على بوابّة " داغستان "

أديب إبراهيم الدباغ

على بوابّة " داغستان "

أديب إبراهيم الدباغ

ـ 1 ـ

إفتحي ياسيدة القفقاس.. يا أليفة الدُّجى ورفيقة الليالي الطوال.. إفتحي يا معصوبة العينين.. يا مكبّلة الروح.. يا مقيدة الفكر..!

يا لَعَيْنَيْكِ الظامئتين إلى ضياء الفجر ما أشدَّ حِلْكَةَ ظلامهما.. ويا لرُوحِكِ المتطلعة إلى الانعتاق ما أثقل ما تَرْسِفُ فيه من قيود.. ويا لَفِكرِكِ الوَثّاب ما أقسى ما يعاني من الأباطيل..!

افتحي.. من مسافات الشوق البعيدة أتيناك.. من آفاق الحنين القُرآني قدمنا إليك.. النور ملأ ارواحنا.. والمحبة ملأ قلوبنا.. ونداء الإيمان ملأ أصواتنا..

افتحي.. هذه سواعدنا تُوالِى الطَّرْق على بوابتكِ.. وأكّفُنا تَدُقُّ بقوةٍ فوقَ جدران ليلكِ..!

افتحي.. فعلى بوابتكِ ـ لو تعلمين ـ قرآن وإيمان وفتيان شجعان، لو وقف هؤلاء الثلاثة على سور الصين لجعلوه دَكاًّ..!

ـ 2 ـ

افتحي يا دُرَّةُ القفقاس.. يا جوهرة التاريخ الدفينة في ذاكرة الإيمان.. لا ترتابى.. ما جئنا لِنَرْزَأكِ بمالٍ أو ولد.. ما أتينا لنأخذ بل لنعطى.. نحن الرِيُّ لظمأ قلبكِ، والقُوْتُ لمجاعاتِ روحكِ.. ونحن الفِدَاءُ "لكلمة الإيمان " إذا تَحَرَّكَتْ بها شفتاكِ.. قوليها أم تُرَى أنَّكِ نسيتها..؟!

إكسرى ما وُضِعَ على فمكِ من أقفال.. اهتفي بها ملأَ فَمِكِ.. فلو هتفتِ بها عادت أرضُكِ ربيعاً، وسماؤكِ عيوناً منهلةً بالبِشْرِ والنور والفرح الإلهى، ليغسل كُلَّ ما عانَتْ منه روحكِ من أوجاع، ويُضَمَّدُ كل ما شكا منه قلبكِ من جراحات..!

ـ 3 ـ

مُدَّ يدَكَ يا بطل " داغستان ".. ضُمُّها إلى أيدينا.. دُقَّ معنا الأبواب..

لِتُعَانِقْ روحكَ أرواحنا.. لتَحْفِزْ هِمَّتُكَ هِمَمَنا.. ولْتُلْهِب إرادَتُكَ الجبارة إراداتنا.. إننا نسمع صوتك القوى يَتَرَدَّدُ صداه في فضاءاتِ أرواحنا.. إنه يحدونا في مسيرتنا الإيمانية.. يا شيخنا الجليل.. نادها.. قل لها من نحن وماذا نريد..؟

ها أنت ذا تخاطبها.. إننا نسمعكَ تقول: أَنا الشيخ شامل أناديك فاستمعى إلىَّ.. افتحي لهم كُلَّ الأبواب.. إننى أباركهم من وراء الغيب.. إنهم فتية الإيمان الذى انشق عنهم كهف نور.. على عين القدر صُنِعُوا.. وفي كنفه نشأوا.. ضمائرهم تشع نوراً.. أرواحهم تتألق صفاءً ونقاءً.. أرضهم سماء.. وسماؤهم قرآن.. وليلهم مذاب ضراعة ودعاء.. ونهارهم جدّ وعلم وعمل ضمّيهم إلى أحضانِكِ فهم نِعْمَ الأبناء لِنِعْمَ الأمهات..!

ـ 4 ـ

أنتم أيها الغرباء الحاملون غربتكم فوق كواهلكم.. إغتربوا ففى غربتكم سرُّ قوتكم.. تفرَّدوا..توحدوا.. فتفردكم سؤال ملحّ يوخز أفهام الآخرين.. إنمازوا فنميزكم لغز يحفز العقول لكى تسبر غوره وتفهم سره.. أيها الحاملون غربة الاسلام إلى أرض "داغستان" طوبى لكم وبشراكم قوله صلى الله عليه وسلم : (( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء )) فطوبى لكم هذه الغربة المحببة.. إنها آية إيمانكم في هذا العصر.. وعلامة الصواب بين أخطاء العالم وخطاياه.. ولكن انتبهوا.. فما لم تكن قلوبكم هي التي تتكلم من خلال شفاهكم فلن تستمع إليكم "داغستان".. وما لم تهبط أرواحكم على أطراف السنتكم ساعةَ تخاطبونها فلن تصغى إليكم.. لقد أصغت كثيراً حتى ملّت، واستمعت لآلاف الأصوات وهي تزف اليها الأمل في نعيم الحياة، ورفاه العيش، ثم خرجت من كل هذا الضجيج المصم وهي اكثر هزالاً، وأشد جوعاً، وأعظم بؤساً.. فكفرت بكل الأصوات إلاّ صوتاً واحداً ما زالت تتوق إلى سماعه ألا وهو صوت الله تعالى… فكونوا جديرين بحمله إليها وتبليغه إياها..!

ـ 5 ـ

نعلم أنكِ بكيتِ فُقْدانِ الهوية.. ونعلم أنهم سلبوكِ إياها.. ونعلم أىَّ عذاب مخيف تَحَمَّلْتِ حين لم تعودي تعرفين من أنتِ ومَن تكونين..؟! ونعلم ما قاسيتِ من الآم الانقسام بين أن تكوني "داغستان" الإيمان والإسلام وبين ألاَّ تكوني.. ونعلم غزارة الدموع التي سفحتها فوق ليالي الحيرة الطوال.. ونعلم ما اجْتَرَحَتْ أحزانُكِ في صحراء روحِكِ من حرقةٍ وعذابٍ وجَوَى..!

نعلم كل هذا.. ونأسى لكل هذا.. ومن أجله أتينا.. من أجل الهوية السليبة قَدِمْنا.. من أجل أن تكوني "داغستان" الإسلام والإيمان نحن هنا.. ومن أجل أن تلتقي هويتَكِ السليبةَ وتتوحدي مع شَطْرِكِ المَقْصِىّ جئنا إليكِ وحططنا رحالنا على بابكِ، وأقمنا خيام أشواقنا في رحابكِ.. فأومئ إلينا.. أشيرى نحونا.. تجديننا بين يديكِ.. فلذاتِ مضيئاتٍ من كبد الإسلام وجذواتٍ متوهجاتٍ من أقباس الإيمان والقرآن..

يا أمنا الحبيبة التي عشقتها أرواحنا لا تبعدينا عنكِ.. خذينا اليكِ وامنحينا حبَّكِ.. وضُمّي يَدَكِ لنجدد معاً ما اندرس من معالم الإيمان.. ونعيد ما غاب من آيات الهدى والفرقان، في رحابكِ وفوق أرْضكِ..!

ـ 6 ـ

أينما مضيتُ ـ في شعاب هذه المدينة ـ أسمع وقع خطاهم كيفما أصغيت اسمع نبضات قلوبهم.. وإذا ما تنفست اتنفّس عطر أرواحهم.. وإذا ما هبّت الريح حملتْ إلى أصداء أصواتهم، وصليل سيوفهم، وصهيل خيولهم..!

أولئك الحفاة العراة الجائعون الظامئون الذين اتعبوا التاريخ، فظلَّ يركض وراءهم فلا هم يتوقفون ولا هو يلحق بهم.. إنهم هنا فوق روابى هذه المدينة يرقدون.. جائعون حقاً ولكنهم كانوا للحق أشدَّ جوعاً وأعظم ظمأً.. حفاة عراة صدقاً ولكنهم أبداً لم ينتعلوا أبشار الشعوب [1]ولم يتسربلوا دماء البشر.. أرضيون طينيون ولكن صحبتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم جعلت أرضيتهم سماءً.. وطينيتهم عنصراً نورانياً مشعاً وحولت تمراتٍ في كفِّ واحد منهم إلى جمرات محرقات فيقذف بها ويقذف بنفسه إلى رحى الحرب لينال الجنة التي اشتاق إليها واشتاقت إليه..!

أتدرون ماذا كانت تمثل هذه التّمرات في كف ذلك الصحابي الجليل...؟ هي دنياه.. هي ماله.. هي شهوته ولذته.. هي درهمه وديناره.. فلما ألقاها من يده ألقى بكل ذلك وراء ظهره فصار أهلاً للشهادة والجنة..!

أيها الراقدون فوق روابى هذه المدينة.. يا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أعيرونا قوة أرواحكم.. امنحونا صلابة سواعدكم.. ابتعثوا فينا هممكم.. اقدحوا أزندة إراداتنا.. علّمونا كيف نقتحم الأهوال ونصارع الخطوب ونهزم المستحيل.. أمدّونا بحكمتكم.. أرشدونا.. زهّدونا.. لكي نلقي ما بأكفَّنا من رموز الدنيا إلى هاوية الفناء.. خذوا بأيدينا.. امنحونا بركاتكم لكي نؤدي رسالة الإيمان ونفوز برضى الرحمن..!

داغستان / دربند / في شباط 1999


[1]  البشر: جلد الإنسان ومنها قوله تعالى في النار: ( لوّاحة للبشر ) والعبارة كناية عن عدم استعباد الناس وامتهان كرامتهم.