ولت الشمس مودعة

لوحة أبدع الخالق في رسمها

سليمان عبد الله حمد

[email protected]

كثير من الكلمات والعبارات مثلها مثل الاماكن تبقى حية متقدة فى الذاكرة وفى الوجدان لفترات تطول وتقصر ويجتر ذكراها الناس من حين لآخرمهما تقادم عليها الزمن .وبطبيعة الحال تختلف اسباب بقائها واختفائها من شخص لآخرتزامنا مع ظروف سماعها او العيش فيها (ان كانت من الامكنة ذات السحروالجمال) ومدى ما تحدثه من تاثيرآنى او مستقبلى(حالة كونها عبارات) على احاسيس ومشاعرسامعيها ووجدان متلقييها فضلاعن شخصية وموقع المتحدث فى نفس السامع.

أعجبتني قصة رحلة للأخ الرضي فاستأذنته أن أشارك بها في متاخات الثقافة :

رحلة, لا أقوى من فكرة حان وقتها.

(((1)))

الطريق إلى أبو رقية:

قضينا يوماً مزدحماً بالتجهيز لرحلة قتلنا تفاصيلها بحثاً على مدى أسبوع كامل، فنحن سوف نغادر إلى حيث لا صلة للمكان بالمدينة، إلا بما نأخذه معنا من أدوات تعيننا على العيش في تلك الأصقاع البعيدة، والغائرة في أقصى خارطة البلاد.

ورغم كثرة التفاصيل كان همي الأول هو التأكد من صلاحية وحدة الطاقة الشمسية التي سوف تعمل على تشغيل جهاز الأم بي ثري الذي أحمله معي, ولا أدري إن كانت زحمة العمل الذي ينتظرنا ستسمح لي بسماعه.

خلدنا إلى النوم مبكرين وصحونا أبكر حيث غادرنا في الثلث الأخير من الليل على أن نصلى الفجر خارج العاصمة, ويا لها من متعة أن تصلى في فضاء تلتقي فيه الأرض بالسماء, فيسكن الخاطر، وتسبح النفس في بحور من الصفاء والرضا تكشف للإنسان مدى الفقد الذي تكبدته روحه بسبب طغيان حضارة الزجاج والمعدن على حياته.

واصلنا مسيرنا - بعد الصلاة - مسرعين حتى نغتنم فرصة برودة الأسفلت وخلو الطريق من الشاحنات, الشيء الذي يتيح بعض المتعة ومشاهدة المنظر المحيط الذي تتفتح مشاهده مع انبلاج النور الآتي من شمس لطفت حدتها غلالة من حرير الفجر الناعمة.

يقولون (السرعة قاتلة) وهي فعلاً كذلك, ولكن الإنسان لا يفتأ يغامر ليعيش لحظات إثارة تصارع الملل الذي يجده في حياته, فبعد تخطي عداد السرعة المئة والعشرون ينتفي القلق وتتناغم النفس مع هدير المحرك.

فهل هناك رابط بين مركز القلق في المخ وصريخ المحرك بعد أن تفتح الفونية (وحدة تغذية الوقود في محركات الديزل) لأقصى حد, أم إن المسألة مرتبطة بالشعور فقط, حقيقة لا أدري رغم معايشتي للظاهرة كثيراً في أسفاري المتعددة.

(((3)))

واصلنا سيرنا، وبسبب مباشر من السرعة العالية غيرنا خططنا حيث واصلنا بدون توقف, وكانت تفاصيل الحياة الريفية تتابع أمامنا في أبداع إلهي, اللوحة تلو الأخرى، فمن شجيرات ترتفع لتشكل سقفاً أخضر مزدهر بزهر أصفر، إلى قطعان ومجموعات أنعام تشكل مع البساط الأخضر لوحة أبدع الخالق في رسمها.

يا إلهي كم أنعم الله على الإنسان حين وهبه تلك المخيلة المستوعبة للجمال من حوله, فقد أحسست بدواخلي تنعم بسكينة وهدوء لم أعهده في المدينة وحياتها المتسارعة.

هناك فكرة مجنونة تنتابني كل ما طاولت قمم الشاعرية المنيرة, وهي أن أصبح ومضة تسكن قلب (من أحب)، تفرح بفرحه وتستمتع بنغماته وهو يدق مسارعاً حيناًً, وهادئاً أحياناً.- من أحب) يا لها من حالة أعلم بوجودها ولا أعيشها, فالسياسة قد أكلت عقلي كما يقول أبي، وأفقدتني أي رقة تعطر حياتي التي أحسها جافة إلا من نغمات أعيشها فتسكن روحي إليها كوليد وجد الرحابة في صدر أمه.

هل هو محظوظ من يعيش الحب شلالاً روياً كما يقول الكابلي؟. لا أدري فأنا ما عشت يوماً عشقاً شاعرياً, وكل ما أعشقه هو أن أثير تساؤلاً وأبحث عن إجابته في أضابير المعرفة المتاحة والمتنزلة. لعل الله ادخرني لمستقبل أعيشه بعقلي ولا دخل للقلب في مساره.

ابنة عمي فتاة رقيقة, كنسمة خريف عطرة تغشاك في رقة من قلب حقل نضر, بسيطة بساطة ماء نقي, كانت في صغرها أشبه بوردة يانعة وسط صحراء يغلفها عمي بطبعه العسكري الكاره للرومانسية ومياصة البنات كما يقول, الشيء الذي دعا أبي لإبعادها عنه, وها هو اليوم يبعدها عني, وبقي عمي مع من تصالح مع طبعه من أبناءه الباقين, فهل أجد من تتصالح مع طبعي.

دارت هذه الخواطر في رأسي مزاحمة للوحات الطبيعة على جانبي الطريق الذي أمتد بلا نهاية, وتتابعت الحواضر والأرياف, غرب رفاعة ومسجدها الذي يرحب بك من البعيد, مدني السني وخضرتها اليانعة, الحاج عبد الله التي يجنح خيالك بالتجول داخل بيوتها الأمدرمانية, سنار وعبق تاريخ أحيائها, لم نتوقف إلا في الطريق إلى سنجة, حيث قمنا بزيارة مزرعة عامرة لعائلة أحد العاملين معنا، والذي كان من ضمن ركبنا المكون من ثلاث سيارات من ذوات الدفع الرباعي, والتي نسميها بذوات الجدي لقفزها المتواصل في الطرق غير المعبدة.وكان للاتصال أثره حيث استقبلتنا العائلة المضيفة بالشية والمرارة والكثير من الشربوت, والذي عب منه الجميع بعد خلطه بالمشروبات الغازية, فبعد الوجبات الضخمة يحتاج الإنسان لهاضمة تكفيه شر الشره الذي تسببت فيه نضارة الطبيعة في ذلك الشاطئ البعيد للنيل الأزرق.

الطبيعة هنا غنية غناءً ظاهراً ولكنها لا تعدل الحنين الذي تبثه قري النيل في شمالنا الحبيب, لعل شخصية المكان هي التي تؤثر في مشاعرنا, وإلا لما ملأ شعراء الشمال دنيانا شعراً, الشيء الذي لم يفعله ساكني غنى الطبيعة في الجنوب, ورحم الله حميد حين قال:

لا بي إيدك تمنع قلبي *** ولا قلبي كمان بي ايديا

ودعتنا الأسرة المضيفة في احتفالية تعلم ما نحن مقبلين عليه من مشقة ومواجهة لانفلات أمني في طريق (أبو رقية) حيث ينعدم الأسفلت والأمان, في مسيرة محسوبة ومحمية بواسطة أطواف من الجيش والشرطة.

((8)))

الإندفاعة الأخيرة لعاصمة الإقليم كانت متواصلة, وكان الكل متشوق لأن يغادرها متى يصلها, حتى تتواصل مسألة مفارقة المدنية, ولا ندخل في حالة كر وفر، فالنفس إن عايشت وضعاً ألفته.دخلنا المدينة ظهراً وتوجهنا لاستراحة الشركة التي كانت تمور بالحركة لتجهيز باقي الطوف المغادر معنا, شاحنات عامرة بالتقاوي ومؤن العاملين بالمشاريع, تناكر مواد بترولية, شاحنات مدمجة (شبه عسكرية) لمساعدة العربات التي تنغرز في الرمال أو الطين.

(( 9 )))

لم تتح لنا فرصة للراحة، حيث علمنا بأننا سنغادر فجر الغد, الشيء الذي جعلنا نراجع كشوفات الحمولة, وجاهزية العربات لرحلة في طرق وعرة ومليئة بمجاري المياه، والوديان ذات الأرض المرنة.واصلنا العمل والمراجعة دون كلل لأن كل ذلك يجب أن يتم قبل آخر ضوء, وفي أثناء عملي تقدم منى العم عبد الرحمن - وكنت قد تعرفت إليه حين حضوره للعاصمة للاستشفاء – وقال لي شحنت لك سرير ختري, وحين استفسرت عن مواصفات مخدعه المرعب هذا, قال لي هو عنقريب وأربعة براميل, ويتم استخدامه للنوم وسط المزروعات في حالة ما كان المعسكر - في المشاريع الطرفية - مستهدفاً من الشفتة.شكرته وتذكرت مقولة طه حسين الشهيرة: (المثقف الحقيقي هو كل من يحسن التعايش مع محيطه, وليس الأمر متعلق بتحصيل العلوم), ويا لها من ثقافة (مشاريع طرفية, شفته, سرير ختري...

(((10)))

ولت الشمس مودعة, وكذلك قوانا المنهكة بسبب السفر والعمل, صلينا المغرب وانتظرنا آذان العشاء بآخر نفس حيث غرقنا في نومة أظنها بدأت أثناء الصلاة, فقد ظللنا في حركة دائبة مدة ستة عشر ساعة متواصلة.استيقظت مبكراً, وخلدت إلى تفكير جدي - ساعدني عليه الهدوء الذي يلف المكان – حول أمانة التكليف ونشر ثقافة: (السيطرة على الروح), و(التحكم في القدر), و(الخيرية على المجتمعات المجاورة), وهل في الإمكان ذلك والعمر محدود, عليَّ أن أعمل جهدي راجياً توفيق الله سبحانه وتعالى.قدموني للصلاة فقرأت عليهم آيات سورة السجدة، التي تقول بأن الروح نفخت في آدم وهو حي يرزق، وأن لا علاقة مباشرة للروح بالحياة والموت؛ وكما هي العادة لم تحرك فيهم الآيات ساكناً فقد تعامل معظم المسلمين منذ زمان بعيد مع آيات القرآن الكريم، كدابة تحمل كتاباً لا تدري ما بداخله.

(((11)))

بدأنا مسيرنا على ضوء السيارات فقد صلينا الصبح بغلس لم نمكث بعده كثيراً, وسرنا ببطء شديد بسبب انضمام شاحنات التقاوي منخفضة السرعة, ولكن الطبيعة الجميلة التي بدأت تشف عنها أشعة الفجر الناعمة, جعلتنا نتناغم مع المنظر المحيط.قال لي مرافقي عثمان: "منظر يرد الروح". انتهزت الفرصة وقلت له: نعم ولكن هل تعلم بأن الروح ليست سبب الحياة, ولا علاقة لها بالموت, فالروح هي التي تحس بالجمال, وتتلقى الفيوض الرحمانية، والوسوسة الشيطانية، فنظر إلي باستغراب وقال لي: إن كانت الروح ليست سبب الحياة, فلماذا يموت الإنسان حال مغادرتها للجسد؟!.فقلت له لعلك لم تنتبه لآيات سورة السجدة التي قرأتها عليكم في صلاة الفجر اليوم, فقال: بل أحفظها عن ظهر قلب، فقلت له أقرأها علي, فقرأها فأوقفته عند الآيات: ((وَبَدَأَ خَلْقَ ظ±لإِنْسَانِ مِن طِينٍ)) * ((ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ من مَّآءٍ مَّهِينٍ)) وقلت له: " هذه الآيات تقول بأن الإنسان بدأ خلقه من الطين، وصار كائن حي ومتناسل ذو سلالة … بدليل (جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ).ثم طلبت منه أن يواصل فقرأ: ((ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ)) وقلت له: هذه الآية تقول بأن ذلك الكائن (الحي المتناسل), تم استعداله (سواه) ليقف على قدمين, ونفخت فيه روح كان (حياً) من قبلها.أحسست بعثمان ينكمش بعد أن تحفز ليلجمني عبر ما يحفظه من تفسير (ابن كثير) للآية 34 من سورة البقرة، وقصة خلق آدم من ذلك التمثال الطيني الشهير، دام الصمت بيننا لعدة دقائق قال لي بعدها, كأنما أسمع هذه الآيات لأول مرة, فقلت له هكذا أرادنا الشيطان, دواب تحمل كتاباً تنال بموجب حمله الجزاء، ولا تفقه ما بداخله.

(((12)))

صمتنا متابعين لمنظر نسوة يحملن أدوات قطع القش في الطريق إلى عملهن, فغيرت الموضوع سائلاً, كم مرة وقعت في الحب يا عثمان, فأجابني: كثيراً, فسألته: وماذا كنت تفعل، فقال: لا شيء أقرأ سورة يوسف, فقلت له وهل تقرب إليك المحبوبة, ضحك وقال نافياً: لاااااااااااا بل تشفيني مما بي، ضحكت وقلت له مازحاً: لو علم ناس الخرطوم وصفتك هذه, لما تزوج أحد منهم.ضحك عثمان طويلاً وسألني: هل المرأة عندكم شريرة إلى هذا الحد؟. فقلت: لاااااااا ولكن تبعات الزواج في العاصمة كثيرة ولا تنتهي. تواصل الطريق متعرجاً بسبب كثافة الغطاء الشجري في المنطقة, وحكى لي عثمان عن سفرياته السابقة للمشاريع. وعن الحياة في المعسكرات وكيف إن الحياة فيها بدأت تختلف عن ما كانت عليه في الماضي.

((( 14 )))

واصلت التفكير في اتجاه المواهب البشرية، ومسئولية الدولة تجاهها، وكذلك الفرق بين الطموح والحاجة, واحتيال الإنسان المستمر في تبديل الطموح لحاجة, وذلك بهدف التكسب غير المشروع، وضد المصالح الوطنية.وأخذت أعدد، سكنى المدن طموح، والطعام حاجة، التعليم طموح، العلاج حاجة، الثروة والسلطة طموح، والعمل حاجة، وبنظرة سريعة نجد إن الطموح يحتاج لموهبة تدعمه, والحاجة يجب أن تتوفر للجميع بدون فرز، كما أن الطموح يحتاج موارد لا قبل لدولة بها, والحاجة تحتاج فقط لتنظيم إداري، تدعمه موارد الطموح.ولكن عندما تختلط الأمور بسبب الرعونة السياسية, تنقلب الموازين وتصبح متطلبات الحاجة أغلى وأثمن من متطلبات الطموح, فالتعليم مجاني، وجوال الذرة بمئة دولار, ارض السكن في المدن (عشوائي) مجاناً، وزراعة حواشة بملايين تسبب الإعسار.مرت بي هذه الخواطر وأنا أتذكر شهراً من المتعة، قضيته في مأمورية عمل في مزرعة بقرية بشرق النيل الأزرق، حيث اكتشفت إن هؤلاء الناس – ما شاء الله ألف مرة - عايشين بلوشي, وبروقة بال يحسدهم عليها أتخن مليونير عاصمي, والسبب توفر الحاجة من عمل وسكن وقوت.

(( 15 )))

انتزعتني من خواطري جلبة غير مسموعة فألتفت, وليتني لم أفعل، فقد احتضنت عيناي سراً أفاض عليّ قدر من السعادة والعلو, حتى رفرفت روحي فوق المكان، ترى كل شيء ولا ترى سواها, كانت في الرابعة عشرة من عمرها كما علمت فيما بعد، ولكنها فعلت بي الأفاعيل, كل هذا حدث في ومضة من الزمن, كشذا ورد يفاجئك من وراء جدار. وأنت سادر في مشيك تفكر في البعيد.شذا زهر ولا زهر, وسُكر ولا سُكر، تلك كانت ابنة مسئولة المطبخ - من أم إثيوبية وأب إيطالي, وقد انضمت أمها للسفرية لزيارة أهل لها في طريقنا، فأقترح عليها المدير أن تدير مطبخ الكونفوي وتستفيد من البدلات السفرية.كان الطعام تقليدياً ولا يتناسب مع الملاك الذي أحضره, خبز وعدس وسلطة ستنقطع عنا حال توغلنا باتجاه المشاريع، ولكنها كانت مائدة عامرة بالنسبة إلي, ترى من أين أمسكت الصحن, وهل أحظى بحبة عدس لامست يدها, الاستحواذ كان كاملاً فهل ألجأ إلى وصفة عثمان لكي تطلق أساري، ليتني أفعل ولكن لا أظن أنني فاعل فللعشق لذته.

((( 16 )))

واصلنا سيرنا ولكن بروح جديدة بالنسبة إلى، فقد أحسست بنفسي, أطوف فوق الركب بجناحي ملاك حارس, يا الله ماذا ألم بي, كأنما انفصلت روحي عن جسدي، تجوس خلال الركب تبحث عن من زلزل كيانها، وصرت مشتعلاً بهوى يصادق الألم, ويصارع المستحيل ليخترق السماء كما الشهب، وكيف لا وقد ألمت بي قوة طاغية لن تقنع بأقل من السماوات سكناً والنجوم موطناً.والعجيب على الرغم من كل ما أحدثته تلك المفعوصة بي, إلا أنني لا أذكر شيئاً من تفاصيل وجهها أو لون شعرها أو درجة امتلاء جسدها, كأنما اقتحمتني موجة راديو لتقلب كياني وكفى.

17-

عثمان شعر بما ألم بي, فقد حكي لي حين جاءت سيرة القهوة المميزة التيأعقبت الفطور، كيف إن أمها حضرت قبل خمسة عشر سنة, وقالت جملة واحدة للمدير فعينهاعلى الفور.وكانت الجملة, ".. زوجي توفي وأريد أن أربي طفلي القادمبالحلال", ولهذا السبب تعتبر سارا, أو جزيل كما تدعوها أمها ابنة الكل, فقدفرضت أمها احترامها وأخوتها على الجميع, واشتهرت بالصدق والأمانة لدرجة حرمانأبنتها من معلقة سكر بعبارتها الشهيرة (عيب ده حق ناس).فقلت لعثمان: إن هذه المرأة حققت مقصد إسلامي كبير, وهو التحكم فيالقدر من خلال العمل الصالح , فالقدر في الإسلام ليس أعمى , ولكن الطغاة أرادوهكذلك حتى يقنعوا العامة بأن فسادهم هو قدر لا مفر منه.وواصلت قائلاً: ولعل أول من ابتدع سيطرة القدر على الأحداث همالأمويين, فبعد تنكيلهم بآل بيت النبي وطوافهم ببناته سبايا من بلد لآخر, أرادواأن يوهموا الناس بأن القدر هو المسئول عن كل ما حدث.وهذا خطأ كبير لأن القرآن الكريم أخبرنا بأن القدر يسير وفقاً لمسيرةالشخص, قال تعالى: ((مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىظ° وَهُوَمُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً))، ومن الجهة المقابلة قالتعالى عن الأشرار: ((وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةًضَنكاً)), لاحظ حروف التأكيد في الآيتين.صمت عثمان ولم يعقب بسوى: فعلاً هناك توفيق إلهي في نبوغ سارة، ومنسلسلة تجارب كثيرة، أستطيع أن أقول بأن القدر ليس أعمى.

واصلت قافلتنا مسيرتها كثعبان مثقل بفريسة ضخمة ابتلعها للتو، وبتوغلنا جنوباً زادت كثافة الغطاء الشجري وكثرت المنحنيات بحيث لم نعد – في أحيان كثيرةنرى العربة التي أمامنا, الشيء الذي دفع السائقين إلى استخدام آذانهم لكي يعلموا طبيعة الأرض التي تمر عليها العربة التي أمامهم، فإن علا صريخ المحرك علم أن المنحنى يحوي أرض مرنة وعليه الاستعداد لها حتى لا تنغرز دواليبه في الأرض.أما أنا فبقيت على حالي بعد ومضة هيروشيما، متمثلاً أبيات محمد سعد دياب:

إني أراك كأنما لم نفتــرق أبداً ..... ولا شطّ المزار

ثوانــــــي

تبقي حضوراً صادحاً في خاطري .... فعسى ألاقي مقلتيك عســـــاني

قدر بأن ألقاكتذهل أحرفي .......... وجوارحي قدر بأن تلقــــاني

قدر, ويا له من قدر سخر مني حتى بانت نواجذه, أنا المسمى بفارس الحديد، وقلب الحجر أيام الجامعة، وفي العمل حيث الحسان بلا عدد, أسقط مجندلاً في مسيرة لا تحوي سوى امرأتين إحداهن في عمر الوالدة, وصدق من قال: (يطلع لي أسد.

((( 19)))

انتزعني عثمان من خواطري، التي أخذت تتجه نحو اللا منتهى متسائلاً بلامقدمات: ".. هل هناك مسائل أخرى في القرآن الكريم خفيت علينا غير خلق آدم،والتحكم في القدر".فكرت ملياً، أممممممممممم براك سويته في نفسك يا زول، سوف (أبراك) بريةترتسم على جبينك فلا تنساها.ولكن عليَّ أن أكون حذراً، فأصنام الطغيان قد إنغرست – في المجتمعالإسلاميبعمق ألف وثلاثمائة عام ونيف، وصارت كسفود مسنن بآراء تقدست قداسةالكتاب والسنة، ومن هنا فانتزاع هذا السفود مباشرة عمل مؤلم, وعليَّ أن أعطيهالأدوات لينتزعه هو, وليكفني الله شر قتال مسلم.استعدلت في جلستي لأواجهه وقلت له: ".. الإسلام يا عثمان (تعاليمه)بسيطة جداً وميسرة, وهذه البساطة والتيسير تقتضيها مسألة عقاب كل من لا ينصاع إليهذه (التعاليم)، فلا يعقل أن يحاسبنا الله على منهج عاصي على الفهم, أو متضارب في تعاليمه,كما هو الحادث في النصوص الفقهية اليوم، ثم يعذبنا بنار تتبدل فيها الجلود معالتخليد.ثم واصلت قائلاً ".. هل تصدق يا عثمان أن الإسلام الذي أقمنا لهالجامعات، والدراسات فوق الجامعية, وقسمناه إلى مذاهب, وقدمنا الجوائز والأموال لشيوخه،يقوم على ثلاثة عقائد بسيطة ومفهومة لكل من ألقى السمع وهو شهيد (أي حاضر بعقلهوقلبه) وهي:1/ عقيدة توحيد تربط حركاتك وسكناتك بالله سبحانه وتعالى، وذلك عبر:إذا دعوت فأدعو الله، وإذا استعنت فاستعن بالله.2/ عقيدة عبادة بسيطة ومعلومة تنقي روحك، وتكسبك القيم فالصلاة تنهىعن الفحشاء والمنكر، والزكاة تطهرك ومالك، والصيام يكسبك التقوى.3/ عقيدة (خلافة للرسول) تم تفويضها للشعب المسلم - في كل زمان بعدالنبوةلتوحد معطيات الدين, والقرار السياسي في الأمة, وذلك عبر شورى لا عزلفيها لأحد، وانتخاب ولاية أمر شرعية تحت شروطنا (دستورنا) في ديمقراطية بالباب.وعلى هذا الأساس على المسلمين اليوم – حتى ولو على مستوى قطري - أنيعملوا على قيام ولاية شرعية منتخبة كما أمر الله سبحانه وتعالى، (تنقي الدين) منتلك التعقيدات التي تسببت فيها المؤسسة الفقهية, وحفلت بها كتب العقيدة والفقهوالتفسير، والتي جعلت الدين عصياً من غير شيوخ وشروح, فضلاً عن التضارب الذي تسببتفيه الفتاوى الباطلة، والرأي الفاسد، والحديث الموضوع، والتي يذخر بها موروثالمؤسسة الفقهية؛ أخخخخخخخخخخ لكشرتك.