أرصفة رام الله والعشاق
صباحكم أجمل
زياد جيوسي
عضو لجنة العلاقات
الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب
تهمس في أذني رام الله وهي تلقي بشلال شعرها على وجهي، فلا أرى من العتمة سوى اشراقة وجهها وجماله، تغمرني بمشاعر الحب والحنان، تحاول أن تعيد لي توازن النفس الذي افتقدته منذ وداع الياسمينة أمي، حين توقف القلم عن الكتابة، وتوقفت المشاعر عن البوح، تهمس لي ببوح عينيها أن أعود إلى ما كنت عليه، أن أتذوق الياسمين وأتنسم عبقه، أن أتعايش مع الألم ولوعة الفراق، وأعود إليها أراقصها وأضمها كما اعتدت أن أضمها منذ زمن سحيق، وأن أهمس لها كعاشق مجنون.
عدت إليها بقلب حزين، فغمرني رمضان ببركته، وحضر ولدي محمد ليكون معي بداية الشهر يواسي وحدتي، يرافقني في السير في الطرقات، الوقوف عند الياسمينات المتعربشة على الحيطان، وفي الليل يبدأ يعزف بهدوء على جيتاره، يغني بعض الأغنيات الهادئة، فأبتسم لهذا الطفل الضخم الذي يحمل قلبا مترعا عاطفة وحنان.
غادرني ولدي عائدا لوالدته ودراسته ولم تغادرني رام الله، فقد كانت وما زالت السلوى والجمال، وإن افتقدت المسير بعض الصباحات في دروبها بحكم الصيام وسهر لياليه، فهي تغمرني بجمالها حين أسير في الأمسيات والصباحات، أسير وحيدا وأجول بعضا من دروبها، ويستقر بي المقام في النهاية تحت شجرة حرجية ضخمة عتيقة، أعتدت أن أجالسها بين الحين والآخر في شارع النـزهة، على رصيف الشارع أمام بيت مهجور لعل أصحابه قد هاجروا وهجروه، فأغلقوا أبوابه بالاسمنت ونوافذه بالحديد، لعله خوفا ممن يتسللون ويستولون على البيوت المتروكة، فلا يخشون قانون ولا سلطات، فأصبحت حديقة البيت مهملة تجول فيها السحالي وربما زواحف أخرى، وبقيت الأشجار والنباتات بدون تشذيب ولا تقليم، فأصبحت وحشية المظهر، وبقيت الياسمينة الضخمة المتعربشة على الجدار تصر أن تبوح بشذاها والجمال، فتبدد بعضا من وحشة المشهد، مما يدفعني للجلوس على الجدار المنخفض تحت هذه الشجرة العتيقة الجميلة، التي أحببتها وأحببت ظلها الوارف، فأتمنى لو كان هناك مقعد رصيف تجود به بلدية رام الله تحتها، فليس أجمل من مشهد عاشقين تحتها، أو راحة عابر سبيل لعله يجول في الطرقات ليبحث عن قوت لأطفاله، أو عاشق مخذول يستعيد ذكرى وذاكرة، أو عاشق مدينة مثلي يهمس بأذن طيفه البعيد القريب لحن قصة عشق تمتد عبر العصور، ففي ظلال هذه الشجرة التي أجهل اسمها ونوعها فأسميتها بركة، أجد راحة نفسية في النهار أو الليل، فأتأمل جذعها الضخم الذي تنبثق منه ثلاثة أغصان ضخمة، تحمل امتدادا رائعا من الجمال، فلا أكف عن تأمل جمالها، حتى أني أرى إمكانية أن تضم بين أغصانها كوخ صغير وجميل، أتخيل أني التجأ إليه كصومعة بين الأرض والسماء.
في الأمسيات أكون هناك، وحين تدق الساعة العاشرة، يندفع الدم في عروقي، فقد أزفت ساعة الرحيل، فأستعيد ذكرى رايات انكسار، وأرى في أوراق الشجرة المتساقطة، بقع من دم أزرق يلوث طهر البياض، فأصرخ أنادي: أين الشذى والياسمين، فيرتد الصدى: أما يكفيك رؤية الياسمين متعربشا على جدران شارع النـزهة، فدع العبق للقاطنين الديار، ففي أيلول تبدأ الأشجار بتلوين أوراقها بلون الذهب الأصفر، حتى تغطي الحزن ببعض من فرح وإن كان خدّاعا، فأنظر للرصيف المشجر الممتد، أشعر بطيفي البعيد يهمس لي: يجب أن نعترف لأنفسنا، فأيادينا لن تتشابك يوما ونسير معا على الرصيف كأي عاشقين، فهو الحلم البعيد البعيد، واشعر بالرصيف يهمس لي ويقول: الأرصفة لا تتحدث إلا عن حكاية عاشق مشتاق لنصفه الآخر، يحلم بالوصول واللقاء بعد طول انتظار، فأقول له: الأرصفة تروي حكاية المارين الذين ذهبوا، تتحدث عن عبق الأمكنة وحكاية عشق الجدات تحت الصنوبرات والأشجار العتيقة، تتحدث عن عيون الماء التي جففها غياب الحب وراء سراب الحقيقة، وتحكي الأرصفة حكاية عاشقين بقلب واحد يفرق بينهما الزمان والمكان، محرم عليهما حتى اختلاس النظرة.
أجول رام الله في هذا الصباح المبكر، ضباب وندى ونسمات ناعمة، ذكريات وقلب يستعد للمغادرة، فبعد ساعات سأكون في طريقي لعمّان الهوى، أقضي أواخر أيام رمضان والعيد في رحابها، أودع شجرتي بركة وأهمس لفيئها: إنها خطوة أخرى من خطوات رقصة الزار المجنونة، قبل أن تأتي عواصف الشتاء فتشتد خطوات الرقص، فتعرينا من كل أوراق الشجر، أودعك وأنا مسرور أني رأيتك أقرب ما نكون وابعد ما نكون، سأغادرك الآن ويبقى في القلب ما فيه، فسنلتقي من جديد أعدك، ولن يكون فراقا طويل المدى، أجول في الدروب مودعا الياسمينات وشذاها، أتأمل مظاهر الزينة في ميدان الساعة والمنارة والعديد من الشوارع، أشجار أصبحت مضاءة بأنوار جميلة تضفي بهجة في الأمسيات، أرصفة أصبحت أكثر اتساعا وتنظيما، زهور جميلة في طرف المنارة، لا تخلوا من بقايا أعقاب لفافات التبغ وأكواب الشاي والقهوة التي يلقيها الذين يقفون هناك، بدون إحساس بالمسئولية والحرص على الأمكنة العامة من التشويه، دوار الساعة ما زال يئن من وحدته بلا ساعة، واليافطات الإعلانية ما زالت تحجب الرؤية في دوار المنارة، فلا البلدية وفت بوعودها ولا المحافظة كذلك.
أعود لصومعتي بيت الياسمين متأبطا صحيفتي اليومية، أشعر بحزن يلفني، لا أجد إلا روح أمي وطيفي الذي يمعن بعدا، وحروفي الخمسة تؤانس لحظات ألمي، أفتح نافذتي فيتسلل لي عبق النعناع مع النسمات القادمة، أبدا بتجهيز حقيبتي الصغيرة التي ترافقني ببعض الكتب وعدسة التصوير ودفتر ملاحظاتي، أتفقد أوراقي الرسمية فيها، فحين أذهب لعمان لا أحمل شيئا آخر، أستمع لفيروز تنشد لي:
"لملمت ذكرى لقاء الأمس بالهدب ورحت أحضرها في الخافق التعب، أيد تلوح من غيب وتغمرني بالدفء والضوء بالأقمار بالشهب، ما للعصافير تدنوا ثم تسألني: أهملتي شعرك، راحت عقدة القصب، رفوفها وبريق في تلفتها تثير بي نحوها بعضا من العتب، حيرى أنا يا أنا والعين شاردة أبكي وأضحك في سري بلا سبب، أهواه؟ من قال إني ما ابتسمت له بالدمع فعانقني شوق إلى الهرب، نسيت من يده أن استرد يدي، طال السلام وطالت رفة الهُدب، حيرى أنا يا أنا أنهد متعبة خلف الستائر في إعياء مرتقب، أهوى الهوى، يا هلا إن كان زائرنا، يا عطر خيم على الشباك وانسكب".
صباحكم أجمل..