هل شعرتَ يوماً بأنّك ظالم ؟
مصطفى حمزة
أنا شعرتُ بذلك مرة في حياتي ، مرة واحدة ، ومن يومها وأنا في عجبٍ عُجاب من أمرِ كلّ ظالم :
كيف يستطيع أن ينام ويصحو ؟
كيف يستطيع أن يأكل ويشرب ؟
كيف يستطيع أن يضحك ؟
كيف يستطيع أن يهنأ بعيشِه كبقية الناس ؟!
صدّقني ، إنْ قدّرَ اللهُ عليكَ أن تكونَ مظلوماً لا ظالماً فذلك من رحمته بكً ورعايته لك ؛ مهما تعبتَ و شقيتَ بالظلم الواقعِ عليكَ ..
لقد عِشْتُ ذلك بنفسي ..
حدث ذلك منذ أكثرَ من عشرين سنة ، في إحدى سفراتي من اللاذقية إلى حلب بالقطار وكنتُ يومها في العشرينات من عمري ، مُعتدّاً بعنفوان الشباب وقوّة الريّاضيّ ، وكانت سفراتي تلك أسبوعيّة – في تجارة بسيطة - أنطلق من اللاذقية صباحاً باكراً ، وأصل إلى محطة حلب في العاشرة ، فأسارع إلى الحجز للعودة في رحلة الخامسة عصراً . وكان يحدث عندَ نوافذ الحجز ازدحامٌ شديدٌ ، إذْ إنّ معظمَ مَن يأتون إلى حلب في هذه الرحلة حالهم مثل حالي يحجزون للعودة في رحلة العصر بعد أن يقضوا حاجاتهم من السوق .
أمام نافذة الحجز كنتُ أقف في صفٍّ طويل رهيب ، وفوضى عارمة ، وجوٍ خانقٍ ، وضجيج وسُباب وعِراك .. كلٌ يُريد أن يحجز قبلَ غيره ، ليكسب الوقت .. ضارباً في الأرض كل أدبٍ وتهذيب ونظام واحترام للآخر.. وهذا الموقف كان من أكبر المُنغّصات ، في سفراتي تلك ..
كان الذي خلفي شابّاً في مثل عمري ، أو أصغر قليلاً ، ملتصقاً بي التصاقاً مُزعجاً جدّاً ، ولكني لاحظتُ أنه كان مرتاحاً لهذا الالتصاق بي ! و لا يشعر بأيّ ضيق من هذا الجوّ الخانق الذي نحن فيه ! وكان يمضغ اللبان بمنتهى الارتخاء و الميوعة !
طلبتُ منه بلطف أن يبتعد عني قليلاً ، فالتصاقه بي يزيد من ضيق صدري .. فنظر إليّ بعينين ذابلتين ، وزاد من تلمّظه باللبان ، ولم يُجبني ، وبقي مُلتصقاً بي عن قصد !
وطارَ صوابي .. كنتُ أريد أن ألتفتَ إليه ، وأخرجه من الصّفّ ، وأخنقه بيديّ .. ولكن هيهات ونحن داخل هذه الكتلة البشريّة المعجونة ببعضها ! فكتمتُ تميّزي بغيظي إلى ما بعدَ الحجز وخروجنا من هذه المعمعة ، وكنت أشعر بدمي يغلي في عروقي ، وأن كلّ ثانية تمرّ كأنّهــا سنة !
خطفت بطاقتي من يد الموظّف ، وخرجت من الصّف بسرعة وعنف ، وحين نظرتُ خلفي أبحث عنه لم أجده ! بحثت عنه بين الرؤوس والأكتاف ، لكنّه اختفى وكأنّه الملح ذاب !
مرت الساعات الثلاث أو الأربع التي قضيتُها في السوق كأنها الجبال فوقَ صدري ، ولم أكن أستطيع التدقيق فيما كنت أشتريه من السوق ، ولم أعِ الركعات التي صلّيتُها ، واكتفيت من الغداء بوجبة سريعة أرسلتها رمياً إلى جوفي ..
وقبلَ ساعةٍ من موعد رحلة العودة كنتُ في المحطّة .. أبحثُ عنه .. ولكن دونَ جدوى ..
وفجأةً ، حين اتخذت مكاني المخصص في المقصورة ، و أسندتُ رأسي المصدوعة إلى الخلف اصطدمت عيناي به .. لقد كان يجلس في المقعد المقابل لي مباشرةً ، وإلى جانبه شاب آخر يتحدّث معه بمرحٍ وابتسام !
ألقى إليّ نظرةً سريعة لا مُبالية ، ثم عادَ إلى حديثه مع جاره .. وكأنّه لم يرني في حياته !
لم أشعر بنفسي إلاّ وأنا أكيل له اللكمات على وجهه ، وأين ؟ في مكان آخر ، بين المقصورتين ، حيثُ لم يكن هناك أحد إلا أنا وهو ، والشاب الذي كان يُحادثه .. متى جررته إلى هناك وكيف ؟ لا أعرف !
كان يحمي وجهه ، وهو يسألني بصوتٍ منخفض وألم مكتوم : لماذا تضربني .. ماذا فعلتُ لك ؟ الله يسامحك ؟!
وأنا وكأنني أعمى أصمّ ، كنتُ أضربه ولا أشـتفي ! وصـديقه يرجوني أن أتركه ! ثم تركتُه وعدت إلى مقعدي .. أستردّ أنفاسي .. وقد عادت إليّ روحي !
بعد قليل عادا وجلسا مكانيهما ، وقد غسل وجهه المورّم بالماء ..
ونظر إليّ تلك النظرة .. وامتدّت .. وامتدّتْ .. حاولتُ أن أعرف من أي نوع هي ؟ ما معناها ؟ ماذا يقصد بها ؟ .. وتمنّيتُ لو أنه يتكلّم ..
بعد قليل سمعت صوته يسألني بأدب جمّ ، وبدفءٍ إنسانيّ غريب :
- أنا سامحتُك ... والله العظيم سامحتُك .. فقط أخبرني ماذا صدر منّي .. بماذا أخطأت معك ؟!
قرّبتُ إليه وجهي ، وسألته : ألم ترني قبلَ الآن ؟ انظر إلى وجهي جيّداً ..
أجاب مباشرةً وبتأكيد وثقة : لا والله ، والله اليوم أراك لأول مرة في حياتي ..
قلت با ستغراب : كيف ؟ ألم تكن خلفي اليوم صباحاً حين نزلنا من القطار، في صفّ الحجز ؟!
أجاب بدهشة : أنا ؟! اسأل صديقي ، نحن لم نسافر إلى اللاذقية منذ شهر !
هزّ صديقه رأسه مؤكّداً : نعم ، يا أخي ، نحن طالبان في الجامعة ، أنا فلان ، وهذا صديقي فلان ، وكنا في امتحان نصف السنة ، واليوم انتهينا .. ونحن عائدان إلى البلد ..
حدّقتُ في وجهه .. وكأن جمراً صُبّ فوقَ رأسي .. .. يا إلهي ، إنه ليس هو !
لم يكن هو ذلك المائعَ الحقير الذي كانَ خلفي في صفّ الحجز ، وأطار عقلي ، وعكّر يومي ...
ماذا فعلتَ يا أنا .... ماذا فعلتَ ؟!
استغربا من عينيّ اللتين اغرورقتا فجأة بالدموع .. وأنا الذي كنتُ كالثورِ الهائج قبل قليل ؟!
أخرج من جيب قميصه منديلاً وناولني إيّاه !
ذبحني .. سالت دموعي بغزارة .. أطرقتُ رأسي .. لم أجد الجرأة لأرفع وجهي إلى وجهيهما ! هناك شعرتُ بذلك الشعور الجديد الغريب الأليم ... أنا ظالم ... لم أشعر بذلك من قبل ، ولا من بعد ....
أنا ظالم ؟! شعورٌ أمرّ وأقسى بكثير ممّا كنتُ أشعر به منذ الصباح !
كانت رأسي بينَ كفّي ، أنظر إلى موضعِ قدميّ ... تملّكتني رغبةٌ جامحة في أنْ يَغضبا معاً ويثورا ويقوما إليّ و ينهالا عليّ بالضرب ، لأرتاح من شعور رعيب يجتاحني لأول مرة في حياتي ..!!
رفعتُ إليهما رأسي بعد قليل ، وعرّفتهما بنفسي ، ثم قصصتُ عليهما ما جرى لي في الصّباح مع ذلك الشّخص الساقط .. لقد كان ينظر إلي ذلك الشاب الذي ضربتُه بتفهّمٍ وتعاطف ، واحمرّ وجهه خجلاً من تصرفات ذلك الشخص .. مما زاد في ألمي وجَرْحي ..
ثم إنّه لم يتقبّل اعتذاري بالقَبول الحسن وحسب ، بل ما زال يُلطّف خاطري ، ويُخفّف عنّي هو وصديقه ، إلى أن وصلنا المحطّة .
هو اليوم مهندسٌ معروف في المدينة ، وذو سُمعة كالمِسْك ، يُضرب به المثل بالعلم والسيرة الفاضلة ... رُبّما نسي ذلك اليوم البعيد ، أما أنا فلم أكن لأنساه أبداً ، هو يومٌ تعلّمتُ منه أعظمَ درسٍ في حياتي ، ألاّ أكونَ ظالِما أبداً ..
شعوركَ بأنك ظالم تعذيب أليم .. وألمٌ مُعذّب ..
لقد عشتُ ذلك بنفسي ..