اذهب أنت وربك فقاتلا

عبد العزيز كحيل

[email protected]

كيف وصلت الحال ببني إسرائيل إلى أن يخاطبوا نبيهم موسى-عليه الصلاة والسلام-بمثل هذه العبارة الوقحة التي تنم عن قلة أدب سافرة مع الله ورسوله إلى جانب خسة النفس والقعود عن تحرير الأرض المغتصبة؟إن ذلك الشعب-"المختار"كما يزعمون-حباه الله وأغدق عليه النعم المادية والمعنوية فأدى ذلك إلى نتائج عكسية إذ أخلد إلى الأرض واعتمد على السماء في كل شيء،ينتظر المعجزات لتتولى إطعامه وسقيه وتحرير بلاده وحل مشكلاته،واستمر الأمر إلى درجة الضمور الكامل للجانب الإنساني عند القوم،فهذا الموقف المخزي من الجهاد لإخراج المغتصبين تتويج لسلسلة من المواقف السلبية،فقد تولى الله تعالى توفير الرزق لهم"وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا"، "وأنزلنا عليكم المنى والسلوى"فنبذوا كل مجهود ذاتي وتدللوا على الله بدل أن يزرعوا ويغرسوا ليأكلوا ما يشاؤون"يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض"،فهذا اعتماد على الدعاء غير المباشر في مواطن الاعتماد على العمل مع الدعاء،وعندما احتاجوا إلى الماء لم يحفروا الآبار وإنما طلبوا الماء عن طريق المعجزة"وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعضاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشر عينا"،وقد تكرر الأمر وبصورة أكثر وقاحة مع المسيح عليه السلام"هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء"،وعندما قتل فيهم قتيل لم يعمدوا إلى عملية التحقيق للكشف عن الجاني بل تقاعسوا حتى تدخلت السماء مرة أخرى لتحل المشكلة بطريقة معجزة كما تدل ذلك قصة البقرة،لكن السلبية بلغت مداها عندما قعدوا عن القتال الشرعي ورفضوا السعي إلى تحرير أرضهم المستعمرة وأوكلوا المهمة إلى السماء"إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون"،بسبب هذه السلبية القاتلة نزعت من بني إسرائيل القيادة الأدبية والحضارية وسرت عليهم السنن الاجتماعية الماضية فدارت عليهم الدوائر وأصابهم الفقر والذل والتمزق والهوان،وهذا مصير حتمي لمن يقعد عن بذل الجهد ووضع الخطط والكد والانخراط في الدورة الطبيعية للحياة ويحيل مشكلاته المعيشية على العناية الإلهية متناسيا أن الإنسان هو المكلف،فإذا كان مؤمنا صاحب وحي ورسالة كان التكليف أعظم وأبين،إن الربانية ليست بديلا عن الإنسانية بل تقتضيها حتما،لذلك أوكلت وظيفة الخلافة للإنسان وقوامها العمل الصالح المادي منه والمعنوي أي أن حياة الإنسان محكومة بمعيار الجهد وإفراغ الوسع،أما المعجزة فإنها استثناء يؤيد به صاحب الرسالة وليس وسيلة لإقامة الحياة الدنيا،فإذا درج المؤمنون على الاعتماد عليها بدل حشد الطاقات الإنسانية كما يأمر الوحي نفسه فإنهم ينالون جزاء المتقاعس الضعيف المنسحب من معترك الحياة،وهذه السلبية ليست خصية يهودية-بل إن اليهود تخلصوا منها عبر العصور-لكنها صفة قد تلتصق بأي قوم أساؤوا فهم العلاقة بين الإنسان والسماء وبين الإنسان والكون فضمرت قدراتهم الذاتية فأعرضوا عن الإيجابية والمبادرة وتفجير الطاقات من أجل عمارة الأرض وأداء مهام الخلافة في مجالات الاقتصاد والسلم والحرب والعلاقات البشرية مع اهتداء دائم بالوحي المنزل،وإن المسلمين قد أصابهم في زمن الضعف ما أصاب بني إسرائيل قديما وإن اختلفت الصور والأشكال حتى وجد فيهم من يظن أن النفط مثلا نوع من المن والسلوى أي عطاء علوي يغني عن العمل والسعي لذلك جاءت أزمة تلازمت فيها الضائقة الاقتصادية وضياع الحرمات وتغلب العدو الغاضب،ولن تحل المشكلة إلا بتطليق السلبية وتفتيق الطاقات الإنسانية المبدعة.