خواطر من الكون المجاور..الخاطرة 82 : النساء المجهولات
كان من المفروض أن تكون هذه الخاطرة عن لغة اﻷرقام أو بشكل عام عن اﻹعجاز الرقمي في الكتب المقدسة لتوضح بعض اﻷشياء التي تم ذكرها في المقالات الماضية لتؤكد لأولئك الذين لم يقتنعوا بأن اﻷرقام عدا عن أنها تصف الحالة المادية للشيء أو الحدث (طول ،عرض، سرعة. ..إلخ ) هي أيضا تعبير روحي يصف مضمون اﻷشياء واﻷحداث. ولكن شيء ما لفت إنتباهي هذا اﻷسبوع له علاقة بعيد اﻷضحى الذي يحتفل به مسيحيو المذهب اﻷورثوذوكسي بعد يومين (يوم اﻷحد 5/1 ) ، جعلني أُؤَجّل موضوع اﻷرقام إلى اﻷسبوع القادم إن شاء الله ﻷكتب عن التغيرات التي حدثت عبر السنوات عن طريقة ممارسة اﻹحتفالات الدينية.
اﻷسبوع الذي يسبق عيد الفصح عند المسيحيين يسمى اﻷسبوع الكبير ( العظيم ) وأيامه تعتبر من أقدس أيام العام لذلك تدعى أيضا أيام كبيرة ( اﻹثنين الكبير ، الثلاثاء الكبير،اﻷربعاء الكبير .. وهكذا ) وهي تعتبر آخر أيام الصيام عند المسيحيين.
في بداية وجودي في اليونان ( قبل أكثر من 25 عام ) كنت ألاحظ دوما بأن أيام هذا اﻷسبوع تختلف نهائيا عن بقية أيام السنة ومن جميع النواحي النشاط اﻹجتماعي ،وبشكل يجعل كل شخص يعيش في اليونان كبيرا كان أم صغير بأن هذه اﻷيام فعلا لها قدسيتها عند اليونانين ، فرغم أن عدد أيام الصيام قبل عيد الفصح هي 40 يوما ولكن كان معظم اليونانين يصومون فقط في أيام هذا الأسبوع ، لذلك كانت العادات اليومية في اﻷسبوع الكبير تتغير ، فمعظم المطاعم التي تعتمد على تقديم وجبات اللحوم المشوية ( شاورما، كباب ، بيتزا ، .. ) كانت تغلق في مثل هذه اﻷيام إحتراما لهذه المناسبة الدينية ، وكانت أيضأ طباع الناس تتبدل لتأخذ العواطف السامية مكانها في قلوب الناس بدل الغرائز ، فيصبح سلوك اﻹنسان أكثر إنسانية في أيام هذا اﻹسبوع من بقية أيام العام.
أيضا كانت دور السينما وبرامج القنوات التلفزيونية تتبدل نهائيا فطوال أيام هذا اﻹسبوع كانت تتجنب عرض أفلام مخلة باﻵداب فتعرض بدلا منها مسلسلات وأفلام دينية عن قصص اﻷنبياء المذكورة في كتب العهد القديم وأيضا عن حياة يسوع المسيح وتلاميذه كما هي مذكورة في كتب العهد الحديث ، ولكوني منذ تلك الفترة أبحث في مضمون القصص الدينية وكذلك لأن جميع هذه المسلسلات واﻷفلام لم تكن تعرض في الدول اﻹسلامية كنت دوما أنتظر الأسبوع العظيم لأشاهد هذه اﻷفلام والمسلسلات، فكنت أتابعها ﻷرى الفرق بين قصة اﻷنبياء كما هي معروضة في الفيلم أو المسلسل وكما هي مذكورة في التوراة واﻹنجيل ، ثم أبحث عن الفرق كما هي عند المسيحيين وكما هي عند المسلمين ، لذلك كانت أيام (اﻷسبوع الكبير) بالنسبة لي أيضا أيام تختلف كثيرا عن بقية أيام العام.
في تلك الفترة كان مسلسل ( يسوع من الناصرة ) يعرض ﻷول مرة وكانت يوميا تعرض حلقة واحدة من الساعة التاسعة مساء إلى العاشرة ، أذكر في تلك الساعة كانت الشوارع تصبح خالية من أي مخلوق ، هدوء تام يسيطر على المدينة ،لا يسمع في شوراعها سوى صوت الممثلين الذين يشاركون في هذا المسلسل القادم من نوافذ البيوت ،معظم أفراد العائلة كانوا يجلسون يتابعون أحداث سيرة حياة عيسى المسيح على شاشة التلفاز ، وفي صباح اليوم التالي كان حوار الأصدقاء في المدارس أو في العمل عادة له علاقة بأحداث هذا المسلسل وهذا ما كان يجعل اﻷطفال يعيشون أحداث حياة المسيح بكامل مشاعرهم وكأنهم يعيشونها حقيقة .
وبالإضافة إلى هذا المسلسل كانت هناك مسلسلات عن بقية اﻷنبياء ، وأيضا كانت تعرض أفلام تاريخية دينية لها مكانتها العريقة في السينما العالمية بشكل يومي ،كفيلم وصايا العشرة وبن هورن وكفوديس،وملك الملوك والرداء اﻷحمر وبراباس وملك داود،وغيرها ، ورغم إختلافها قليلا عن النص الحقيقي للكتب المقدسة ، كانت جميعها أفلام شيقة أبطالها هم أشخاص مؤمنين يفعلون ما يأمرهم الله تجعل اﻷطفال يتابعونها بكامل أحاسيسهم فتنمي فيهم المشاعر السامية ( المحبة ،السلام،الشعور بآلام اﻷخرين التسامح، التضحية ، الصبر ، .... ) وجميع هذه اﻷفلام كانت أيضا مشاهدتها مناسبة لجميع أفراد العائلة ، فكان يتابعها الكبير والصغير ،الغني والفقير والمثقف واﻷمي ، الجميع في تلك اﻷيام كانوا يعيشون في بيئة روحية تسيطر عليها روح إنسانية سامية ، تجعلك تشعر بأن أيام ذلك الأسبوع (الأسبوع الكبير ) هي فعلا أيام عظيمة.
ولكن كل هذه اﻷشياء مع مرور السنوات بدأت تتغير نحو اﻷسوأ ،اليوم مع اﻷسف اﻷمور تختلف نهائيا ، المطاعم جميعها تعمل في أيام اﻷسبوع الكبير فجميع أصحاب هذه المطاعم أصبح يهمهم الربح المادي أكثر بكثير من الربح الروحي ، الجميع اليوم في أيام هذا الأسبوع يأكلون اللحوم ، لا أحد يتكلم عن الصيام ،وكأنها ليست أيام اﻷسبوع الكبير ، وحتى القنوات التلفزيونية بدلا من أن تعرض المسلسلات واﻷفلام الدينية المناسبة جدا لتنمية روح الخير في اﻷطفال أصبحت تعرض أفلام هاري بوتر ، وباتمان ، وسبايدر مان ومخلوقات سكان الفضاء ،وغيرها من أفلام العنف والخيال العلمي والمسلسلات البوليسية أو الخلاعية ، وحتى لا يتهم أحد بأن القنوات التلفزيونية لا تحترم اﻷعياد الدينية فجميع هذه القنوات كانت تعرض أفلاما ومسلسلات دينية ولكن بعد الثانية عشر ليلا ، عندما يكون جميع اﻷطفال نياما وكأنها أفلام غير مناسبة لعرضها أمام اﻷطفال، هناك قناة تلفزيونية تعرض مسلسل أعمال الرسل في الساعة الثانية ليلا، من سيرى مسلسل في مثل هذه الساعة المتأخرة لا أدري.
من يتمعن جيدا في توقيت برامج القنوات التلفزيونية يشعر وكأن المسؤولين عن هذه البرامج بشكل مقصود يمنعون اﻷطفال من رؤية أي شيء له علاقة بالكتب المقدسة ، ليرى بدلا منها أفلاما أخرى تبعده نهائيا عن فكرة وجود خالق أو وجود أنبياء أو وجود يوم حساب. فبدلا من أن يرى قصة إبراهيم أو يوسف أو موسى أو عيسى عليهم الصلاة والسلام ليتعلم من هذه القصص اﻹيمان و حب الخير والصبر والشعور بآلام اﻵخرين.... ، يرى بدلا منها أفلاما تجعله يعيش في عالم خرافي مظلم ينمي فيه الغرائز الحيوانية واﻷنانية وحب العنف واﻹنتقام.
معظم الدعايات التجارية للأطفال التي تعرضها القنوات التلفزيونية في هذا الأسبوع لها علاقة بشمعة عيد الفصح ، ولكن بدلا من أن تكون هذه الشمعة التي هي أصلا لها علاقة بحياة يسوع المسيح ، نجد الشركات المصنعة لهذه الشمعة قد صنعوها بشكل يلغي تلك العلاقة بين هذه الشمعة وحياة المسيح ، فأصبحت هذه الشمعة تباع مع لعبة تمثل أولئك الشخصيات التي يرونها في اﻷفلام السينمائية ،فبدلا من أن نرى اﻷطفال يطلبون من أهاليهم شراء شمعة عيد الفصح نراهم يطلبون منهم شراء شمعة هاري بوتر أو سبايدر مان أو شمعة باتمان أو شمعة هالك اﻷخضر.
الشعلة المقدسة التي تأتي من القبر المقدس في مدينة القدس في مساء يوم السبت من اﻷسبوع الكبير لتنتقل إلى جميع الكنائس في اليونان حيث يتجمع هناك معظم سكان حي الكنيسة ليشعل منها شمعته ليأخذ نورها المقدس إلى بيته ليطهره من كل سوء وليجلب إليه الخير والبركة والمحبة والسلام. هذه الشعلة المقدسة أصبحت اليوم بالنسبة للأطفال شعلة أولئك اﻷبطال الخرافيون الذين يراهم اﻷطفال في الأفلام السينمائية والذين تحولوا في عقول اﻷطفال إلى أبطال حقيقين بينما المسيح وبقية اﻷنبياء أصبحوا في عقول اﻷطفال أبطال خرافيين من الطراز القديم لا نفع منهم في شيء .
في الماضي كانت المدارس تعلم اﻷخلاق والعلم ، اليوم أصبحت تعلم فقط المعلومات العلمية ، فمادة الديانة في المدارس أصبحت مادة إختيارية ، يحق للطالب عدم حضورها ، لذلك معظم الطلاب اليوم لا يهتمون بدروس هذه المادة ، ومعظمهم اليوم لا يذهب إلى الكنيسة إلا في ليلة عيد الفصح ليأخذ الشعلة المقدسة ، والقنوات التلفزيونية كما ذكرنا لم تعد تعرض برامج عن اﻷنبياء في الساعات المناسبة للأطفال، لذلك أطفال اليوم في اليونان يعرفون كل شيء عن هاري بوتر ، أو باتمان ، أو سوبرمان. ..، أما عن اﻷنبياء عيسى ،إبراهيم ،يوسف، موسى، داود، سليمان ، عليهم الصلاة والسلام فهم لا يعرفون عنهم شيئا سوى أشياء بسيطة لا تنفع في شيء. هذا التغيير الجذري في عالم اﻷطفال خلق بيئة فاسدة تحيط بهم من جميع الجهات، مما أدى إلى ظهور عصابات أطفال تسيطر على المدارس ، تتربص بكل طفل أراد أن يكون مثاليا مجدا في دروسه محبا للخير والقيم السامية واﻷخلاق الحميدة، وبدلا من شعورهم نحوه بالمحبة ﻷنه يحمل شيئا من صفات اﻷنبياء ،يحدث العكس تماما فتراهم يحقدون عليه ويحاولون أن يجعلوا ساعات الدوام في المدرسة وكأنها بالنسبة له كابوس مرعب لا ينتهي إلا عند إبتعاده عن المدرسة وعن كل شيء له علاقة بها .
قبل سنتين وبسبب اﻷزمة اﻹقتصادية التي يعيشها الشعب اليوناني ،بدأت تظهر مجموعة من النساء في اﻷيام اﻷخيرة من الأسبوع الكبير في سوق بيع اللحوم ، حيث تذهب كل إمرأة منهن وتدخل محل اللحوم وتبقى هناك لمدة ساعتين أو أكثر تراقب كل من يدخل لشراء لحوم اﻹفطار في عيد الفصح ، فإذا شعرت أنه فقير وأن أحواله المادية لا تساعده على شراء ما يكفيه من لحوم لعائلته من أجل العيد ، تقوم هذه المرأة (المجهولة ) بدفع قيمة كل ما يريد شرائه. هذه المجموعة من النساء التي يتجاوز عددهن العشرين سمع عنها جميع سكان مدينة أثينا وهن معروفات اليوم بإسم ( النساء المجهولات ) ﻷنهن يأتين فجأة ويختفين فجأة دون أن يعلم أحد عنهن شيء.
جميع هؤلاء النساء ( المجهولات ) هن من الجيل القديم حيث كان المجتمع اليوناني يعيش في بيئة أبطالها في فكر أطفاله كانوا اﻷنبياء ، جميعهن تأثرن بأحداث تلك القصص المذكورة في الكتب المقدسة ، جميعهن عندما كن صغيرات كن يحملون الشعلة المقدسة من الكنيسة إلى بيوتهن .أتساءل هنا هل من أطفال اليوم الذين يحملون شعلة الساحر هاري بوتر أو شعلة سبايدر مان وغيرهم من اﻷبطال السينما الخرافيين ، هل سيكون من هؤلاء اﻷطفال من يملك اﻹحساس بآلام اﻵخرين ليقوم بتأسيس مجموعة مثل مجموعة (النساء المجهولات ) ليساعد الفقراء والمساكين. الله أعلم
إلى جميع إخواننا المسيحيين اﻷورثوذوكس بمناسبة عيد الفصح المجيد كل عام وأنتم بخير.
وسوم: العدد 667