل إذا هو لم يعط من ذات نفسه… لمن أنفاس الإيمان في صدوركم…؟ أليست هي هدايا الرحمن اليكم…؟ أليس لكل شئ زكاة…؟ فلتكن زكاة إيمانكم مزيداً من العطاء لفقراء الإيمان… لتكن ذواتكم النورانية كنـزاً مبذوراً لكل المظلمين في كل مكان…إن الارض لتهتزّ طرباً لمس أقدامكم وإن السماء لتندى ابتهاجاً بأصوات دعائكم… والجنة نفسها ترنو اليكم رنو الوامق المشتاق من فوق سبع سماوات… وملائكة الرحمن تستغفر لكم مادمتم في طاعة الله وفي نصرة دينه… إياكم والصبوة الى شهادات الدنيا وملذاتها فإنها تطفئ جذوة الروح... وتملأ القلب ظلاماً… والبصيرة عمىً فتحرمون الرؤية الى حقيقة رسالتكم ومغزى وجودكم…
الحوار الآتي جرى يوما ما بين أستاذنا " النورسي " وبين رفيقه و تلميذه " الملا رسول ":
قال ملا رسول: على رِسْلِكَ يا أستاذي… هوّن عليك… أرحْ نفسك قليلاً… فنحن كذلك نخاف الله ونخشاه… أما أنت فتكاد مرارتك تنشقّ من خشية الله… أنظر الى أصبع قدمك كيف تقرَّح بسبب جلوسك الدائم وكأنك في صلاة لا تنتهي…
يجيب الاستاذ قائلاً : ياملا رسول… لقد جئنا الى هذا لكي نظفر بحياة أبدية خالدة بهذا العمر القصير والدنيا القصيرة… أأعيش هنا كيفما أشاء وكما تهوي نفسي وأنا اسعى الى الجنة وأطلبها…؟! لا أجرؤ على العيش كما أهوى أبداً …!