ساعة من الزمن
حسن محمد حسن بريغش
هي ساعة لا أدري أأقول مرت علي أم لم تمر ، ربما كانت ساعة أو ربما كانت سبع سنوات أو ربما كانت خمس وعشرين سنة أو يزيد ، قطعة مني ولكنها ليست مني ، تشاركني ذكرياتي، تحمل معي آهاتي.
ساعة من الزمن بدأت قبل ساعة من الزمن، أو بدأت قبل أن يبدأ الزمن .
سبع سنوات مرت أو يزيد . هيا ادخل على عروسك، فقد أذن لك بذلك ، فلتلتق بمن أحببت، ولتبدأ حياتك الزوجية .
سبع سنين مرت في ساعة من الزمن، نقصت سنة منها .
بدأ التفكير بحلول وقت ولي العهد ، متى سيأتي من أحببت قبل أن ترى ، يفعل الله ما يشاء، هذا قدره هو الرزاق المنعم ، فلندع الأمر لله.
تمر سنة أخرى، وثالثة .
ويدور الحوار بيني وبين شريكة العمر :
ـ أولم يحن وقت ولي العهد يا عزيزتي ، أوليس من المفروض علينا أن نسأل و نستشير من هم للعلم أهل و للطب كفء .
ـ نعم ولكن لندع الأمر لله فهو الرزاق الكريم .
ولحقها من الأعوام ثلاثة ، حتى جاءت البشرى بالياسمين ، هي للقلب قلب، وللعين عين ، هي النجوى والحب ، أخذت من وقتي الوقت ومن فكري الفكر .
عدت لمناجاة صديقة الدرب الطويل :
ـ أليست ياسمين من ملأت الفؤاد أيتها الزوجة العزيزة، نحمد الله يا رفيقتي بأن الله منحنا هذه الياسمينة، فقد ملأت الدنيا علينا، و أدعو الله تعالى بأن يصلحها ويرزقنا الأجر والثواب في تربيتها وتنشئتها النشأة الصالحة ، ولكن يبقى في القلب مكان لك يا ولي العهد .
و تعود ساعة من الزمن ، تطرق القلب بمطارق من الألم و آلاف من الآهات تعصر الخلجات . وتدور بي الأحداث لمستقبل بعيد بعد الزمان :
ـ عمار ... هيا يا ولدي فالضيوف ينتظرون عريسنا الليلة ، ليس من المناسب أن نتأخر عليهم أكثر من ذلك .
ـ نعم يا أبي ها أنا قادم إليك .. فقط أمهلني ثواني قليلة حتى أفرغ من تسريح شعري لآخر مرة.
ـ بسم الله ما شاء الله . بارك الله بك وبارك عليك يا ولدي ، وجمع بينكما بخير ، ماشاء الله كان ، اللهم صل وسلم على خير الأنام .
ـ هيا يا أبي أنا جاهز .
ـ توكلنا على الله .
ثم تعود ساعة من الزمن لتحرق هذا القلب الحزين . وتحمل معها آمالا كانت قد حدثت في المستقبل البعيد :
ـ أبي ... أبي ... أمي ... أمي ... بشراكم ها قد تخرجت في الجامعة وبتقدير ممتاز، وقد وفيت لكم بما وعدتكم به ، و أنت يا ياسمين ولو أنك تكبرينني بسنة ونصف ، إلا أني تفوقت عليك بالجامعة ، ولن يشفع حبك لي بأن تتهربي من مكافأتي بما يناسب مثل هذا النجاح ، وغمزة من عينه الجميلة مع ابتسامة وحركة بيده تدل على شيء من النقود .
ـ لا بأس يا قرة العين والفؤاد ، فهل لي أخ سواك أفديه بعيني ، فقط أمهلني حتى يعود زوجي و آخذ منه ما ييسر الله ، وستكون هديتك عندي أعظم مما تتمنى ، عروس جميلة رأيتها عند إحدى صديقاتي الأسبوع الذي مضى، وعندما ستراها سأعرف كيف آخذ حقي منك، وبطريقتي الخاصة.
ـ هات يدك يا أبي لأقبلها، و أنت يا أمي .. أشعريني بحنانك بحضن عميق أحس به بدقات قلبك الكبير .
ـ بارك الله بك يا ولدي ورضي عنك ، وجعلك الله نفعا لدينك و أمتك و أهلك في الدنيا والآخرة .
ساعة من الزمن، وهاهي الساعة تدق عقاربها من جديد ، دقائق تمر قاهرة ، حمداً لك الله على ما أردت ، فما أردت لي إلا الخير ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . ويأخذني عالمي من واقعي ليسافر بي مرة أخرى إلى أمل بعيد :
ـ أمي .. أمي ، نسيت أن أخبرك بما حدث بالأمس ، فقد شاهدت أخي عماراً يعود متأخراً إلى المنزل ، وحاولت الكلام معه، إلا أنني تجنبت ذلك لما وجدت من هم أو خوف باداً على وجهه ، ولولا خشيتي عليه لما أخبرتك بذلك .
ـ بوركت يابنيتي، وأنا سأستشير أباك بالأمر لنرى ما به ، فأنت تعرفين أن أخاك حساس بعض الشيء ، و أخشى أن تكون ردة فعله عكسية حال تكلمي معه بهذا الأمر مباشرة ، خاصة أنه بالمرحلة النهائية من حياته المدرسية ، ومن المهم أن يكون معدله مناسباً لتكون لديه فرص واسعة في القبول بالجامعة .
ـ أبا عمار .. أخبرتني ياسمين بأن عماراً عاد بالأمس متأخراً إلى المنزل وعلامات الاضطراب بادية على محياه ، فما رأيك بأن تحدثه بما يجول بخاطره، فأنت أقرب شخص له، وتستطيع أن تفهمه وتسبر أغواره أكثر من أي شخص آخر.
ـ لا عليك – مبتسماً- فالأمر طبيعي في مثل هذه المرحلة، و أنا على علم بكل ما حدث مع عمار، فكما قلت بأنه لا يخفي علي أمراً . و الأمر لا يعدو كونه مشكلة صغيرة بينه وبين أحد زملائه، أرجو من الله بأن يساعده على حلها دون الحاجة لتدخلنا المباشر في الأمر، فالحمد لله لديه من الوعي والأخلاق ما يؤهله لذلك ، كوني مطمئنة ولا تأخذك العاطفة في كل حال.
ساعة من الزمن ، لماذا لا تريد أن تنتهي هذه الساعة ؟ دقائقها جد قاسية ، برد يسري في أعضاء جسمي عضواً عضواً ، أكاد أميز كل عضو عن الآخر ، ربي هون هذا الأمر ، فالخير فيما اخترت. وأقترب من أحلام مستقبلي القريب :
ـ هيا يا أم عمار ، أرجوك أن لا تذهبي فرحتي بولدي البكر بتأخرك المعهود .
ـ لا تنس يا زوجي العزيز بأن ياسمين أيضاً لديها مدرسة . ولا زالت لها حقوق علينا .
ـ آسف .. ولكن فرحي باليوم الأول لعمار في المدرسة عظيم . ولا أدري هل سأمسك دموعي و أنا أراه يحمل حقيبته ويدخل بها إلى صفه مع زملائه الأطفال أم أن العبرات ستخونني حينها.
ـ هون عليك يا رجل فما الأمر يحتمل هذا الفيض من المشاعر . و أنت تعلم مدى فرحي بهذا اليوم . ولكن لا تنس أيضا بأن ياسمين ما زالت تشعر بشيء من الغيرة لاهتمامك الشديد بعمار في الأيام الأخيرة، وكأن البيت قائم عليه وحده .
ـ إذن فقد نويت على أن تمزجي فرحي بهذا اليوم بشيء من كلماتك اللاذعة ، سأسبقك إلى السيارة لأوفر على نفسي شيئاً من التنغيص . ولكن أرجوك أسرعي .
ساعة من الزمن . آه من هذه الدموع لو توقفت قليلاً لترحم عيني من الإحساس بألم هذه الساعة . وتعلو شفتي ابتسامة الأمل الزائف :
ـ أم عمار .. أسرعي إن كانت لك رغبة في رؤية أولى خطوات ولي العهد، لعله يمشي على قلبي ، صدقيني بأن أقدامه تخطو خطوة خطوة على روحي ، لك الحمد يا الله، ما أجمل محياه .
ـ اذكر الله يا رجل وصل على حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم ، فالعين حق.
ـ لا إله الا الله وصلى عليك الله يا خير الأنام.
ـ ادع له الله بالصلاح والتقوى والهداية والبر بنا ، فما نراه اليوم شيء مخيف من عقوق الوالدين .
ـ لعل الله يجعل في قلبه الرحمة والهداية، و أن يكون أحسن من والديه في هذا الأمر ، فلكم أحس بتقصيري نحو أبوي عندما أفكر بهذا الأمر، حسناً، سأكلم أبي لأبشره بالأمر، فأنت تعرفين مدى تعلق أبي بهذا الحفيد المشاكس.
ـ نعم .. أبي ... كيف حالك .. أرجو أن تطمئنني عن صحتك ... أطال الله عمرك و جمل الله أوقاتك بالطاعات ، نعم عمار يقبل يديك ويقول لك يا جدي لقد خطوت أولى خطواتي الآن ، ويستحلفك بالله أن تدعو له و لأبويه بالصلاح وقبول العمل والغفران ... شكر الله لك يا أبي ، ليتك تعطيني أمي لأطلب منها الرضى ، نعم أمي كيف حالك وصحتك ... أخبريني عنك وعن أبي أرجو أن تكونا في وفاق ووئام وأن تخففا من مشاكساتكما اليومية لبعض... الحمد الله دعاؤك يا أمي لنا هو خير سلوان لنا في غربتنا . أطال الله بقاءك وتقبل منك الطاعات . سلامي لإخوتي جميعاً.
ساعة من الزمن .. ويدور بها حوار الآه بيني وبين شقيقي : لا يا أخي ليس من هنا .. بل اسلك الطريق الآخر .. فقد ذكر مشرف المقبرة بأن هناك مقبرة أخرى في طرف المدينة تستقبل جثث الموتى الآن بعد أن اعتذر عن استقبال الجثة لإغلاق المقبرة الأولى منذ سنتين . و أفضل أن تذهب إليها من الطريق السريع. وأعود بذكرياتي لماض لم يكن بالبعيد
ـ أيتها الطبيبة – مازحاً - ، قبل أن تبدئي التحاليل والصور لزوجتي ، أشترط عليك بأن يكون الجنين ولداً ، ففي ابنتي ياسمين اشترطت عليك بأن يكون الجنين أنثى وقد وفيت بالشرط ، وهاأنا أعيد عليك الشرط ، فإن لم توافقي فسوف أذهب لطبيب آخر ليتم الفحوصات .
ـ توكل على الله يا أخي – مبتسمة – ما يأتي من الله كله خير .
ـ الحمد الله على كل أمر ، وما يرزقنا الله به هو خير ونعمة . وحمداً لله على كل حال .
ـ نعم ، أستطيع أن أؤكد لك يا أخي بأن الجنين ولد ، فأعضاؤه واضحة جداً ، وحركته أيضاً و الحمد لله طبيعية ، بل وكثيرة ، يدل على أنه سيكون مشاغباً بعض الشيء.
ـ أرجو أن تخبري زوجتي التي بين يديك، فقد أرهقتني بالوساوس التي تنتابها في كل حين.
ـ الحمد لله على كل حال. وما يأتي من الله كله خير .
ساعة من الزمن .. أكمل بتشتت حواري مع شقيقي ودموعي تسبقني إلى ذاك القبر الحزين : هاقد اقتربنا من المكان الذي نصبو إليه. نعم يا أخي، عند هذا المنعطف اتجه يميناً، فهاهو سور المقبرة . وأغيب لعالم الماضي القريب .
ـ أرجوك عزيزتي فلتسافري عند أهلي، ولتضعي مولودك هناك، فهو أفضل لك و أسلم ، فحيث يعيشون تتوفر الرعاية و العناية ، وبحول الله وقوته تجدين من يرعاك ويهتم لأمرك، فهذا خير لك.
ـ لا أريد ، أريد أن تكون بقربي حينها ، وسييسر الله لي حيث كنت إن شاء الله، أرجوك أن لا تضغط علي .
ـ بل أنا من أرجوك أن تريحي بالي وتريحي كل من حولك من أهلي و أهلك بسفرك عندهم ، فهو الأصلح بإذن الله.
ـ حسناً ولكن عدني بأن تأتي عند ولادتي أو بعدها بيوم أو يومين.
ـ أعدك بذلك إن شاء الله .
ساعة من الزمن .. أخاطب بها أخي ليوصلني لآخر لحظة في ساعة الحزن القريب : نعم هنا يا أخي هذا هو مدخل المقبرة . فقط انزل أنت و أبي لمكتب الاستقبال لإبلاغهم بالحالة وليعطونا الإرشادات اللازمة لمكان الدفن . وأهيم في سعادة الماضي الزائفة ..
ـ نعم ... أمي .. كيف حالك ... بالله عليك ... حمداً لله ... ومتى حدث ذلك .. فقد كنت أكلمها قبل حوالي ثلاث ساعات ولم تكن تعاني من آلام الوضع ... حمداً لله .. وأخبريني عن حالها وحال الجنين ... الحمد لله على كل حال ... شكراً لك ولوالدي ... نعم سأكلمها ولكن بعد صلاة الجمعة إن شاء الله . إلى اللقاء .
ـ حمداً لك اللهم على ما رزقت ... اللهم أصلحه وارزقني بره يا رب .
ساعة من الزمن ... نعم يا أبي هل تيسر الأمر وأرشدوكم على مكان الدفن المناسب .. توكلنا على الله .
ـ حمداً لله على سلامتك عزيزتي ، وبورك لك فيما رزقت إن شاء الله ، ماهي أخبار صحتك ، أرجو أن تكوني بخير ، و أرجو أن يكون ألمك بدأ بالزوال .
ـ الحمد لله كانت الولادة ميسرة و الحمد لله ولو أن بعض الألم الشديد قد رافقه، ولكن الحمد لله.
ـ وهل عانيت من هذا المشاكس أكثر من ياسمين .
ـ نعم .
ـ هاهي الساعة الرابعة عصراً ، ألم يروك الطفل بعد .
ـ لا لم أره بعد .
ـ ولماذا ... هل هناك من خطب .
ـ لاشيء يذكر .
ـ بل قولي ، فالحمد لله على سلامتك ، فقد بدأ القلق ينتابني . لا تخفي علي أمراً.
ـ لا شيء صدقني ، فقط الطفل مازال بالحاضنة .
ـ بل أشعر بأن هناك ما تخفينه عني .
ـ نعم .. فقط الطفل لديه قصور في عمل الرئة وقد يجرون له عملية في الغد ، وسنحتاج لتوقيع منك ، وربما يكلمك عمي بالأمر الآن .
ـ حسناً سأحضر إليكم الآن إن شاء الله .
ـ لا أرجوك ، فلا داعي لأن تقطع كل هذه المسافة وحدك وأنت مرهق ، إن شاء الله يكون الأمر يسيراً .
ـ لا عليك فالله المهون في كل حال . إلى اللقاء .
ساعة من الزمن ...وكأنها أزفت على الرحيل ... أرشد بها أخي لأواري قلبي الحزين التراب : هاهي مقابر الأطفال صغيرة كما تراها يا أخي ، فلتدخل السيارة إلى الداخل لنقترب من مكان الدفن . عسى الله أن يسهل أمرنا . وأتلمس خلالها بعض ما أذكر من أحداث الألم العميق.
ـ نعم يا أبي .. ها أنا قد وصلت والحمد لله ، ولم يكن السفر شاقاً علي ، فسبع ساعات من القيادة المتواصلة ليس بالأمر الشاق علي ، فما زلت شاباً والحمد لله ، هات ما عندك و أخبرني بحالة طفلي وبدقة لو سمحت .
ـ هون عليك يا ولدي ، فما أخبرني به الطبيب أن هناك ثقباً في حجابه الحاجز أدى إلى شيء من التشوه في الرئة ، وسيجرون له عملية في الغد هي بالخطورة بمكان لدرجة طلب موافقتك على ذلك ، ولندع الأمر لله تعالى فهو القادر على كل شيء ، وربما يستطيع الطفل تجاوز هذه المرحلة و أن يعافيه الله .
ـ يارب ، ومتى ينبغي لنا الذهاب للمستشفى .
ـ غداً صباحاً .. فأخلد إلى النوم الآن .
ـ شكر الله لك يا أبي، فقد حملتك فوق طاقتك .
ـ لا عليك يا ولدي ، فهو أيضاً ولدي .
ساعة من الزمن ... أخاطب بها دموعي وأنا أحنو على قلبي : توكلنا على الله ، ساعدني يا أبي بأن أضعه على طرفه الأيمن متجهاً للقبلة ، سائلاً الله أن يجعله لي ولوالدته شفيعاً يوم القيامة . ولدقائق عدت بعالمي للحظة الجرح العميق .
ـ هيا يا أبي فأنا جاهز للذهاب إلى المستشفى ... و أنت يا أخي أحضر معك آلة التصوير ، فإني أرغب بأن أصوره صورة لأريه لوالدته في وقت الزيارة .
ـ حسنا يا ولدي توكلنا على الله ، لكني أريد أن أخبرك بأمر ما .
ـ تفضل يا أبي .
ـ لقد توفي الطفل يا ولدي ، فعظم الله أجرك وصبرك وجعله شفيعاً لك يوم القيامة .
آه خرجت من القلب لتبقى في القلب ، جرحت الفؤاد وسكنت الفؤاد ، أدمعت العين ولا دموع ، فقط هي الآه .
ـ الحمد لله على كل حال ، هيا بنا ننطلق للمستشفى لنجري أمر استلامه ودفنه ، فلربما لزمنا وقت كثير حتى ننهي هذه المعاملة .
ـ توكلنا على الله .
ـ هل أنت والد الطفل ؟؟
ـ نعم .
ـ هل ترغب باستلامه ودفنه بما أنك جهزت كافة أوراق استلامه .
ـ نعم .. و أرغب بغسله عندكم وبمساعدة من يقومون بذلك لديكم .
ـ لا مانع لدينا .
ـ حسناً تفضل حتى يحضروه من الثلاجة ويجهزوه للغسل .
ـ جزاكم الله خيراً راجياً منك الإسراع حتى يتسنى لنا الصلاة عليه بعيد صلاة الظهر جامعة .. و أنت يا أخي أحضر لي آلة التصوير من السيارة ... فما زلت أرغب بتصويره .
ـ تفضلوا مع المغسل لغرفة الغسيل لو أحببتم المساعدة بغسله .
ـ جزيتم خيراً عنا يا أخي . توكلنا على الله .
ـ هل ترغب في أن تراه .
ـ نعم ، و أن أساعدك بتغسيله لو سمحت .
ـ حسناً .....
يالها من دقائق طويلة ، لكم أنت جميل يا قرة العين ، لكم ملمس جلدك رقيق ، ما أبدع خلقك يا الله ، باسمك اللهم ، لا حول ولا قوة إلا بالله، هل لي بتقبيلك بعد أن فقدتك قبل أن أسعد بك، حمداً لك اللهم ، هل لي بحبك قبل أن أحبك ، حمداً لك اللهم ، هل لي بالخوف عليك قبل أن أخاف ، حمداً لك اللهم ، اشفع لي يا بني فربما كنت خير شفيع لي عند ربي، حمداً لك اللهم . لكم أنت جميل وتحتك وسائد من قطن أبيض نقي ، حمداً لك اللهم ، انتظر لحظة يا أخي ، فجده يريد تقبيله قبل أن تتم تكفينه ، حمداً لك اللهم، ما أقسى لحظة أن واروك عني بالكفن ، حمداً لك اللهم ، وهل هي كانت آخر لحظة أراك بها بعد كل هذا الحب الذي أحببتك إياه . حمداً لك اللهم . وداعاً حبيبي فلكم اشتقت إليك قبل أن ألقاك ، وداعاً يا نور العيون ، حمداً لك اللهم، وداعاً يا طيرا من طيور الجنة ، يا ملكاً من ملائكة الأرض ، يا روحاً طاهرة ، حمداً لك اللهم.
وتوالت بعدها الأحداث سراعاً ...
ـ دعه لي يا أخي فأنا أرغب بحمله طوال الوقت ، جزى الله خيراً كل من صلى معنا عليه ودعا لنا وله . فقط أحضر السيارة لباب المسجد ، فلا رغبة لي بالسير فيه بين الناس . وأنت يا أبي تفضل بالجلوس أمامنا وسيبقى صغيري في حضني لحين وصولنا للمقبرة .
وهنا بدأت الساعة . أجمل ساعة قضيتها في حياتي ، و أقسى ساعة مرت علي ، أناجي بها صغيري و أودعه بنفس الكلمة ، أغدق عليه مما عندي ويغدق علي مما عنده . أبكي من غير بكاء، أصرخ من غير صوت ، أنهار من داخلي في كل لحظة ، و أهيم في الآمال في اللحظة التي تليها . قريب قريب من القلب ، بعيد بعيد عن الروح ، ساعة من الزمن كلها عشق وهيام ، مداعبة بالأنامل ، أحضان ، نظرات ، تأملات . يتخللها في كل همسة آه ، وفي كل لمسة آه ، دموع تحفر مكانها ذكريات، وأخرى مكانها آمال، لكم صعب بكاء الذي لا يستطيع البكاء ، تمنيت للحظة واحدة بأن أصرخ دعوني وحدي مع حبيبي أناجيه كيف أشاء ، أضحك تارة ، و أبكي تارة ، ألاعبه ، ثم أحضنه . دعوني لحظة أكلمه ، لا تقولوا عني مجنوناً ، لا تحزنوا علي ، أو ليس من حقي لحظة واحدة أعيش فيها مع من أحبه ، لن أراه ثانية في هذه الدنيا. فقط لحظة أقول له كم سنة عشت معه ، كم يوماً حلمت فيه ، كم ساعة بكيت من أجله ، كم دقيقة رأيته ، كم آهاً ستخرج من أجله .
باسمك يا الله ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، الله أكبر الله أكبر ، ناولني يا أخي اللَّبِن لأسد على اللحد منافذ التراب ، و أحضر لي بعض الحصى والماء لنغطي به القبر بعد الانتهاء من ردم القبر عليه .
بسم الله الرحمن الرحيم . يارب شفعه في يوم القيامة ، حمداً لك يا رب على ما رزقت ، وحمداً لك يارب على ما أخذت . إنا لله و إنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة على بالله .