خواطر من الكون المجاور الخاطرة 64: التقمص (الجزء 3)
في الجزء اﻷول من موضوع التقمص ( الخاطرة 62 ) ذكرت أن هذا الموضوع من الغيبيات وأنه ليس هدفي إقناع الجميع بصحة هذه الفكرة، ولكني فقط اكتب بعض ما توصلت إليه في أبحاثي بخصوص هذا الموضوع لمحاولة تفسير العديد من الظواهر ( ذكرتها بشكل مفصل في الجزء 1) بعضها سمعنا عنها وبعضها حدثت معنا وعشناها وجعلتنا نشعر بشيء غريب دون أن نستطيع إعطاء تفسير واضح لما شعرنا به.
المشكلة في هذا الموضوع هو أنني أعرضه بطريقة فلسفية ،أي اني أبحث في عناصره من زوايا عديدة مختلفة ﻷحصل في اﻷخير على رؤية شاملة توضح حقائق هذا الموضوع. ولكن من طرف آخر هناك نسبة كبيرة من القراء هم مسلمين و ينتمون إلى مذهب السنة ، وحسب رأي معظم علماء هذا المذهب بأن الدين اﻹسلامي يعارض فكرة التقمص ودليلهم على ذلك هو بعض اﻵيات القرآنية والأحاديث الشريفة التي تتكلم عن يوم القيامة. فهناك فعلا آيات وأحاديث عديدة تتكلم عن يوم القيامة وبعضها إذا ركزنا في معناها الحرفي سيبدو لنا أنها تعارض فكرة التقمص. وأنا لا أستطيع أن أذكر كل آية وكل حديث ﻷفسره بشكل مفصل لإثبات أنه لا يعارض فكرة التقمص ، فهذا سيحتاج صفحات عديدة جدا ستجعل القارئ لا يستوعب المفهوم الحقيقي للتقمص ،فالمشكلة التي أقصدها هي أن القراءة السطحية لهذه اﻵيات واﻷحاديث بدون ربطها مع بقية اﻵيات التي تتكلم عن نفس الموضوع ستجعل من هذه الكتب المقدسة كتب ضعيفة لا يمكنها متابعة تطورات العلوم المادية والروحية للإنسانية وستجعل الدين اﻹسلامي يبدو وكأنه دين رجعي متخلف يحارب البحث العلمي وتطور العلوم سواء كانت علوم مادية أو فكرية ، بينما تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم تعارض هذا المنطق حيث يذكر الحديث الشريف ( إطلبوا العلم ولو كان في الصين ) فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يذكر بلاد الصين بالذات صدفة ولكن بحكمة إلهية. فإذا تمعنا في كلمات هذا الحديث الشريف سنجد إنه حديث يحمل في داخله المغزى الحقيقي لولادة العلوم ، فأهم ما في العلوم الصينية هي فلسفتها الفكرية التي تحاول تطبيقها على سلوك اﻹنسان ، فالطب الصيني والعمارة الصينية وغيرها من العلوم الصينية لها قاعدة فكرية مختلفة عن قاعدة العلوم الغربية ، فالعلوم الصينية تعتبر قاعدتها فكرية روحية أما العلوم الغربية فلها قاعدة فكرية مادية. لذلك ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه بلاد الصين بدل إسم إي بلد أوروبي ، ﻷن الهدف الحقيقي للعلوم هو تطور فكر اﻹنسان الروحي وليس المادي ، ﻷن اﻹنسان أصلا هو كائن روحي. اﻵن إذا تمعنا جيدا في منطق العلوم الصينية أو بشكل عام في منطق علوم البلاد الشرقية نجدها جميعها تعتمد على قاعدة واحدة لها علاقة متينة بالتقمص وهذه القاعدة تقول بشكل مبسط ( إن أسباب مشاكل ومعاناة اﻹنسان في حياته هو وجود شوائب شيطانية في روحه لذلك فإن أهم أهداف حياته هي التحرر من هذه الشوائب من أجل الوصول إلى الصفاء الروحي ) . هذا المنطق أتى بشكله الفلسفي من اﻹيمان بفكرة التقمص. فالتقمص بالنسبة لهذه الشعوب ليست فكرة دينية بقدر ماهي فكرة فلسفية تسيطر على جميع نواحي النشاط الفكري لعلماء هذه الشعوب. الدين اﻹسلامي عند ظهوره لم يتكلم عن التقمص ، ولكنه تابع على نفس مبدأ الدين المسيحي ، لأن الدين اﻹسلامي سيصل في المستقبل إلى تلك المناطق التي ستفصل بين البلاد الشرقية عن البلاد الغربية. لذلك ظاهريا من ناحية موضوع التقمص بقي بعيدا عن هذه الفكرة لتبقى فكرة التقمص بعيدا عن الشعوب الغربية لتستطيع القيام بدورها الكامل في تطوير العلوم المادية ، ولكن الحكمة اﻹلهية تركت بعض اﻵيات القرآنية التي تحمل في معانيها فكرة التقمص لتستطيع في المستقبل التوحيد بين العلوم الغربية والعلوم الشرقية من أجل الوصول إلى علوم شاملة ترى اﻷشياء واﻷحداث من جميع زواياه. للأسف هناك بعض علماء الدين اﻹسلامي يحاولون تفسير اﻵيات القرآنية واﻵحاديث الشريفة بطريقة تجعل الدين اﻹسلامي وكأنه دين لا يمت بصلة ﻷي ديانة أخرى حتى الديانات السماوية ، فيبدو فيها إله الدين اﻹسلامي وكأنه إله مختلف نهائيا عن إله موسى أو إله عيسى ، وذلك من أجل أن يجعلوا من الدين اﻹسلامي وكأنه هو الدين المختار الوحيد فقط ،وأن الديانات اﻷخرى جميعها من الشيطان الرجيم. وللأسف هذا النوع من العلماء الذين يفرقون بين الديانات بشكل متعمد، هم من لعبوا الدور اﻷكبر في تحريف معاني القرآن واﻵحاديث الشريفة وجعلوا منها كتب معلوماتها ذات معاني سطحية لا تنفع ولا تضر مما أدى إلى دخول الشعوب اﻹسلامية في عصور اﻹنحطاط. يكفي أن أذكر هنا أنه هناك طوائف عديدة في الديانات السماوية الثلاث ( اﻹسلامية والمسيحية واليهودية ) تؤمن بفكرة التقمص ، وهذه الفكرة لم يأتوا بها من ديانات أخرى ولكن من فهمهم لآيات كتبهم المقدسة نفسها. معظم الديانات القديمة كانت تؤمن بفكرة التق مص ، وهذه الديانات لم تكن ديانات كفر وسوء ولكنها كانت ديانات تدعو للخير والبر ، كما يقول الله عز وجل ، (... وإن من إمة إلا خلا فيها نذير ) . معظم العلماء والفلاسفة الذين لعبوا أدوارا هامة في ولادة و إزدهار الحضارات وتطور العلوم والمجتمعات، كانوا يؤمنون بفكرة التقمص ، فولادة الحضارات وإزدهارها - كما سنرى بعد قليل - يحمل في داخله فكرة التقمص. اﻵن لنعود إلى توضيح مفهوم التقمص بشكله الفلسفي لنستطيع فهم حقيقته بشكل تطبيقي ، وسنحاول شرح مفهوم التقمص على ناحيتين، التقمص على مستوى الفرد ،والتقمص على مستوى الشعوب : - التقمص على مستوى الفرد : في المراحل اﻷولى في تاريخ اﻹنسانية ( العصر الحجري ) عندما كانت حياة اﻹنسان بسيطة جدا، كانت مستوى المميزات (الصفات الخارجية ، المقدرات الشخصية ) عند الناس متشابهة جدا في فترة الطفولة ، فكل طفل كانت مؤهلاته العقلية والجسدية تسمح له أن يكون - مثلا - زعيم المجموعة ، ولكن الشخص الذي سيصل إلى هذا المنصب، هو ذلك الذي سيضعه كهدف في حياته ، وطوال فترة نموه سيحاول أن يقوي جسده ومهاراته ليستطيع عندما يكبر أن يفرض نفسه على بقية أفراد المجموعة . فإذا كان هدفه من هذا المنصب هو تحقيق إشباع شهواته الحيوانية ليتحول إلى زعيم ظالم يؤمن لنفسه كل شيء ويحرم بقية أفراد المجموعة من كل شيء بعد وفاته عندها سيحاسبه الله على كل عمل سوء قام به ، فيولد بعد مئات السنين بجسد ضعيف وفي عائلة ذات مكانة منحطة في المجموعة تجعل الجميع يستخدمونه ويستغلونه كما فعل هو باﻵخرين. فيتعب ويشقى ويعاني من العذاب من أجل تأمين لقمة طعام بسيطة ، فإذا رضي بأمره وتابع حياته وهو يؤدي عمله وواجباته بقدر ما يستطيع من أجل أن يؤمن إحتياجات عائلته وأولاده ، عندها بعد وفاته بمئات السنين يسامحه الله على حياته الماضية ويجعله يولد في عائلة سعيدة تضمن له معظم إحتياجاته. ...اﻵن لنعود ثانية إلى المرحلة اﻷولى ، أما إذا كان هدف الشخص الذي أراد أن يكون زعيم المجموعة هو تحقيق المساواة بين أفرادها وكذلك تأمين حمايتها لتعيش بسلام وسعادة ، فعندما يموت هذا الشخص يكافئه الله على أعماله الصالحة التي قام بها من أجل اﻵخرين عن طريق ولادته بعد مئات السنين في عائلة حاكمة أو عائلة ذات مكانة عالية في المجتمع تسمح له الشعور باﻷمان والسعادة من كل شيء حوله منذ ولادته ، فإذا إستغل هذه النعمة هذه المرة في سبيل تحقيق شهواته ونزواته عندها بعد وفاته سيكون محور تطور روحه إلى اﻷسفل فيولد في عائلة فقيرة تعيسة. .. أما إذا إستغل تلك النعمة مرة أخرى في عمل شيء جديد مفيد ﻷفراد المجتمع ، فطالما أنه كان في حياته اﻷولى زعيما يدير شؤون أفراد المجموعة ،ولديه خبرة في هذه الناحية ، لذلك في حياته الجديدة يبحث عن طريقة تحسن بعض ظروف المعيشة من ناحية أخرى ، فمثلا يحاول إختراع أدوات جديدة تفيد في تحسين شكل وطبيعة المسكن لتستطيع المساكن تحمل الرياح والبرد والمطر ، وبعد وفاته سيكافئه الله على أعماله الصالحة وذلك بولادته بعد مئات السنين في عائلة ذات مكانة عالية في المجتمع تمنحه كل ما يحتاجه في حياته ، فإذا إستغل هذه النعمة في تحقيق شهواته ونزواته فقط دون أن يبحث في معاناة اﻵخرين ، فعقابه سيكون أنه بعد وفاته بمئات السنين أن يجعله الله يولد في بيئة فقيرة تعيسة. ... إلخ ، أما إذا إستغل تلك النعمة على جهتين تحقيق شهواته وكذلك مساعدة اﻷخرين ، فإن جزاءه سيكون بولادته بإمكانيات جسدية متوسط و في عائلة متوسطة الحال... أما إذا كان إستغلاله لهذه النعمة بشكل كبير من أجل مصلحة اﻵخرين والمجتمع ، فذهب وبحث في مجال جديد في حياته يؤمن بعض بعض الحاجات ﻷفراد المجتمع ،مثلا تأمين الحاجات الصحية لهم عن طريق إكتشاف طرق أو أعشاب تخفف آلام بعض اﻷمراض وشفائها . .. عندها سيكافئه الله بعد وفاته بنفس الطريقة سيولد في عائلة راقية غنية تعطيه الفرصة ليفعل ما يشاء . ... وبعد عدة ولادة لمثل هذا الشخص الذي في كل حيواته إستغل ما أنعم الله عليه بشكل دائم في خدمة اﻵخرين وخدمة المجتمع ، يكتسب هذا الشخص مع مرور الزمن شيء لا يمكن إكتسابه بحياة واحدة وهو ما يسمى ب ( الثقافة الروحية ). الثقافة الروحية تختلف عن الثقافة المادية والتي يمكن أن يكتسبها اﻹنسان أثناء حياته الواحدة كخبرة في الطب ،أو الشعر ، أو الحساب أو القتال أو غيرها من المهارات والعلوم ، ولكن الثقافة الروحية تختلف كثيرا وهي تلك التي تجعل اﻹنسان يختار الإختيار الصحيح في اللحظات التي يتطلب منه إتخاذ القرار خلال فترة زمنية تعادل أجزاء من الثانية حيث عندها العقل لا يلعب أي دور في هذه العملية، هذه اللحظة تسمى اللحظة الحاسمة ، ( تم شرحها بالتفصيل في الخاطرة 47 : اللحظة اﻹلهية الحاسمة) ، الديانة المسيحية في المذهب الكاثوليك أشارت إلى هذه النعمة اﻹلهية ، فأعطت البابا ( أعلى مكانة في الكنيسة الكاثوليكية ) هذه الصفة ، وإعتبرته أنه لا يخطئ ﻷن كل ما يأتي إلى فكره هو من عند الله، طبعا هذا غير صحيح وهذه النعمة لا تنطبق على البابا ، فليس من الصدفة أن نجد أن كنيسة الفاتيكان كل فترة وفترة تعتذر على أخطاء قامت بها في الماضي مثل محاكمة غاليلو وغيرها من اﻷخطاء الكثيرة . الثقافة الروحية يمكن أن نجدها في أرقى مستوياتها فقط عند اﻷنبياء ، الذين إستغلوا نعمة الله عليهم بشكل دائم في خدمة وفائدة اﻹنسانية ، لذلك كانت مكافأة الله لهم النبوة. وكذلك يمكن أن نراها أيضا ولكن بمستوى أقل في اﻷولياء و العباقرة الذين لعبوا الدور اﻷول في ولادة الحضارات وإزدهارها. ما شرحناه هنا في مثالنا عن حالات التقمص لعدة مرات بفهومه المبسط جدا يعتمد على مميزات قليلة جدا كالقوة الجسدية. . مهارة في صنع المساكن. .في إكتشاف اﻷعشاب الطبية...إلخ. .. ولكن المميزات اﻹنسانية عددها باﻵلاف وكل ميزة لها عشرات أو مئات المستويات. فمستوى جمال اﻹنسان يحدده آلاف الأشياء ، منها -كمثال بسيط - شعر رأس اﻹنسان ، وكما هو معروف فصفات شعر اﻹنسان عديدة جدا من حيث : النوع ( شديد التجعيد ،متوسط التجعيد ، بسيط التجعيد ، شبه أملس. .أملس ... إلخ ) لون الشعر ( أسود ، كستنائي، بلاتيني ،أحمر غامق أحمر كاشف، أشقر غامق ، أشقر كاشف. ... إلخ ) طبيعة الشعر ( شعر عادي ، دهني، جاف ، مختلط. ...) سماكة الشعر ( سميك ، متوسط ، خفيف ، زغب. ..،) . فكل صفة من صفات شعر رأس اﻹنسان لها علامة معينة تحددها العلامات التي إستحقها اﻹنسان نتيجة أعماله في حياته السابقة ، لذلك فتقدير اﻷمور في يوم الحساب معقد جدا عندما سيتم تحديد ما يستحقه كل اﻹنسان على أعماله في حياته الماضية من صفات جسدية ( شكل العين، الانف،الفم. ..الطول. ...التناسق. ..) أو صفات فكرية ( درجة الذكاء. . أنواع المقدرات العقلية ، .....) وكذلك نوعية البيئة من حوله ( فقيرة ماديا، متوسطة ،غنية ،غنية جدا . ..متدنية ثقافيا،متوسطة،عالية ..إلخ ) . هنالك ملايين الصفات التي تخص كل إنسان وطريقة توزيعها على كل إنسان لا يعلم بها إلا الله. لذلك فإن محاولة معرفة اﻹنسان لنفسه أو لغيره لنوعية الحياة التي عاشها في حياته الماضية من خلال مقارنة الصفات التي يحملها يعتبر نوع من الشرك بالله ، ﻷن الله وحده فقط عنده علم اليقين لما حدث في الماضي، وكما قلنا في المقالة السابقة ، قد يختار الله إنسانا صالحا فيجعله يولد بجمال متوسط أو أقل من المتوسط ، أو يولد في عائلة فقيرة أو في مجتمع قذر ،وفي أوضاع سيئة ، رغم أن هذا الطفل أرقى بكثير من أشخاص أجمل منه وأغنى منه ، ولكن الله جعله يولد في ذلك المكان ﻷنه يستطيع أن يساهم في مساعدة أولئك المساكين الفقراء ، أو ربما ﻷن هذا الطفل في حياته الماضية لم يطلب من الله لنفسه شيء فقط أن يعطيه القوة ليساعد الناس من حوله لذلك إختاره الله في ذلك المكان القاسي ﻷنه يملك قوة التحمل والصبر أكثر من اﻵخرين كما حصل مع هارون أخو موسى عليهما الصلاة والسلام حيث ولد تحت ظلم فرعون ، وكذلك بلال الحبشي الذي يعتبر من اﻷوائل الذين أعلنوا إسلامهم رغم ما ذاق من العذاب كونه من العبيد بسبب إعتناقه اﻹسلام . لذلك لا يحق لأي إنسان أن ينظر إلى الفقير ، أو القبيح على أنه أفضل منه ، فقيمة اﻹنسان هي بما يفعله في حياته التي يعيشها اﻵن وليس بما فعله في حياته السابقة. ﻷن حياته السابقة علمها فقط عند الله لا أحد غيره. عندما يتمنى إنسان مؤمن له شكل قبيح أن يكون له مظهر جميل ، فإن الله بعد وفاته يحقق له أمنيته فيولد بشكل جميل ، أما إذا كان فقيرا وتمنى أن يكون غنيا ،فالله يحقق له أمنيته فيولد غنيا. فالله يحقق أمنيات المؤمنين، ولكن مصير المؤمن في حياته الجديدة ستتوقف على طريقة إستغلاله لتلك النعمة التي حققها الله له، فهناك كثير من الناس يستغلون هذه النعم المختلفة لولادات عديدة ثم فجأة عندما يرون أنفسهم يملكون أشياء عديدة لا يملكها اﻵخرون ( الصحة ، الجمال ، الثروة ،الذكاء ، الدهاء. ... ) يشعرون بالتكبر على اﻵخرين فينظرون إلى أنفسهم ولا يصدقون ما هم عليه فيقعون بعقدة حب الذات فيظنون أنفسهم وكأنهم آلهة وليسوا بشر فيستغلون جميع تلك الميزات الحسنة في سبيل شهواتهم ونزواتهم فيفعلوا كل ما تشتهيه أنفسهم دون حساب ، وأفضل مثال على ذلك هو فرعون الذي ذكرته الكتب المقدسة، وكذلك أولئك الملوك والحكام الذين حكموا شعوبهم وكأنهم آلهة ، وإستغلوا خيراتهم في سبيل تحقيق شهواتهم من مجد وشهرة وجنس. - التقمص على مستوى الشعوب : عندما تصل حضارة معينة إلى عصور اﻹنحطاط تولد في بقعة أخرى من اﻷرض حضارة جديدة فتحدث تطورات في نواحي فكرية بطريقة غريبة حيث نجد المجتمع بأكمله يسير في هذا التيار الجديد عن رغبة دفينة في نفوسهم وكأنهم يباركون لهذه التيارات الفكرية الجديدة وكأن معظم أفراد المجتمع نفسه قد جاؤوا من مكان آخر مختلف عن تلك المنطقة التي تظهر فيها هذه الحضارة الجديدة فيبدو وكأن اﻷبناء من نسل جديد ليس لهم علاقة نهائيا بأبائهم ولا اجدادهم ، ومن يتمعن جيد ا في طريقة ولادة الحضارات يحتار في أمرها ويقف عاجزا عن تصديق أن أفراد هذا المجتمع الذين كانوا يعيشون في عصور الظلام والجهل والتخلف لمئات السنين قد إكتسبوا فجأة هذه الصفات الراقية في النمو الفكري ليستطيعوا تحقيق هذه القفزات الواسعة في العلوم والبناء ، ولعل أفضل مثال على ذلك هو ولادة الحضارة اﻹسلامية. اﻹسلام ولد في بقعة من العالم حيث الظروف البيئية القاسية فيها جعلته بعيدا عن بقية الحضارات ، وهكذا وفجأة مع نزول الرسالة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، نجد دخول هذا الدين في قلوب الناس بطريقة غريبة وإنتشاره بسرعة عجيبة رغم جميع ردود الفعل القاسية والتهديدات على كل من يؤمن بهذا الدين ، ورغم جميع المحاولات لمنع إنتشاره ، نجد هذا الدين الجديد خلال سنوات قليلة يسيطر على منطقة الجزيرة العربية وما حولها. قد يفسر البعض بأن هذه اﻹنتصارات التي حققها اﻹسلام في سنوات قليلة هي معجزة إلهية علمها عند الله فقط ، ولكن الله لا يفعل أشياء عشوائية وكل معجزاته لها قاعدة حكيمة ، فما حصل بالضبط في تلك الفترة هو أن الله جعل جميع المؤمنين الصالحين الذين آمنوا بتعاليم دينهم وقاموا بأعمال صالحة أثناء حياتهم وإكتسبوا مهارات بلادهم وشعوبهم المختلفة (أفريقيا، أوربا ، آسيا... ) جميع هؤلاء الذين عاشوا في بلدان مختلفة جعلهم الله أن يولدوا هذه المرة بقرب الرسول صلى الله عليه وسلم، وكأنهم ولدوا ﻷول مرة فراحوا يمارسون العبادات الوثنية التي تسود في المنطقة كما يفعل الجميع دون أي إهتمام بها ، ولكن بمجرد سماعهم لظهور دين جديد فيه روح إلهية، دين يأمر بالخير والمعروف ، عندها شعروا وكأن بصيص من النور فجأة ينير أعماقهم المظلمة ، مثل هؤلاء يستطيعون أن يصبروا ويتحملوا أشد أنواع العذاب والشقاء ليساهموا في نشر هذا الدين الذي رفع راية المحبة والعدالة والسلام، بهذه الطريقة وعلى عاتق هؤلاء كتب على اﻹسلام الإنتشار رغم معارضة القوى العظمى (الإمبراطوريتان الرومية والفارسية ) التي كانت تحكم تلك المناطق من العالم. ولكن بعد أكثر من 600 عام وعندما وصلت الحضارة اﻹسلامية إلى عصور اﻹنحطاط ، في القرن الثالث عشر بدأت تلك الأرواح الصالحة التي لعبت دورا كبير في ولادة الحضارة اﻹسلامية وإزدهارها تولد من جديد في أوربا لتجعل اﻷمور هناك تسير فجأة بشكل مشابه تماما لما حدث في منطقة ظهور الجزيرة العربية ، فنجد ظهور أغنياء في إيطاليا يدافعون عن حقوق اﻹنسان ويستغلون أموالهم وثرواتهم في تحسين أمور المجتمع ، فيقومون بشراء الكتب العربية التي تتكلم عن الطب والهندسة والكيمياء والميكانيك والفلسفة ويدفعون مبالغ لترجمتها ،وبنفس الوقت نراهم يبحثون عن كل شاب يمتلك ذكاء عالي ومواهب ومهارات تفيد في تطوير المجتمع وتطوير العلوم ، فيأتوا به لينضم إلى رعايتهم فيدرس ويتعلم ليصبح يوما ما طبيبا أو مهندسا أو فنانا أو فيلسوفا أو أي شيء آخر يمكنه أن يبدد الظلمات لينشر النور في جميع نواحي المجتمع عن طريق تحسين اﻷوضاع اﻹجتماعية والعلمية... هذا الترابط اﻹجتماعي في هؤلاء اﻷغنياء دفع إلى ظهور تيار فكري جديد يدعى ( Humanism) ويعني ( اﻹنسانية ) حيث يضع حقوق اﻹنسان فوق جميع الحقوق بغض النظر عن عرقه أو مكانته اﻹجتماعية أو دينه. ﻷن جميع هذه اﻷشياء أصلا ولدت من أجل تأمين حقوق اﻹنسان ليكون كائنا حرا يستطيع أن يساهم في بناء المجتمع ليصل إلى الكمال. العرب أطلقوا على هذه الحضارة حضارة عصر النهضة اﻷوربية ، ولكن اﻷوربيون أعطوها إسم له علاقة بمعنى اﻹنبعاث أوالولادة الجديدة (Rinascimento ) وهذا اﻹسم لم يأتي صدفة ولكن من دمج فكرتين : - الفكرة اﻷولى هي التي ذكرها إبن الرشد والتي ساهمت في دخول اﻷوربيين في الخطوة اﻷولى من عصر النهضة والتي تقول ( الروح العالمية هي فقط روح خالدة ، أما الروح الفردية - روح اﻹنسان كفرد - فهي غير خالدة ولكنها تصبح خالدة حين إتحادها مع الروح العالمية ) هذه الفكرة دخلت عقول المفكرين اﻷوربين وجعلتهم ينظرون نظرة جديدة لما حولهم. - الفكرة الثانية تم أخذها من اﻹصحاح الثالث من إنجيل يوحنا اللاهوتي،حيث يذكر أن عيسى يتكلم عن نوعين من الولادة : ولادة من جسد وولادة من روح ، فالولادة من جسد يمكن أن تموت ولكن الولادة من الروح فلا تموت. مع إندماج الفكرتين خرجوا بفكرة جديدة هي (الولادة المجددة الثانية ) والتي منها خرج إسم هذا العصر. إذا تمعنا جيدا في الأفكار التي ساهمت في إزدهار عصر النهضة وعلومها ، سنجد أن قسم منها قد ذهب إلى أوروبا عن طريق مادي أي من خلال ترجمة الكتب العربية إلى اللغات اﻷوربية ، وهذه يمكن ملاحظتها بسهولة ﻷنها منقولة بشكل حرفي تماما، ولكن هناك أفكار ظهرت بطريقة جديدة ﻷنها إنتقلت بشكل روحي من عصر إلى عصر آخر ، وذلك عن طريق ولادة نفس اﻹنسان الذي لعب دور في إزدهار الحضارة اﻹسلامية فيولد من جديد في دولة أوربية ليلعب دور هام للمرة الثانية في إزدهار حضارة عصر النهضة. وأفضل مثال على ذلك هو ليوناردو دافنشي الذي يعتبر من أكبر مؤسسي عصر النهضة اﻷوربية. من يتمعن جيدا في أعمال ليوناردو دافنشي ويخوض في مضمونها وليس في قشورها كما يفعل مفكري اليوم ، سيجد أن روح ليوناردو تعلم أشياء كثيرة عن مضمون آيات القرآن بلغته اﻷصلية ( العربية ) وليس بلغة أخرى وأيضا سيجد أن روحه تعلم عن تعاليم اﻹسلام كما أنزل على نبي اﻹسلام وليس كما وصلت إليه من إنحطاط في تلك الفترة التي لم يعد فيها علماء مسلمون ولكن فقط شيوخ يقرؤون القرآن بشكل سطحي بطريقة لا تنفع ولا تضر ، تماما كما حصل مع رجال الدين المسيحي في العصور الوسطى . لا يوجد أي إثبات يؤكد على أن ليوناردو دافينشي كان يملك القرآن الكريم وأنه قد قرأه وبحث في آياته بشكل مفصل ، ولا يوجد أي دليل على أن ليوناردو ذهب إلى دول إسلامية ومضى فيها فترة زمنية تعلم فيها القرآن ، ولا يوجد أي دليل يؤكد على أنه كان له أصدقاء أو مساعدين مسلمين ليشرحوا له عن اﻹسلام ، ولكن بعض أعماله تؤكد على ان روحه كانت مسيحية ومسلمة في نفس الوقت وهذه بعض اﻹثباتات : 1 - المسيحي مهما كانت مهنته ، عندما يريد التكلم عن ولادة عيسى المسيح سواء كان في لوحة رسم أو تمثال منحوت أو قصة أو أي شيء آخر فإنه سيحاول إظهار (أفراد العائلة المقدسة ) التي تتألف من عيسى وأمه مريم وخطيبها يوسف ، كما تذكر اﻷناجيل اﻷربعة ، ولكن في أعمال ليوناردو دافنشي جميعها لا نجد أي أثر ليوسف خطيب مريم ، وكأن لوحات ليوناردو تتكلم عن ولادة المسيح بناء على معلومات القرآن الكريم وليس على معلومات اﻹنجيل. فالقرآن الكريم أيضا لا يذكر إسم يوسف خطيب مريم في أي آية من سوره. لذلك المسلمون لا يعلمون شيئا عن يوسف خطيب مريم. ... فهل ما فعله ليوناردو هو صدفة أم أنه كان مسلما دون أن يعلن إسلامه على الجميع ؟ لو كان ليوناردو قد تخلى عن دينه وإعتنق اﻹسلام لما رسم لوحة ( توقير ماغي ) (الصورة ) فهذه اللوحة تؤكد على أن ليوناردو كان مسيحيا ﻷن معلومات اللوحة منقولة عن اﻹنجيل ، ولكن رغم أنها منقولة عن اﻹنجيل هنا أيضا لا نجد أثر ليوسف خطيب مريم. 2 - ليوناردو يذكر في مذكراته عن اﻷسباب التي دفعته لرسم لوحة ( مريم الصخور ) يقول : "في إحدى اﻷيام إقتربت من مدخل أحد الكهوف، ومدفوع برغبة جامحة ، أن أرى الأشكال الغريبة والمتنوعة التي أبدعتها قوانين طبيعة في داخل هذا الكهف ، ومع عبوري لمسافة معينة داخل الكهف وجدت نفسي على باب مدخل آخر لكهف كبير جدا ، ولدقيقة واحدة توقفت والدهشة تغمر قلبي فجلست القرفصاء ، محاولا أن أتعرف على اﻷشكال في الظلمة الحالكة التي تسود المكان بأكمله ، وشيئا فشيء بدأت أشعر بنوعين من العواطف التي إستيقظت فجأة في داخلي ،الرعب من هذا الظلام الحالك الذي يعم الكهف بأكمله ، والرغبة الجامحة في داخلي أن أرى فيما إذا كان هذا الكهف قد خفى معجزة ما في داخله ، وهذا ما دفعني إلى رسم تلك اللعبة المعقدة بين النور والظل الذي ينتج عنها تنوع وتدرج الألوان ، .. " إذا تمعنا بما كتبه لنا ليوناردو عن شعوره وهو في داخل الكهف الكبير واللوحة التي نتجت عن تلك اﻷحاسيس ، نشعر أنه يصف ما يوجد في أعماق روحه عندما كان مسلما وكان يبحث في آيات سورة الكهف وعلاقتها بسورة مريم التي تأتي مباشرة بعدها في الترتيب ، حيث نجد اﻵية 82 من سورة الكهف تتكلم عن غلامين يتيمين ترك لهما والدهما كنز تحت الجدار الذي كاد ينقض ، فكما هو معروف عند المسيحيين بأن عيسى ويوحنا المعمداني ( يحيى ) عليهما الصلاة والسلام ، لم يجتمعا في سن الطفولة نهائيا ﻷن عيسى في تلك الفترة كان في مصر. فعملية دمج قصة الغلامين مع عيسى ويحيى ( الطفلين) لا يمكن أن تكون قد حدثت بشكل عقلي ولكن أكيد بشكل روحي أعمق بكثير من أن يفسره العقل، فمجمل معاني اللوحة لم تخرج من اﻹنجيل ولكن أيضا لم تخرج صدفة من اللاشيء ولكن لا بد أنها خرجت من ما هو دفين في روحه من بقايا إحساساته في حياته الماضية عندما بحث في معاني آيات سورة الكهف وعلاقتها بآيات سورة مريم. 3 - حادثة صلب المسيح تعتبر من أهم أحداث حياة عيسى عند المسيحين لذلك حاول معظم فناني عصر النهضة التعبير عن هذه الحادثة في أعمالهم الفنية ، بينما في أعمال ليوناردو نجد أنه لم يرسم المسيح مصلوبا في أي لوحة من لوحاته،فقط في لوحة يوحنا المعمداني ( الصورة ) نجده قد عبر عن هذه الحادثة بطريقة مختلفة نهائيا ،بحيث تجمع بين معلومات القرآن واﻹنجيل ولكن تؤكد على أهمية ما ذكر في القرآن الكريم ، في هذه اللوحة نجد أن يوحنا (يحيى عليه الصلاة والسلام ) يحمل في يده اليسرى الصليب ولكن الصليب لا يظهر بشكل واضح تماما بسبب ظلام خلفية اللوحة ،بينما نجد أن يده اليمنى مضاءة وواضحة للعين تشير إلى السماء تماما كما تذكر اﻷية القرآنية 158 من سورة النساء ( بل رفعه الله إل يه وكان عزيزا حكيما ) ، وكأن روح ليوناردو دافنشي تقول لنا من خلال هذه اللوحة بأن حادثة الصلب ليست بهذه البساطة التي يتصورها المسيحيون والمسلمون ولكنها حادثة تخفي في مضمونها سر عظيم يحتاج إلى بحث طويل لفهم المضمون الحقيقي لهذه الحادثة . 4 - سلوك ليوناردو دافنشي في حياته كان يؤكد على أنه في حياته السابقة كان مسلما ، فرغم أنه كان يكتب بالأحرف اﻹيطالية ولكنه كان يكتبها من اليمين إلي اليسار وكأنه يكتب باللغة العربية وليس اﻹيطالية ، هذه الرغبة في الكتابة بجهة من اليمين إلى اليسار لم تأتي في نفسه بالصدفة أو بشكل عشوائي ، ولكن من رغبة داخلية تنبع من أعماقه لتذكره بحياته الماضية حيث كانت اللغة العربية هي اللغة المستخدمة في حياته. 5 - ليوناردو دافنشي كان طعامه وشرابه مشابه لطعام مسلم فهو حتى يمنع نفسه من أكل لحم الخنزير الذي يعتبر من أكثر اللحوم المستهلكة في بلاده، تحول إلى إنسان نباتي لا يأكل سوى اﻷطعمة المشتقة من النباتات و كان معروفا عنه أنه لا يشرب الخمر. ليوناردو دافنشي من خلال أعماله يبدو - والله أعلم طبعا - أنه كان من أوائل اﻷولياء و العلماء في الحضارة اﻹسلامية ، لذلك كافأه الله على أعماله في حياته الجديدة وإختاره لتحقيق هدف معين فأعطاه الجمال والمال والعبقرية وكل شيء ، ولكنه حرمه من أمه ، لذلك كان أهم أهداف أعمال ليوناردو دافنشي في عصر النهضة هو الدفاع عن حقوق المرأة ، لذلك كانت لوحته ( موناليزا) أعظم عمل فني في تاريخ البشرية ، حيث ساهمت هذه اللوحة في إثارة العواطف السامية في الناس ( وليس إثارة الغريزة الجنسية فيهم ) ليشعر الناس وخاصة الرجال بأن في هذا الكائن الجميل الحنون الذي يسمى ( إمرأة ) تكمن فيه روح عظيمة رهيفة تشعر وتتألم وتعاني وان هذه الروح لها حقوقها لتقوم بدورها في إصلاح المجتمع لتؤمن ﻷطفالها بيئة روحية مناسبة تسمح لهم بالعيش على أحسن ما يرام. فمن يتمعن جيدا في أعمال ليوناردو يجد أن أمه كان لها الفضل اﻷكبر في تكوين شخصيته ،أو بشكل أدق في حفاظه على شخصيته التي كان عليها في حيواته السابقة. إن مسؤولية كبار المجتمع ،سواء كانوا سياسيين أو علماء أورجال دين أو فنانين أو صحفيين أو أغنياء أن يساهموا جميعهم في تأمين ظروف إجتماعية تضمن لجميع اﻷطفال اﻷغنياء والفقراء أن يعيشوا في بيئة روحية ومادية تسمح لهم باﻹحتفاظ بكل شيء قيم وجميل كان معهم في حياتهم السابقة لكي يطوروها ليستطيعوا إستخدامها في أعمالهم في المستقبل ، فالإبداع أو العبقرية بشكل أدق تكمن في توحيد خبرات الحيوات الماضية مع الخبرات المكتسبة في الحياة الجديدة.
وسوم: العدد 647