خواطر من الكون المجاور الخاطرة 119 صالات تحطيم الغضب
الغضب هو غريزة حيوانية تظهر كإحساس في اﻹنسان والحيوان عند الشعور بالخطر ، والهدف الحقيقي في الشعور بالغضب هو الدفاع عن النفس من أجل البقاء على قيد الحياة، حيث يصاحب الشعور بالغضب تغيرات خارجية تختلف من كائن حي إلى آخر فهناك بعض الحيوانات تنفش جسمها فيصبح حجمها أضعاف حجمها الطبيعي ، وهناك أنواع أخرى تغير لونها ، وأخرى تطلق صرخات عالية ، وبعضها تطلق رائحة كريهة. ... في اﻹنسان الغاضب تحدث تغيرات في تعبيرات الوجه والجسد والصوت ، فيحمر الوجه وتتحول النظرة إلى نظرة عابسة ويصبح الصوت أخشن ويأخذ شكل الجسد تعابير هجومية ، جميع هذه التغيرات تحدث كنوع ترهيب أو إخافة المعتدي.
من المعروف أن الشعور بالغضب يسبب فقدان القدرة على ضبط النفس وعلى التفكير السليم ، وعادة ما يرتكب اﻹنسان الغاضب أخطاء تجعله يندم على فعلها فيما بعد ، لذلك منذ ظهور اﻹنسانية على سطح اﻷرض حاول الحكماء إكتشاف طرق مختلفة ليستطيع اﻹنسان السيطرة على نفسه أثناء شعوره بالغضب.
الألعاب اﻷولمبية التي ظهرت في اليونان القديمة ، كان أحد أهدافها هو تنمية مقدرة السيطرة على توتر عضلات الجسم وسرعة خفقان القلب ، فالرياضة بشتى أنواعها تعتبر مفيدة في تقوية القدرة على ضبط النفس أثناء الشعور بالغضب ، فعادة اﻹنسان الذي يمارس الرياضة يكون أقل توترا أثناء الشعور بالغضب وهذا ما يجعله يحتفظ بتحليله الموضعي للأمور.
أيضا الديانات لعبت دورها في هذه المحاولة ، لذلك كانت صفة الحلم من أهم صفات اﻷنبياء ، و بشكل عام جميع الأديان تطلب من كل إنسان مؤمن أن يكون إنسانا حليما ، فالغضب قد تكون له نتائج سلبية مدمرة للفرد والعائلة وربما المجتمع بأكمله ، لذلك نجد مثلا في الديانة المسيحية كما يذكر الراهب أيفاجريوس بونتيكوس بأن ( الغضب ) هو الخطيئة الرابعة في الخطايا السبع المميتة : " التكبر، الجشع، الحسد، الغضب، الشهوة ، الشراهة ، الكسل ".
اﻹسلام أيضا أمر بالصبر والحلم ، فعندما يغضب شخص ما يقولون له ( صلي على النبي ) ليستطيع ضبط نفسه لكي لا ينساق مع شعوره بالغضب فيفعل أشياء تكون عواقبها سلبية على نفسه وعلى غيره فيندم على فعلتها عندما لا ينفع الندم.
في شعوب آسيا الشرقية ، يلجأون إلى جلسات اليوغا والتأمل ، حيث يعتقدون بأنه عن طريق اليوغا يحدث التحرر الروحي حيث تتحرر النفس من ارتباطها المادي ، فيكتسب اﻹنسان المقدرة على التحكم في سلوكه والسيطرة على جميع رغبات النفس الدفينة. ومن بين هذه اﻷشياء أيضا المقدرة على ضبط النفس عند اﻹنفعال والشعور بالغضب.
في الفترة اﻷخيرة ظهرت طريقة غريبة للتخفيف من الشعور بالغضب والتوتر وذلك عن طريق تحطيم اﻷشياء، هذه الطريقة ظهرت في اﻷرجنتين وسرعان ما إنتقلت إلى مختلف بلدان العالم وخاصة المتقدمة منها. فظهرت صالات عديدة تحمل إسم ( صالة التحطيم ) والقصد منه التحطيم من أجل المتعة ، ويقضي الزبون مدة زمنية معينة في غرفة مغلقة يرتدي ألبسة خاصة مثل الخوذة والقفازين واﻷحذية الصلبة لكي لا يتسبب بأي ضرر لنفسه ، ويمكنه اﻹختيار بين تشكيلة واسعة من الصحون والزجاج واﻷجهزة الإلكترونية لتحطيمها ليقوم بإشباع رغباته التدميرية ، فلكل شيء له سعره ، فتحطيم زجاجات فارغة مثلا قد يصل إلى خمسة دولارات ، أما تحطيم جهاز كومبيوتر أو تلفزيون فقد يصل إلى أكثر من 50 دولار ، وكما تقول إحدى اﻷمريكيات التي جربت هذا النوع من التحطيم ( لقد كان اﻷسبوع الماضي رهيبا، وكنت أحيانا أبكي من شدة الضغط....أتيت إلى هنا وكسرت صندوقا مملوءا باﻷشياء المختلفة وبعد 10 دقائق شعرت بأني على ما يرام "
في الفترة اﻷخيرة تحدث دعاية كبيرة لمثل هذه الصلات في وسائل اﻹعلام ، وكثير من هذه الدعايات تؤكد على أن ( عملية التحطيم ) هذه تساعد على التخفيف من ضغوطات الحياة اليومية وتقدم في نفس الوقت تجربة ممتعة لروادها.
والسؤال هنا هل هذه الطريقة الجديدة هي صحيحة علميا وتساعد فعلا على اﻹنتصار على التوتر الناتج عن الغضب المكبوت في الإنسان ؟
للأسف عصرنا الحاضر كما ذكرت في مقالات عديدة، يعاني من ضعف البصيرة ، هذه المشكلة أدت إلى رؤية اﻷشياء من زاوية صغيرة لذلك يظن اﻹنسان بأنه عن طريق تحطيم اﻷشياء فإنه يفرغ كل غضبه المكبوت داخله ، فيحصل على نوع من الراحة النفسية ، وهذا فعلا يحدث بشكل حقيقي لفترة مؤقتة ،ولكن اﻹنسان يجب عليه أن ينظر إلى حياته بأكملها وكذلك يجب أن ينظر إلى نفسه كفرد من المجتمع ، وأن يشعر بالمسؤولية أيضا عن أي تطور سلبي يحدث في المجتمع. فهذه المتعة في تحطيم اﻷشياء مثلها مثل مفعول المخدرات فهي في البداية تعطي الشعور بالراحة ولكن مع مرور الزمن تؤدي إلى اﻹدمان عليها وثم الدمار جسديا وعقليا ، أيضا عمليات التحطيم هذه ستنمي في داخله مع مرور الزمن حب التحطيم عند اﻹنفعال والشعور بالغضب. وسيأتي يوما ما عندما سيشعر بالغضب ، لن يستطيع كبت غضبه في داخله ، وسيخرج غضبه بردة فعل مباشرة ،وسيجد نفسه عندها يقوم بتحطيم أي شيء يوجد أمامه ، فقد يرمي هاتفه بقوة على اﻷرض ليحطمه ، أو ربما يرميه بقوة على رأس الشخص الذي أثار غضبه ، فاﻹنسان الغاضب في تلك اللحظة سيشعر بحاجة شديدة لتحطيم شيء ما وهنا ربما سيؤدي به الحال دون أن يعي بأن يحطم أولا رأس من أثار غضبه.
هدف نزول الديانات وظهور العلوم المختلفة هو محاولة تطوير اﻹنسانية نحو الكمال ، ومبدأ التطور مرتبط إرتباطا كاملا مع معاني البناء و التوحيد ، أما فكرة التحطيم في ( صالات تحطيم الغضب) فهي فكرة همجية تعبر عن تخلف فكري وروحي تعاني منه القاعدة الثقافية لعصرنا الحديث . فكل شيء من حولنا يتحطم ، حب التدمير أصبح أقوى إحساس يسيطر على سلوك الإنسان المعاصر ، الروابط اﻹنسانية في المجتمع في إنهيار مستمر وهذا اﻹنهيار وصل إلى أفراد العائلة بأسوء أشكاله ، حيث أصبحت اﻷم تهجر أطفالها من أجل إرضاء عشيقها.
المجتمع الذي يحاول علاج مشاكله إعتمادا على مبدأ ( التحطيم ) هذا المجتمع مصيره بلا أدنى شك هو الفناء. واﻹنسان الحضاري ، أو اﻹنسان المؤمن هو الذي يمتلك التوازن العقلي والروحي فيستطيع أن يصبر ويسامح كل شخص يسيء إليه فلا يسمح للغضب أن يدخل في نفسه ، كما تقول اﻵية 159 من سورة آل عمران ( فبِما رحمةٍ من الله لِنْتَ لهم ولو كنتَ فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في اﻷمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ".
العالم اليوم بحاجة إلى طرق جديدة تعتمد فلسفة البناء والتوحيد وضمن هذا المبدأ يجب علينا البحث لإيجاد حلول حقيقية لجميع المشاكل التي تعاني منها شعوب العالم.
وسوم: العدد 706