رمضانيات 2

رمضانيات

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

فضل الله على خلقه

لو أنك اقترضت من رجل تسعين ديناراً ، ثم جاء ابنه فاستقرض منك ستين ديناراً ، ومرت أيام وشهور ثم طالبك الرجل بدينه فلن تجد حرجاً أن تعطيه ثلاثين ديناراً فقط ، وتحيله على ابنه ليستوفي منه .

ولنفرض أن رجلاً استأجر غرفة في فندق بتسعين ديناراً ، ثم جاء ابنه فاستأجر غرفة  بستين ديناراً ، فلما التقيا رغبا أن يكونا متقاربين دون أن يدفعا شيئاً ، فسوف تعطي كل واحد منهما غرفة أجرتها خمسة وسبعون ديناراً ، فليس مالك الفندق مضطراً أن يخسر ثلاثين ديناراً إنما تنزل درجة الأب خمسة عشر ليرتفع الولد خمسة عشر ، فيلتقيان في غرفتين متقابلتين . وليس المالك للفندق ملوماً بما يفعل .

أما رب العزة الكريم – سبحانه- فقد أخبرنا بأفضل من ذلك في سورة الطور حين قال تعالى " وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتهمْ بِإِيمَانٍ ألحقنا بهم ذريتهم ، وما ألتناهم من عملهم من شيء " .

فمن عظيم فَضْله وَكَرَمه وامتنانه وَلُطفه بِخَلقِهِ وَإِحسَانه أَنَّ الْمُؤمِنِينَ إِذَا اتبعتْهم ذرّيّاتهم فِي الإيمان يُلْحِقُهُمْ بِآبَائِهِمْ فِي الْمَنْزِلَة وَإِنْ لَم يَبلُغُوا عَمَلَهُمْ لتقرّ أَعيُن الآباء بالأبناء عِندهمْ فِي منازلهم فَيَجمَع بَيْنهم عَلَى أَحسَن الْوُجُوه  فيَرفَع النَّاقِصَ العمل بِكَامِلِ العمل ولا يَنْقُص ذَلِكَ مِنْ عَمَله وَمَنزِلَته ، ويساوي بينهما قَالَ" أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلهمْ مِنْ شَيْء " .

وَقَالَ الْحَافِظ الطَّبَرَانِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إِذَا دَخَلَ الرَّجُل الْجَنَّة سَأَلَ عَنْ أَبَوَيهِ وزوجَتِهِ وَوَلَدِهِ فَيُقَال إِنَّهُمْ لَمْ يَبلُغُوا دَرَجَتَك فَيقول يَا رَبّ قَدْ عَمِلتُ لِي وَلَهُم فَيُؤمَر بِإِلحاقِهِم بِهِ "

هَذَا فَضله تَعَالَى عَلَى الأبناء بِبَرَكَةِ عَمَل الآباء وَأَمَّا فَضْله عَلَى الآباء بِبَرَكَةِ دُعَاء الأبناء فَقَد أورد الإمام أَحمَد رحمه الله عَن أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ " إِنَّ اللَّه لَيَرْفَع الدَّرَجَة لِلْعَبدِ الصَّالح فِي الجَنَّة فَيَقول يَا ربّ أَنَّى لِي هَذِهِ ؟ فَيَقُول بِاستِغفَارِ ولَدك لَك " إِسْنَادُهُ صَحِيح ولَهُ شَاهِد فِي صَحِيح مُسْلِم عَن أَبِي هُرَيْرَة عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِذَا مَاتَ اِبْن آدَم اِنْقَطَعَ عَمَله إلا مِنْ ثلاث : صَدَقَة جَارِيَة أَو علم يُنْتَفَع بِهِ أَو وَلَد صَالِح يدعو لَه " .

أَخبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ مَعَ غِنَاهُ عَنْ الخلائق جَمِيعهم وَمَعَ بِرّه وَإِحْسَانه بِهِم يُجَازِي الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات أَحْسَن الْجَزَاء فيُكَفِّر عَنْهُمْ أَسوَأ الَذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيهِمْ أَجْرهمْ بِأَحْسَنِ الَذِي كَانوا يعملون ، فَيَقبَل القلِيل مِنْ الحَسَنَات وَيُثيب عَلَيهَا الوَاحِدَة بِعَشرِ أَمثَالهَا إِلَى سَبعِمِائَةِ ضِعف وَيَجْزِي عَلَى السَّيِّئَة بِمثلها أَوْ يَعفو وَيَصفَح كَمَا قال: " إِنَّ اللَّه لا يَظْلِم مِثْقَال ذَرَّة وَإِنْ تَكُ حَسَنَة يُضَاعِفهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْه أَجْرًا عَظِيمًا " وَقَالَ في سورة العنكبوت : " وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُم سَيِّئَاتهمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُم أَحْسَن الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ " .

 فيمحو السيئات فلا تبقى ، ولا يجزيهم على عملهم الحسن بالنسبة التي فعلوها ، إنما يجعل العمل الحسن كله بأعلى نسبة ، وهذا من كريم عظيم .

وتعال معي نستجلي الأمر بشكل واضح في الآيات من سورة الزمر . يقول الله تعالى

وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)

 لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ۚ ذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34)

 لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)

يخبرنا الله تعالى أنه يكفر عن المسلمين أسوأ ما عملوا ، فإذا عفا عنا اسوأ ما عملناه ، وهي الكبائر والذنوب العظيمة المخيفة فمن باب أولى أنه سبحانه غفر لنا الذنوب الأصغر . فتلاشت كل السيئات بحمد الله ومنـّه .

واقرأ معي بقية الآية " ويجزيهم أحرهم بأحسن الذي كانوا يعملون " فالمسلم يعمل أعمالاً عظيمة أجرها كبير ، ويعمل أعمالاً بسيطة أجرها قليل . فيجعل الله تعالى أجر القليل كأجر الكثير ، فتكثر الحسنات وتنتفي السيئات ، فتكون أيها المسلم من أهل الجنة ، وتدخلها معززاً مكرماً .

من يفعل ذلك سوى الكريم سبحانه المتفضل لا إله إلا هو ؟

بقي أن تهمس في أذني وأهمس في أذنك أن نتعاهد على فعل الخيرات وعمل المبرّات ، وأن نعصي شياطين الإنس والجن ، وأن نتوجه إلى الله بقلوب سليمة  ...

فادع لي بظهر الغيب يا أخي ، إنني والله لبحاجة إلى دعائك .. اللهم اغفر لي ولإخواني وتجاوز عن سيئاتنا ، واجعلنا من عتقائك في هذا الشهر الفضيل .. اللهم آمين .

أخوك المحب عثمان

تخترق الحُجُب

- اعتمر علي رضي الله عنه يوماً فرأى رجلاً متعلقاً بأستار الكعبة وهو يقول :

يا من لا يَشغَله سمْعٌ عن سمع ، ولا تُغلطُه المسائل ، ولا يُبرمه إلحاح المُلِحّين ؛
 أذِقني بردَعفوك ، وحلاوة مغفرتك .

فقال علي : والذي نفسي بيده ، لو قلتَها وعليك ملءُ السموات والأرَضين ذنوباً لَغُفِر لك.

***

- دعا أعرابيّ عند الملتزَم فقال : اللهمّ إن لك عليّ حقوقاً ، فتصدّقْ بها عليّ ، وللناس قِبَلي تَبِعات ، فتحمّلْها عنّي ، وقد أوْجَبْتَ لكل ضيف قِرى ، وأنا ضيفك . فاجعل قرايَ الجنّة .

*** 

- وقال آخر: اللهمّ إليك خرجْتُ ، وما عندك طلبْتُ ، فلا تَحرمني خيرَ ما عندك  لشرِّ ما عندي . اللهمّ وإن كنتَ لم ترحمْ نَصَبي وتعبي فلا تَحرمني أجرَ المصاب على مصيبته.

***

- وقال آخر : اللهمّ ؛ إنه مَن تهيّأ أو تعبّأ وأعدّ واستعدّ لوفادة مخلوق رجاء رِفده وطَلَبَ نَيلِه ، فإن تهيئي وتعبئي وإعدادي واستعدادي لك رجاء رِفدك وطَلَبَ نَيلك الذي لا شبيه له ولا مثيل . .. اللهمّ إنّي لم آتِك بعملٍ صالح قدّمْته ، ولا شفاعةِ مخلوق رجَوته ، أتيتُك مُقِرّاً بالظلم والإساءة على نفسي ، أتيتُك بأني لا حُجّة لي . أرجو عظيمَ عفوك الذي عُدْتَ به على الخطائين ، ثمّ لم يمنَعكَ عُكوفُهم على عظيم الجُرم أنْ جُدْتَ لهم بالمغفرة . فيامن رحمتُه واسعةُ ، وفضلُه عظيم ، اغفرِ الذنبَ العظيم .

***

- وقال آخر : اللهمّ لا تُدخلنا النار بعد أن أسكنْتَ قلوبنا توحيدَك ، إنّي لأرجو أن لا تفعل ، ولئنْ فعلتَ لتجمعَنّ بيننا وبين قوم عادَيناهم فيك .

***

-  وقال آخر :

وإني لأدعو اللهَ والأمرُ ضيّقٌ        عليّ  فما  ينفكّ  أن  يتفرّجا

ورُبّ فتىً سُدّتْ عليه وجوهُهُ       أصابَ له في دعوة الله مخرَجا

***

-  قال إبراهيم بن أدهم لأصحابه حين عرض لهم سَبُعٌ  : قولوا :

اللهم احرُسنا بعينك التي لا تنام ، واجعلنا في كَنَفِك الذي لا يُرام ، وارحمنا بقدرتك علينا ، لا نَهلك وأنت رجاؤنا .

قال خلف : فما زلت أكرّرُها مذ سمعتها ، فما عرض لي قَطّ لص ولا غيرُه.

-  قال أعرابيّ : مَنْ أقام بارضنا فليُكثِر من الاستغفار ، فإنّ مع الاستغفار القطار ( السحاب العظيم القطر ) .

- وكان أعرابي يدعو : اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا فنعجِز ، ولا إلى الناس فنضيع ، اللهم اجعل خير عملي ما قاربَ أجلي .

-  ومسك الختام دعوة سيّد ولد عدنان صلى الله عليه وسلم :

" اللهم اجعلني لك شَكاراً ، لك ذكّاراً ، لك رهّاباً ، لك مطيعاً ، إليك مُخبتاً ، لك أوّاهاً منيباً ، ربّ تقبّل توبتي ، وغسل حَوبتي ، وأجب دعوتي ، وثبّتْ حُجّتي ، واهدِ قلبي ، وسدّدْ لساني . 

بين جبريل ويوسف عليهما السلام

- يروى في الإسرائيليات أن يوسف عليه السلام لمّا لبث في السجن سبع سنين أرسل الله تعالى جبريل عليه السلام بالبشارة بخروجه فقال له :

أتعرفني أيها الصدّيق؟

قال له يوسف : أرى صورة طاهرة وروحاً طيبة لا يشبه أرواح الخاطئين .

قال جبريل : أنا الروح الأمين , رسول رب العالمين .

قال يوسف : فما أدخلك مداخل المذنبين وأنت سيد المرسلين وراس المقرّبين؟.

قال جبريل: أوَ لمْ تعلم – أيها الصدّيق – أن الله يُطهّر البيوت بطُهر النبيين،وأن البقعة التي يحلون بها هي أطهر الأرَضين ؟ وقد طهّر بك السجن وما حوله يا ابن الطاهرين.

قال يوسف : كيف تشبهني بالصالحين وتسميني بأسماء الصدّيقين ، وتـَعُدُّني مع آبائي المخلصين ، وأنا أسيرٌ بين هؤلاء المجرمين ؟!

قال جبريل : لمْ يكلِم ( يجرح)قلبَك الجزعُ ، ولمْ يغيّر خُلـُقـَك البلاءُ ، ولمْ يتعاظمْك السجنُ ، ولمْ تطأ فراش سيّدك ، ولمْ يُنسِك بلاءُ الدنيا بلاءَ الآخرة ، ولمْ تُنسك نفسُك أباكَ ، ولمْ يُنسِك أبوك ربّكَ .

وهذا الزمانُ الذي يفُكّ اللهُ به عُنُوّك( أسرك ) ، ويعتق به رقّك ، ويُبَيّن فيه للناس حكمَتَك، ، ويُصَدّق رُؤياك ، ، ويُنصفك ممن ظلمك ، ويجمع إليك أحبتك ، ويهب لك ملك مصر ، يُمَلّكك ملوكَها ، ويُعبّد لك جبابرتها ، ويُذِلّ لك أعزّتها ، ويُصغـّر لك عظماءها ، ويُخدِمُك سوقَتَها ، ويُخوّلك خوَلها ، ويرحم بك ساكنيها ، ويُلقي لك المودّة والهيبة في قلوبهم ، ، ويجعل لك اليد العليا عليهم ، والأثر الصالح فيهم ، ويُري الملكَ حلماً يفزع منه ، ويأخذه كربٌ شديد ، حتى يُسهره ويُذهب نومَه ، ويُعمّي عليه تفسيره وعلى السحرة والكَهَنة ، ويعلّمك تأويله .

- كلام منمّق يدل على أن راويه متمكن في اللغة العربية تمكناً رائعاً فجمع هذه الجمل القصيرة المترادفة ، فجلّى لنا بعض ما أراده الراوي وأحسن السبك والتصوير . لكنْ خانه البيان في بعض الجمل والتعابير في أمور نذكر بعضها :

1-     لم يكن للصديق يوسف عليه السلام أن ينكر صدّيقيته ولو كان في السجن ، فهو يعلم أنه بريء مما رمي به ، وأن المكان يطهر بالطاهرين – فعلاً- ولا يضيره أن يكون في السجن ما دام في رعاية الله وحفظه . كما أنه عليه السلام نبيٌّ ابنُ نبيٍّ ابنِ نبيٍّ ابنِ أبي الأنبياء .

2-     أخطأ الراوي حين جعل مَنِ اشتراه سيده ، والقرآن الكريم يتجاوز ذلك حين يقول معرضاً وملمّحاً " وألفيا سيّدَها لدى الباب " فجعله سيدها لا سيّده  فلا ينبغي أن يكون الكافر سيّداً لنبي . وكذلك لم يجعل القرآن المرأة سيدته حين قال " وراودَتـْه التي هو في بيتها عن نفسه " أما قوله تعالى حكاية عن يوسف " معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي " فالرب هنا الله تعالى على أصح الوجوه ، فهو سبحانه الذي رعاه وحفظه وأكرم مثواه .

3-     ولا يليق التعبير " ، يُمَلّكك ملوكَها ، ويُعبّد لك جبابرتها ، ويُذِلّ لك أعزّتها ، ويُصغـّر لك عظماءها ، ويُخدِمُك سوقَتَها ، ويُخوّلك خوَلها " بمكانة نبي داعية ينشر الحق والعدل بين الناس أن يتسلط على رقاب العباد فيتعبدهم ويستذلهم ويستخدمهم ، ويجعلهم خولاً ... وقد ذاق مرارة الظلم والقهر ..

والنص – حقيقة – جيد السبك مرصوف العبارة ، قويّ الحبكة .

وكان يوسف عليه السلام رحيماً بالناس ذا أثر صالح فيهم ، له اليد العليا عليهم ، فسبحان الله تعالى الذي ابتلاه فرفع درجته في الأنبياء والصدّيقين ، فكان نموذجاً رائعاً ، وأسوة صالحة . ورفع ذكره بين خلقه إلى يوم القيامة .

قرّاء آخر زمان !

-  عام ألف وتسع مئة وستة وتسعين من القرن الماضي شارك في مسابقة حفظ القرآن الكريم في دبي – في دولة الإمارات العربية المتحدة -  شارك فيها أحد حفاظ القرآن من الباكستان . فلما جاء دوره طلب إليه المقرر أن يقرأ من سورة طه .

وهنا بدأت الطامة الكبرى إذا قرأ هذه الآية  " طه ، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " هكذا بعد أن انقطع نفَسُه : "  طه ، ما أنزلنا عليك القرآن " .

"    أنزلنا عليك القرآن لتشقى "

ومن المعتاد أن يعيد القارئ كلمة مما قرأ ، أوجملة حتى يصل ما انقطع . إنه فعل هذا ، ولكنه لجهله قلب المعنى وقطعه قطعاً حادّاً ، وغيّره تغييراً كبيراً ، فكأن الله تعالى لم ينزل القرآن على نبيّه الكريم  ، ثم لمـّا أنزله قصد أن يشقي نبيّه بذلك !! . فأسكته الشيخ ، ثم أنهى المقابلة ، وصرفه . ولم يدر القارئ سبب إنهاء مسابقته لأنه لا يفهم العربية ، لقد حفظ القرآن دون أن يفهم معانيه ، وردد آياته ترديد الببغاء  . ووقف وقفة خاطئة .

-  وفي دبي – كذلك – عام سبعة وتسعين وتسع مئة وألف  دخلت سوق بيع الجملة للخضار والفاكهة ، فأدركتني صلاة المغرب هناك . ، فدخلت المسجد في تلك المحلة ، فقرأ الإمام البنغالي في الركعة الأولى أول سورة " المنافقون " .. كتبتها بالرفع على الحكاية ، هكذا علمنا أساتذتنا ..

-  قلت إنه قرأ الآية الأولى  " إذا جاءك المنافقون قالوا : نشهد إنك لرسول الله ، والله يعلم إنك لرسوله ، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " فجعل الكلمتين يشهد ونشهد " نشحد ويشحد " بالحاء بدل الهاء ... قلت لا بأس أن نكون نحن معشر العباد " شـحّادين " أما أن يتصف الله جل شأنه بـ " الشحادة " فمصيبة كبرى  .

واتصلت بمدير الأوقاف إذ ذاك ، ونبهته إلى وجوب أن يكون الإمام ناطقاً للعربية بشكل صحيح ، وأن هذا البنغالي لا ينبغي أن يكون إماماً ، فلم أجد منه أذناً صاغية .

بل إن مدير الوقاف هذا كان منحرف العقيدة – إن صح التعبير - فقد حضرت له خطبة في إحدى الجمع فقال إن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بشراً ، واحتج بقصة مختلقة ما أنزل الله بها من سلطان يقول فيها : إن السيدة عائشة رضي الله عنها حين أرادت أن تُحكم النطاق حول خصره صلى الله عليه وسلم  عاد النطاق بين يديها . فلما نزل من المنبر وصلى بنا الفريضة أخبرته أنه اعتمد قصة مختلقة لا أصل لها ، وتناسى أنه صلى الله عليه وسلم شُج في معركة أحد وانكسرت رباعيته ، وسال دمه ، وأنه صلى الله عليه وسلم يأكل ويشرب وينام ويصحو ويموت . وذكرت له الآيات الدالة على بشريّته صلى الله عليه وسلم ، .. وكأنك تحرث في الماء ، وتزرع في الهواء ، وكان بيننا ما كان .

- أما في عام ألفين وأربعة للميلاد فقد كنت ضيفاً في رمضان على المركز الثقافي الإسلامي في مدينة جنوة الإيطالية ، وصليت وراء الإمام نافلة التراويح ، فقرأ في الركعة الأولى من سورة مريم ما قرأ وأنهاها بقوله تعالى : " وإن منكم إلا واردها ، كان على ربك حتماً مقضياً  " ثم ركع وركعنا ، قلت في نفسي  : سامحه الله ، كيف رضي أن  يتركنا في جهنم دقائق عدة ،  ثم بعد السجود والقيام إلى الركعة الثانية وقراءة الفاتحة أخرجنا منها حين قرأ " ثم ننجي الذين اتّقَوا ، ونذر الظالمين فيها جثيّاً " .. على فرض أننا من المتقين إن شاء الله تعالى !.. هذا دليل على أن الإمام لا يعي ما يقرأ ، ولا يفهم ما يتلو ..

- إن ما ذكّرني بهذه المواقف أنني صليت أمس اليوم الرابع عشر من هذا الشهر الفضيل خلف إمام مسجدنا ، وعهدي به لمّاحاً ذكيّ الفؤاد ، فوقع في المطبّ نفسه حين أنهى الركعة الأولى لصلاة التراويح بقوله تعالى من سورة الصافات على لسان الكفار المستهزئين " أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنـّا لمبعوثون ؟ ! أوَآباؤنا الأوّلون ؟! " ثم ركع وسجد وركعنا وسجدنا معه ، ثم قام إلى الركعة الثانية فقرأ الفاتحة ثم أورد الردّ القاصم الذي كان ينبغي أن يقرأه في الركعة الأولى وهو قوله تعالى " قل : نعم ، وأنتم داخرون  أي خاضعون ذليلون . ... وكان المصلون يتابعونه – على ما أظن- غير مدركين ما يقرؤه ، غير أنهم ربطوا أجسادهم بحركاته : قيامه وركوعه وسجوده يؤدون عملية رياضية ليس غير ، تقبل الله منا جميعاً . 

ما عام ألفين وأربعة وفي رمضان كنت ضيفاً على المركز الثقافي الإسلامي في مدينة جنوة الإيطالية       

أخبار البكـّائين

عيون الأخبار لابن قتيبة الدينوريّ رحمه الله كنز من كنوز الادب والعلم ، كثيراً ما ألجأ إلى رياضه أتجول بين بستان وحديقة ، وقطيفة وأيكة . فما يزال يُمدّني بالحكم والمواعظ والشعر والأدب والفكرة والخاطرة .

قرأت اليوم من إحدى روضات زهدياته ، فأحببت أن أنقل لكم بعض حِكمها وعظاتها :

-   كان زيد الرقاشي يخاطب نفسه قائلاً : ويحك يايزيد ؛ من يصوم عنك ؟ من يصلّي عنك ؟ ومنذا يترضّى لك ربك من بعدك؟ ثم يقول : يا معشرَ مَنِ الموتُ موعدُه ، والقبر بيتُه ؛ ألا تبكون؟ ! .. فيبكي حتى تسقط أشفار عينيه .

-/span>        وكان سيّار بن جعفر يقول : أخوك مَن وعظك برؤيته قبل أن يعظك بكلامه .

-   وتكلم الحسن البصري يوماً حتى أبكى مَن حوله ، فقال: عجيجٌ كعجيج النساء ، ولا عزم ، وخدعة كخدعة إخوة يوسف جاءوا أباهم عشاء وهم يبكون ؟ . ( والعجيج : الصياح ورفع الصوت ) .

-   فقد مالك بن دينار مصحفه في مجلسه ، فنظر إليهم كلّهم يبكون ، فقال : كلّكم يبكي ! فمن سرق المصحف ؟! ...  قرأت ماقاله ، فابتسمت ابتسامة الموافق تعجّبـَه ، فقد  صلينا التراويح في مسجد حينا أمس الأول فلما أردت الخروج لم أجد حذائي ، وهذه ثالث مرة أو رابعها أفقده  . وعدت إلى البيت حافياً .. واشتريت حذاءً يزهد الناس فيه  .

-   قال ابن الحواريّ : رأيت أبا سليمان الداراني يبكي ، فقلت له : ما يبكيك ؟ قال : إنما أبكي لذلك الغمّ الذي ليس فيه فرح ، وذلك الأمد الذي ليس له انقطاع .

-   قال بعضهم : أتيت الشام ، فمررت بدير حَرمَلة ، وبه راهب كأن عينيه عِدلا مزاد ؛ فقلت : ما يُبكيك ؟ قال : يا مسلم ؛ أبكي على ما فرّطْتُ فيه من عمري ، وعلى يوم مضى من أجَلي لم يَحْسُن به عملي . قال : ثم مررت بعد ذلك ، فسألتُ عنه ، فقالوا : أسلمَ ، وغزا ، فقـُتـِل في بلاد الروم .

-   قال ابن الحواريّ : دخلت على أبي سليمان الدارانيّ وهو يبكي ، فقلت : ما يُبكيك ؟ قال : يا أحمد ؛ إنه إذا جنّ الليل ، وهدأت العيون ، وأنِس كل خليل بخليله فرَش أهل المحبّة أقدامَهم ، وجرَتْ دموعُهم على خدودهم ، وأشرف عليهم الجليل فقال : بعيني مَنْ تلذّذ بكلامي واستراح إليّ ، فما هذا البكاء الذي أراه منكم؟ هل أخبركم أحد أن حبيباً يعذّب أحبّاءَه ؟! أم كيف أبّيِّتُ قوماً وعند البيات أجدهم وقوفاً يتملّقونني ! فبي حلفتُ أن أكشف لهم يوم القيامة عن وجهي ينظرون إليّ .

-        قالت الخنساء : كنت أبكي لصخر من القتل ، فأنا أبكي له اليوم من النار.

-   قال عمر بن ذدٍّ لأبيه : يا أبَتِ ؛ ما لك إذا تكلّمتَ أبكيت الناس ، وإذا تكلّم غيرُك لم يُبكِهم ؟ فقال : يا بنيّ ؛ ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة .

-   قال الفضيل لأحد تلامذته وقد أخذ بيده : يا ولدي ؛ كذب مَن الدّعى محبتي وإذا جنّ ليلُه نام عنّي ، أليس كل حبيب يحبّ خَلوةَ حبيبه ؟! ها أنَذا مطّلع على أحبائي ، إذا جنّ الليل جعلتُ أبصارهم في قلوبهم ، مثّلت نفسي بين أعينهم ، فخاطبوني على المشاهدة ، وكلّموني على الحضور .

-   وفي بعض ما أوحى الله إلى نبيّ من أنبيائه : هبْ لي مِن قلبك الخشوعَ ، ومن بدنك الخضوعَ ، ومن عينك الدموعَ ، وادْعُني ، فإنّي قريب .

-        وكان عمر رضي الله عنه يقول : استغزِروا العيونَ بالتذكّر .

-   ومسك الختام قول النبي صلى الله عليه وسلم : " عينان لا تمسهما النار : عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله " .