تمركز التفوق
لم تعد نتيجة إمتحانات الشهادة السودانية سرآ يصعب التكهن بشأنه كما في الماضي. فقد باتت كل الأوساط تؤكد أن الطلاب المتفوقين بما فيهم الأول والمدارس المتفوقة ستكون من الخرطوم.
يقول المواطن محمد علي الذي كان ضمن الذين إستطلعتهم قبل إعلان النتيجة إنه يتوقع أن يكون الأول من ولاية الخرطوم، ويعزي ذلك إلي وجود الكوادرالمؤهلة من المعلمين وإنتقال الذين في الإقاليم إلي مركز الخرطوم لعامل الجذب الموجود بعد أن دخل التعليم ضمن الإستثمارات المجزية.
ولم تذهب صفاء الماحي وهي خريجة حاصلة علي درجة الماجستير بعيدآ عن ما قاله محمد، فقد قالت واثقة إن أول الشهادة سيكون من الخرطوم وجل المتفوقين والمدارس التي تذاع ساعة إعلان النتيجة.
وأضافت" كل التسهيلات والمدارس الخمسة نجوم موجودة بالعاصمة".
ماريو بيتر بوجالي
وبالنظر قليلاً إلي الوراء قد لا يصدق غالبية الجيل الحالي أن أول الشهادة السودانية في عام 1965 كان من مدرسة رمبيك الثانوية في أقصي جنوب السودان. فالطالب حينها ماريو بيتر بوجالي قد أحرز هذا التفوق الكبيرعندما كانت البيئة الموجودة في المدارس متساوية وكان المعلمين يتنقلون في أقاليم السودان حسب التوزيع القومي الذي يصدر في ذلك الوقت دون التمركز في منطقة واحدة.
وهناك قصة طريفة حكاها أول الشهادة السودانية للعام 1964 الذي كان من مدرسة خور طقت الثانوية في مدينة الأبيض. فقد أكد محمد أحمد الشيخ أنه لم يعرف أنه الأول إلا بعد شهرين من ظهور النتيجة وذلك لعدم توفر الراديو في القرية التي ينحدر منها في كردفان. وقال في مقابلة أجريت معه في وقت سابق" أنه أصيب بالدهشة عند دخوله للمدرسة، فقد قام الأساتذة والطلاب وخرج الناظر من مكتبه مستقلبين له وهو لا يعلم ما قدمه لمدرسته من فخر وعرفان منذ شهرين". وقد كانت مدرسة خورطقت وحنتوب الثانوية بودمدني وعطبرة الثانوية ووادي سيدنا وكوستي الثانوية وبورتسودان الحكومية من المدارس التي قدمت متفوقين في إمتحانات الشهادة السودانية في الزمن الماضي.
أما مدرسة الفاشر الثانوية فكانت علي مدي إحدي عشر عاماً تحرز المركز الأول في إمتحانات الشهادة الثانوية علي مستوي السودان وكان معظم طلابها يدخلون كليتي الطب والهندسة بجامعة الخرطوم، حتي إشتهرت كلية الهندسة في تلك الحقبة وسط الطلاب بإسم الفاشر الثانوية الجديدة.
تلك الأيام أخذت منعطف آخر في السنوات الأخيرة فالناظر إلي قائمة المدارس والطلاب الأوائل في إمتحانات الشهادة الثانوية منذ العام 1960 وحتي العام الحالي يجد أن تنوع الأقاليم والجهات التي ينتمي إليها هؤلاء الطالب قد طرأ عليه تغير كبير خلال هذه السنوات، فقد أصبحت الخرطوم هي المسيطرة علي هذه القائمة الآن.
تدهور الأقاليم
تقول فاطمة أحمد نورالدين، المشرف التربوي بوزارة التربية و التعليم في ولاية شمال كردفان والتي عملت لأكثر من ثلاثين عامأ في مجال التدريس إن الأسباب وراء تدهور التعليم في الولايات والضعف الذي حدث في المستويات الأكاديمية يعود إلي عدم التدريب الجيد للمعلمين والذي إنعكس سلبآ علي إستيعاب التلاميذ زائدآ تدهور البنية التحية والبيئة المهيئة بالمدارس. وتضيف قائلة" المدارس في بداية عملنا كانت مدارس مؤسسة وبنيتها جيدة، والمعلم مدرب والكتاب متوفر بالنسبة للتلاميذ وعدد التلاميذ مناسب جدآ بالنسبة للمعلم مما يختلف كثيرآ في الوقت الحاضر".
وتعزي فاطمة تمركز التفوق الذي حدث في نتائج الشهادة السودانية في ولاية الخرطوم في السنوات الأخيرة، إلي المقدرة المالية للأسر الموجودة في الخرطوم والدعم الذي تتلقاه المدارس الخاصة من الجهات التي تملكها في تهيئة الجو المناسب للطالب في شتي مطلوبات العملية التعليمية التي يأتي علي رأسها إستقطاب الأساتذة المتميزين ومنحههم دخول عالية. وتضيف قائلة" نجاح الخرطوم ليس معناه أن أولادنا في الأقاليم أقل مستوي أو أقل ذكاءآ من أولاد الخرطوم ولكنه نتاج للمعاناة الموجودة الآن".
وعلي عكس الوقت السابق الذي كان فيه أبناء الولايات يتواجدون في كليات مرموقة ذات نسب عالية مثل كليات الطب والهندسة في جامعة الخرطوم وجوبا والجزيرة، الآن ربما تمر سنوات ولا يدخل أحد من أبناء تلك المناطق خاصة الطرفية هذه الكليات.
ففي الماضي كانت دارفور وكردفان من الولايات التي يتواجد أبنائها بصورة ملحوظة في كلية الطب والهندسة في جامعة الخرطوم عندما كانت الجامعة في أوج مستواها الأكاديمي وتميزها الذي غطي الآفاق.
علي سبيل المثال من أبناء دارفور الذين إلتحقوا بكلية الطب بجامعة الخرطوم في ذلك الوقت وأصبحوا من الأطباء المتميزين، بروفسور سليمان صالح فضيل استاذ طب وجراحة الجهاز الهضمى وصاحب مستشفي فضيل بوسط الخرطوم، المهندس محمود بشير جماع والمهندس علي يحي وهو من السودانيين الذين عملوا بالقمر الصناعي عربسات منذ التأسيس وهو من خريجي قسم الكهرباء بجامعة الخرطوم.
يقول عبدالله آدم خاطر الكاتب الصحفي المعروف إن فترة السبعينات شهدت نبوغآ وتفوقآ واضحآ لأبناء دارفور عندما كان التعليم متاحآ لكل الناس بصورة متساوية، قبل أن يكون التعليم الخاص واحدة من الوسائل لترقية القدارات الشخصية. ويضيف قائلآ "إن عدم الإستقرار الإجتماعي والنفسي والسياسي كان لها التأثير الأكبر علي مجمل العملية التعليمية في دارفور".
وفي الغالب لم تختلف الأسباب التي أدت إلي تدهور التعليم من ولاية إلي أخري خاصة في الأقاليم التي يطلق عليها أسم مناطق الهامش.
وقد أفاد ياي جوزيف، الكاتب الصحفي في وقت سابق إن إندلاع الحرب في الجنوب خاصة بعد عام 1983 أدي إلي إضطراب أسري أثر بدوره في عملية التعليم. وأضاف قائلآ" هذا الوضع أفرز نتائج تركت آثارآ سالبة علي مرتكزات التعليم فعدم توفر الكتاب المدرسي وإختلاف المنهج ولغة التدريس بين الإنجليزية والعربية أفقد الطلاب الأرضية التي يمكن أن تدعم قدراتهم في التفوق مثلما حدث بعد إتفاقية إديس أبابا ".
ويمضي في حديثه قائلآ" حتي الطلاب الجنوبين الذين نزحوا إلي شمال السودان لم يجدوا المناخ الأسري والإستقرار المادي المطلوب للتفوق".
والآن هذا الوضع ينطبق بصورة كبيرة علي مناطق النزاع في جبال النوبة والنيل الأزرق.
ما بعد الشهادة الثانوية
خالد، من طلاب الولايات وهو من الذين دخلوا إلي الجامعة بنسبة أقل من الطلاب الذين أحرزوا درجات عالية وإلتحقوا بكلية الهندسة التي درس فيها. ولكن الأمر تغير بالجامعة فقد أظهر خالد تفوقاً كبيراً وتخرج بإمتياز وفي مقدمة دفعته. وعزي خالد هذا التحول إلي تساوي البيئة الدراسية داخل الكلية وهي عكس الظروف التي مرت بهم في إمتحانات الشهادة الثانوية ومنها عدم وجود معلمين مدربين جيداً وشح في الكتاب المدرسي وتأخير في إكمال المنهج وإنقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة عن المدينة التي أمتحن فيها.
وقد أرجع الدكتور "جبارة محمد جبارة" رئيس قسم علم الاجتماع والانثربولوجيا والخدمة الاجتماعية بجامعة النيلين في حديث سابق للصحفي محمد عبدالباقي بجريدة المجهر، أسباب هذا التباين في المستويات واختفاء المتفوقين بمجرد دخولهم الجامعة، إلى أن المتفوقين في الشهادة الثانوية لا يستطيعون الاستمرار بذات التفوق عندما يصلون المرحلة الجامعية، فالطالب المتفوق في المرحلة الثانوية يكون في سن دون النضوج، لذا كثيراً ما تطرأ عليه تغييرات عندما يبلغ سن النضوج، ولهذا يختلف تحصيله المعرفي تبعاً للمرحلة العمرية الجديدة. وأضاف د. جبارة قائلاً: "هؤلاء الطلاب يكونون عادة متفوقين نتيجة لتلقيهم دروساً خصوصية مكثفه، بجانب دعم ومساندة الأسرة، لذلك نجد أن كثيراً من المتفوقين ليسوا أذكياء بالصورة التي تجعلهم يتفوقون على أقرانهم، ولكن الظروف المحيطة بهم ودعم الأسرة لهم جعلهم يحققون درجات أعلى ممن لم تُتح لهم ذات الرعاية الأكاديمية والأسرية".
ولكن في الجامعة يكتشف الطلاب الأوائل أن مثابرتهم في المرحلة الثانوية ليست لها علاقة بالمرحلة الجامعية لعدم ترابط المناهج وتسلسلها، ودخول عوامل أخرى كعامل السن والنضج والبيئة وغيرها.
خاتمة
رغم التوصيات المتكررة لعدد من الخبراء بمراجعة الظروف الحالية للعملية التعليمية ومخرجاتها بجانب الإعتراف النسبي من وزارة التربية والتعليم بالمشكلة إلا أنها مازالت تجدد الوعود بالحل. ولكن في الواقع يزداد الفارق بين المدارس النموذجية والخاصة بالعاصمة الخرطوم وبقية الأقاليم يوماً بعد يوم.
وسوم: 642