حالات نعي

إيمان البشتاوي */ أمريكا

النعي الأول

ارتحلت جدتي آمنة وأنا صغيرة.. يرحمك الله يا جدتي..

الآن فقط، أدركت لماذا أوصت جدتي المقعدة بأن يدفنوا معها مفتاح بيتها الحجري في بيسان..بيسان التي كانت تراها جدتي في وجه الشمس المشرق كل يوم.

لن أنسى شكل هذا المفتاح الحديدي أبدا .. كنت أسأل أمي دائما:

لماذا تعلق جدتي آمنة هذا المفتاح في رقبتها.. كانت أية إجابات تعطيها أمي كافية لكي أنسى الموضوع.

أتركها لأذهب للعب مع دجاجات جدتي الحمر والسوداوات..

حينما طلبت أمي من جدتي التي أقعدها القهر والتهجير عن الحركة أن ترحل معنا إلى المدينة..

رفضت جدتي ولم تغادر مسكنها الطيني الحدودي البديل.. المفتوح للشمس والأمل..

لن أنسى كيف كانت تحبو لتجلس تجاه الشمس.. ترفع عينيها عاليا محلقة في الأفق البعيد القريب..

تبدأ بقص الحكايا نفسها عن هذه الأرض الجميلة العزيزة الأبية هناك..

لم نمل حكايا جدتي المتكررة أبدا..كنا دائما نرفع قاماتنا الصغيرة تجاه عينيها المحدقتين نحو الأفق..

كانت ترى ما لا نرى

كانت تقول.. ترون هناك؟..هناك.. هناك.. بيسان..

هناك بيتي.. كنا ننظر باتجاه عينيها وتلتقي أعيننا بالأفق هناك.. صورة ترتسم لنا نحن الصغار..بيتا أبيض بين ثنايا السحاب... وكأننا نراه.

رسمت جدتي الطيبة القوية عبر ذاكرتها صورة جميلة .. عشقنا من خلالها وطنا لم نولد فيه ..

أدركت اليوم أن حزن جدتي المسكون في عينيها في كل مرة أنظر إليها.. ليس حزنا على بيسان.. بيتا وبرتقالا وشعبا..وحسب...

حزن جدتي التي انتظرت حلم عودتها أكثر من أربعين عاما.. حين خرجت مهجرة قصرا ومشيا نحو الضفة الأخرى كما فعل ألاف الفلسطينيين..

حزن جدتي كان علينا ومرثاة لنا..

كانت ترى فينا وفي جيلنا انكسار حلمها.. كانت ترى فينا عجزا وشللا وضعفا لا يقوى إلا على التنديد والشجب والاستنكار والإدانة..

وأحيانا قد نقوى قليلا لنرمي حذاء..

آه يا جدتي.. لقد نعيتنا وأنت ترحلين مقهورة.. نعيتنا وأنت توصينا بدفن مفتاح بيتك الحبيب فوق صدرك..

لماذا لم تورثينا ذلك المفتاح..آه يا جدتي.. هل علمت أنك دفنت معك كرامتنا وعزتنا وإباءنا.. حتى وجودنا

لقد دفنت هوياتنا.

اليوم فقط أدركت أنك لم تكوني توصينا.. بل كنت تنعينا.

فإنا لله وإنا إليه راجعون.

النعي الثاني..

ها هي غزة هاشم.. تنعاني.. وتنعاكم.. وتنعى أفراد الأمة العربية والإسلاميه شعوبا وحكومات.

تنعى غزة الأبية كل ما صنف علميا بالصنف البشري!!!

إنا لله وإنا إليه راجعون

وصية ميت:

إلى أهل غزة... إلى الشرفاء الأحرار هناك.. إلى الخالدين المرابطين الأعزاء..

أرجوكم غسّلونا قبل دفننا ببعض قطرات من مياهكم الشريفة..

أشيروا إلى جثاميننا بأيديكم الطاهرة.. حتى لو كان عن بعد.. علنا نرتشق برذاذ طهركم

أسعفوا أرواحنا الهزيلة بقراءة الفاتحة علينا..

كفنونا ببعض خيوط من نسج عزتكم التي لم نكنها..

لا تتركونا نواجه ربنا الأعلى عراة متخاذلين.

بعضا من شرف نرجوكم..

ليس مهما أن تبحثوا عن أسمائنا.. أعطونا أرقاما.. قبرا جماعيا.. فنحن ملايين الملايين.. أرقاما بلا أسماء ولا هوية..

              

*إيمان البشتاوي: صيدلانية تعيش في ولاية كناتيكت الأمريكية، تعمل حاليا في مجال إنشاء وإدارة وتطوير المدرسة الإسلامية للأطفال في منطقتها.